نيابة أمن الدولة.. ماذا تعرف عن "أداة القمع الشريرة" في مصر؟
في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرا جديدا تحت عنوان "حالة الاستثناء الدائمة"، يُظهر كيف دأبت نيابة أمن الدولة العليا في مصر على إساءة استخدام قانون مكافحة الإرهاب بشكل روتيني لملاحقة الآلاف من المنتقدين السلميين للحكومة، وتعطيل ضمانات المحاكمة العادلة.
ويكشف التقرير عن دور هذه النيابة وتواطئها في حالات الإخفاء القسري، والحرمان التعسفي من الحرية، والتعذيب، وغيره من ضروب المعاملة السيئة.
ونيابة أمن الدولة العليا هي فرع خاص من النيابة العامة يتولى المسؤولية عن التحقيق في القضايا التي تنطوي على تهديد أمن الدولة.
وتأتي على رأس هيئات القضاء الاستثنائي الذي عرفته مصر منذ يوليو/تموز 1952 وما تزال ترزح تحت سطوته حتى الآن، بالرغم من المبدأ الخامس من المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة، والذي نص على أن "لكل فرد الحق في أن يحاكم أمام المحاكم العادية أو الهيئات القضائية التي تطبق الإجراءات القانونية المقررة، ولا يجوز إنشاء هيئات قضائية، لا تطبق الإجراءات القانونية المقررة".
فماذا عن نشأة نيابة أمن الدولة العليا وما هي صلاحياتها القانونية؟ وما دورها في حالات الإخفاء القسري والاعتقال والتعذيب؟ وما هي أبرز القضايا التي ساهمت في توفير الغطاء القانوني "الكاذب" لها؟
رأس الحربة
تعد نيابة أمن الدولة العليا بمثابة "رأس حربة" القضاء الاستثنائي في مصر، وقد أنشئت في مارس/آذار عام 1953، لتختص بالقضايا السياسية والجنايات المضرة بأمن الدولة، وتتسم معاملتها للمتهمين وذويهم ومحاميهم بانتهاكات متعددة، منها على سبيل المثال:
- توجه لكل من يمثل أمامها تهمة "الانضمام لتنظيم إرهابي الغرض منه تعطيل الدستور القائم".
- ترفض إطلاع المتهم أو محاميه على أوراق القضية أو معرفة أي تفاصيل عن أية وقائع أو أحراز.
- ترفض عمل استئناف على أمر الحبس الصادر منها أو من دائرة التجديد.
- تغض الطرف عن أي انتهاكات حدثت للمتهم من اختفاء قسري أو تعذيب أو خطف ذويه.
- تتخطى حاجز السنتين المنصوص عليهما كحد أقصى للحبس الاحتياطي.
- تمنع حضور محام مع المتهم في التحقيق الأولي، حتى لا يعترض على أية انتهاكات.
- تدرج المتهمين في قضايا جديدة ليستمروا في محبسهم.
باختصار، ووفقا لمركز دعم التحول الديمقراطي وحقوق الانسان "تُعد نيابة أمن الدولة مقبرة لكل من يدخلها، فلا يعرف اتهام محدد له أو أدلة ضده أو يسمح له بتمثيل قانوني وتنتهك جميع حقوقه.
القضاء الاستثنائي
هناك فرق بين القضاء العادي الذي تتوافر فيه ضمانات المحاكمة العادلة، والاستثنائي الذي لا تتوافر فيه هذه الضمانات، فيؤثر على العدالة الجنائية ويقدح في استقلالية السلطة القضائية.
وقد عرفت مصر القضاء الاستثنائي منذ قيام ثورة يوليو 1952، بدءا بـ"محكمة الغدر" التي أنشئت في نفس العام، وكان وزير العدل يعين اثنين من أعضائها، في حين يعين القائد العام للقوات المسلحة أربعة ضباط كبار بها، ثم "محكمة الثورة" "نيابة أمن الدولة العليا" عام 1953، وكانت مشكَّلة من ثلاثة ضباط من مجلس قيادة الثورة.
وجاءت بعدها "محكمة الشعب" عام 1954، وكانت عضويتها تقتصر على 3 من ضباط مجلس قيادة الثورة، ثم "محاكم الطوارئ" التي لا تزال سارية المفعول حتى الآن.
ثم "المحاكم العسكرية" عام 1966، وهي مرتبطة بالقضاء العسكري، وليست لوزارة العدل أي صلة بها، ولا تزال قائمة وتحاكم المدنيين، ثم "محكمة الحراسة" عام 1971، وهناك أيضا جهاز "المدعي العام الاشتراكي" عام 1971، ثم "محكمة الأحزاب" عام 1977، و"محكمة القيم" عام 1980.
وهذا القضاء الاستثنائي ينال، دون شك، من العدالة القانونية بوجه عام، واستقلال السلطة القضائية بوجه خاص، ويؤثر على الضمانات القضائية لحقوق الإنسان.
الأداة الشريرة للقمع
كان هذا هو الاتهام الذي وجهته منظمة العفو الدولية لـ"نيابة أمن الدولة العليا" في مصر، من خلال تقريرها الصادر في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2019 ، وقد دللت عليه باحتجاز نيابة أمن الدولة آلاف الأشخاص لفترات طويلة بتهم ملفقة.
وقال فيليب لوثر، مدير البحوث بمنظمة العفو الدولية: "لقد وسعَّت نيابة أمن الدولة العليا تعريف الإرهاب ليشمل المظاهرات السلمية، والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت بمثابة أداة أساسية للقمع، هدفها الرئيس هو الاعتقال التعسفي للمنتقدين وتخويفهم، بحجة مكافحة الإرهاب".
ووثق التقرير حالات العشرات من المدافعين عن حقوق الإنسان والمنتقدين السلميين للحكومة الذين أحيلوا إلى نيابة أمن الدولة العليا.
وعن تنامي دور نيابة أمن الدولة العليا منذ أن تولى عبد الفتاح السيسي زمام السلطة في مصر، تحدث التقرير عن تزايد عدد القضايا المحالة إلى نيابة أمن الدولة العليا نحو ثلاثة أضعاف، من نحو 529 قضية عام 2013 إلى 1739 قضية عام 2018.
وهذا التصاعد السريع لعدد القضايا المحالة إلى نيابة أمن الدولة العليا جعل بمقدور السلطات إيداع المشتبه فيهم رهن الحبس الاحتياطي على ذمة التحقيقات شكليا، شهورا أو سنوات بلا أدلة، في سياق حملة قمعية غير مسبوقة تتعرض لها حقوق الإنسان في مصر منذ 6 سنوات.
تواطؤ في التعذيب
وعن الاحتجاز التعسفي الطويل الأمد، تبين من تحقيقات منظمة العفو الدولية أن محتجزين أودعوا رهن الحبس الاحتياطي لمدة 345 يوما في المتوسط، بل بلغت مدة الحبس 1263 يوما في إحدى الحالات.
فقد ظل مراسل قناة الجزيرة محمود حسين المتهم ببث أخبار كاذبة رهن الاعتقال منذ 23 ديسمبر/كانون الأول 2016، وحتى تجديد حبسه مرارا، حتى صدر أمر قضائي بالإفراج المشروط عنه في مايو/أيار 2019. غير أن نيابة أمن الدولة أمرت بحبسه مرة أخرى بتهم جديدة.
وسلط التقرير الضوء على تواطؤ نيابة أمن الدولة العليا في الإخفاء القسري والتعذيب، بتقاعسها بصفة معتادة عن التحقيق فيما يرد إليها من ادعاءات عن وقوع مثل هذه الانتهاكات، كما أنها تقبل اعترافات انتُزعت من المتهمين تحت وطأة التعذيب باعتبارها أدلة في المحاكمات.
بل حُكم على بعض المتهمين بالإعدام فيما بعد، وأعدموا بالفعل، استنادا لهذه الأدلة. ويوثق التقرير 112 حالة من حالات الاخفاء القسري لفترات بلغت في بعض الحالات 183 يوما، من بينها المحامية المدافعة عن حقوق الإنسان هدى عبد المنعم التي تعرضت للإخفاء القسري لمدة ثلاثة أشهر.
ويكشف النقاب أيضا عن تقاعس نيابة أمن الدولة العليا عن التحقيق في 46 من حالات التعذيب التي وثقتها منظمة العفو الدولية، ومنها حالة إسراء عبد الفتاح التي أبلغت نيابة أمن الدولة بأن ضباط قطاع الأمن الوطني قد اختطفوها، وضربوها، وعذبوها، بما في ذلك محاولتهم خنقها.
تهديد وخداع
كما تقاعست نيابة أمن الدولة العليا بصفة معتادة عن إبلاغ المتهمين بحقوقهم، وحرمانهم من الاتصال بمحامين، وإخضاعهم للاستجواب القسري، بما في ذلك إبقاؤهم معصوبي الأعين، واحتجازهم في ظروف غير إنسانية، وتهديدهم بإعادتهم لقطاع الأمن الوطني ليواجهوا التعذيب والاستجواب.
وقال فيليب لوثر: "لقد سعت السلطات المصرية على الصعيد العالمي لتبربر عملية قمعها لحرية التعبير بزعم تصديها لـ"الإرهاب"، ولا ينبغي للمجتمع الدولي أن ينخدع بهذه التصريحات الرنانة الخادعة".
واختتم فيليب لوثر قائلا: "يجب على الحلفاء الدوليين لمصر ألا يضحوا بمبادئهم الخاصة بحقوق الإنسان من أجل العلاقات التجارية والأمنية، ويجب عليهم ممارسة الضغط على السلطات المصرية لحملها على إصلاح جهاز نيابة أمن الدولة العليا، والإفراج عن جميع المعتقلين".
قضايا الثقب الأسود
أصدرت المفوضية المصرية للحقوق والحريات، تقريرا بشأن القضية رقم 488 أمن دولة، والتي ترجع أحداثها إلى مارس/آذار 2019، عندما دعا الإعلامي معتز مطر المواطنين إلى إحداث ضوضاء جماعية كنوع من الاحتجاج السلمي، لتتحول القضية إلى ثقب أسود يبتلع الجميع.
ومن أبرز المحبوسين فيها القيادي كمال خليل، والصحفي خالد داود، والصحفية إسراء عبد الفتاح، والصحفية سلافة مجدي وزوجها حسام الصياد، و د.حازم حسني، و د.حسن نافعة، وآخرون.
ومن أهم القضايا الأخيرة لنيابة أمن الدولة: القضية 977 لسنة 2017 حصر أمن دولة (مكملين 2)، القضية 440 لسنة 2018 حصر أمن دولة (أبو الفتوح وآخرين)، القضية 441 لسنة 2018 حصر أمن دولة (الدوامة)، القضية 467 لسنة 2018 أمن دولة (سالب 1095).
إضافة إلى: القضية 482 لسنة 2018 أمن دولة (كفاية)، القضية 621 لسنة 2018 أمن دولة (النشطاء)، القضية 718 لسنة 2018 أمن دولة (المترو)، القضية رقم 734 لسنة 2018 أمن دولة (حازم عبدالعظيم )، القضية 1305 لسنة 2018 حصر أمن دولة (معتقلي العيد).
رضيعة أمام النيابة
فمن ينسى هذه الطفلة التي تبلغ من العمر 14 شهرا فقط، والتي ظلت مختفية قسريا لمدة تسعة أيام، قبل أن تظهر في نيابة أمن الدولة العليا بالتجمع الخامس، بحضور والدتها وغياب والدها وخالها.
وكانت الطفلة عالية مضر قد تم إخفاؤها قسريا مع والدتها فاطمة محمد ضياء الدين موسى ووالدها عبدالله مضر وخالها عمر محمد ضياء الدين، في 24 مارس/ آذار عام 2018.
وأكدت شقيقة عبدالله ظهور الطفلة عالية ووالدتها فقط في نيابة التجمع الخامس، مع استمرار اختفاء والدها وخالها وعدم معرفة الأسرة أي معلومات عنهما.
وقالت مريم مضر: "عُرضت ابنتنا فاطمة موسى وطفلتها الرضيعة أمام نيابة أمن الدولة بالتجمع على ذمة القضية رقم 441 أمن دولة، وقد وجهت لها اتهامات انضمام لجماعة ارهابية ونشر أخبار كاذبة وقد قررت النيابة استمرار حبسها في سجن القناطر".
واتهمت منظمة العفو الدولية في تقريرها السلطات المصرية أيضا باستخدام "نظام قضائي مواز" لقمع أي معارضة للرئيس عبد الفتاح السيسي، وقالت كاتيا رو من فرع المنظمة في فرنسا، في مؤتمر صحافي أثناء عرض التقرير: "في مصر، الوضع يزداد سوءا والقمع يزداد تصلبا"، وأشارت إلى أنه "في مصر السيسي، كل معارضي الحكومة يعتبرون إرهابيين محتملين".