محتوى تافه.. هكذا تتحرك الدولة ضد "اليوتيوبرز" في المغرب

12

طباعة

مشاركة

"روتيني اليومي" أصبحت العبارة الأكثر تداولا في الأيام القليلة الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي شفرة يستخدمها ناشطون مغاربة للسخرية فيما بينهم في إشارة إلى الحملة التي يشنونها على فتيات يقدمن مقاطع فيديو توصف بـ"التافة".

الناشطون دشنوا مجموعة على موقع "فيسبوك" باسم "محاربة القنوات التافهة على اليوتيوب" يدعون خلالها إلى التبليغ عن القنوات التي تقدم محتوى غير مناسب حتى يتم حذفها من طرف إدارة الموقع.

الغضب على هذه القنوات وأصحابها أشعلته إحدى المدونات التي استغلت فرصة وجود شقيقتها في إحدى المستشفيات الخاصة لوضع مولودتها وصورت مقطع فيديو كمقلب لزوج أختها، بعد أن أحضرت مولودة ذات بشرة داكنة وقدمتها له على أنه مولودته الجديدة، فرد الزوج: "أنا لا أنجب مثل هذا الشيء".

لم تتردد المدونة في نشر الفيديو عبر قناتها على "يوتيوب" فلاحقتها اتهامات بالعنصرية قبل أن تعتذر، وطالب الناشطون بمحاكمتها والمتسشفى التي لم تشدد المراقبة على المواليد الجدد.

جدار الخصوصية

يشارك ما يقارب 44 ألف ناشط على "فيسبوك" في مجموعة "محاربة القنوات التافهة على اليوتيوب" التي تأسست قبل أسبوعين. ينخرط المشاركون في حملات يطلقها مؤسسو المجموعة في ساعات محددة للتبليغ عن إحدى القنوات أو الحسابات التي يتم التصويت عليها على الصفحة.

يعرّف المؤسسون مجموعتهم، على الصفحة، بأنهم يحاولون جاهدين محاربة التفاهة المنتشرة على "يوتيوب"، ولقيت الصفحة تفاعلا كبيرا كشف عن حالة غضب بين الناشطين من المحتوى الذي يُقدم.

يتمحور هذا المحتوى حول الحياة اليومية لمقدميه، وتحديدا السيدات، اللائي يصورن أدق تفاصيل حياتهن من طريقة تنظيف البيت أو العناية بالشعر والبشرة بدعوى أنهن يقدمن نصائح مفيدة للمشاهدين. تبدأ المدونة بتقاسم تفاصيل عن حياتها وتُشرك المتابع في خلافاتها الأسرية، ما يُشبع فضوله لاختراق الحياة الخاصة للآخرين، فيجعل عدد المشاهدات يزيد.

نجاعة التكتيك المتبع بين المدونات في المغرب ظهرت عندما وجهت إحداهن دعوة مفتوحة لمتابعيها لحضور افتتاح مشروعها الجديد، فتوافد الآلاف على المكان ما خلق أزمة أمنية صعُب التعامل معها.

ولفت المتخصص في الإعلام الجديد، غسان بن شيهب، إلى أن ما يسميه الناشطون بـ"التفاهة" موجود في كل الدول، ولكن بعض المغاربة يحاربونه بدافع أخلاقي.

ويرى المتحدث لـ"الاستقلال" أن حل الأزمة يكمن بالإكثار من نشر المحتوى الذي لا تراه هذه الفئة "تافها" حتى يكون هناك تنوع. وبيّن المتخصص أن تصدر الأعلى مشاهدة ليست مقتصرة على أحد دون غيره.

يقول علماء النفس إن الحاجة لمساحة خاصة هو جزء من التكوين البشري، لكن في سبيل الشهرة يضحي صانعو المحتوى بهذه المنطقة الآمنة التي تتيح للشخص أن يكون على طبيعته، وهي "منطقة توفر عزلة صحية تتيح ترتيب الأفكار والتواصل مع الذات واستعادة التوازن"، بحسب المعالجة النفسية، بينيت غلومان، صاحبة مؤلف "الكيمياء العاطفية".

وأوضحت غلومان أن اختراق وتعدي هذه المساحة يترك الفرد في حالة من اللا توازن، ويؤثر على قدرته على التواصل والعطاء. أما من يمنح نفسه الحق في التدخل فهو يعاني من انعدام الإحساس بالهوية، فيلجأ إلى رسم هويته وقيمة ذاته بمحيطه.

واعتبرت المعالجة النفسية أن الذين لا يضعون الحدود ويتدخلون بالآخرين، يعانون من اضطرابات في الشخصية، ولأن الخصوصية جزء لا يتجزأ من كيان الفرد، فإن تعريفها يختلف من شخص لآخر، فما تراه أمرا عاديا، يعتبره آخرون صندوقا سريا.    

تحرك الدولة

تفاهة المحتوى جعلت قناة "فرانس 24" تعد تقريرا عن الموضوع، قالت فيه إنه يلقى انتقادات واسعة لكنه في الوقت نفسه يحصد عددا كبيرا من المشاهدات. وأشارت إلى وجود مطالبات بتدخل الدولة لمراقبته. 

هذه الدعوات استبقتها الدولة في عام 2018 عندما أصدرت المديرية العامة للضرائب بلاغا قالت فيه إن المدونين على مواقع التواصل الاجتماعي سيدفعون 5 بالمئة من دخلهم على كل إعلان ينشرونه وأي محتوى تلقوا عليه مقابل ضمن قانون "الضريبة على الدخل". 

ومع الحملة التي أطلقها الناشطون، راسل مكتب الصرف التابع لوزارة المالية والاقتصاد عددا من المدونين لمطالبتهم بالإسراع في تسوية وضعيتهم القانونية والمالية، وذلك قبل نهاية السنة الجارية.

"اليوتوبرز" مطالبون بإثبات طبيعة الخدمات التي تم تقديمها وتلقوا أموالا مقابلها، وأداء النسب القانونية من تلك الأموال لخزينة الدولة. وبحسب المكتب، يهدف القرار الصادر عن المؤسسة العمومية إلى ضبط حركة الأموال الأجنبية التي تدخل إلى المغرب كمقابل لخدمات إعلامية أو إعلانية تتلقاها شركات أجنبية من أشخاص مغاربة.

من جهتها أثبتت صحيفة مغربية أن مداخيل المدونين الشهرية تتجاوز 5 ملايين سنتيم - ما يعادل 5 آلاف دولار شهريا- ، في حين قدرت الصحيفة رقم معاملات القطاع بأزيد من 10 مليارات سنتيم.

وذهبت مصادر إعلامية إلى تفسير القرار بأنه هاجس أمني، وتحديدا تتبع الأموال التي يتلقاها مغاربة من الخارج نظير خدمات إعلامية أو إعلانية يقدمونها لشركات أجنبية، باعتبار أن التحويلات المالية التي تنفذها شبكات تبييض الأموال والتنظيمات الإرهابية لفائدة أعضائها وأتباعها في المغرب مرتبطة بعمل المؤسسات المالية.

ما هدفها؟

المتخصص في الإعلام الجديد، هيثم سعد، له رأي مختلف، فهو يرى أن إعلام الأنظمة المستبدة أدرك مدى أهمية "الترند" فقرر الظهور في الصورة لمعالجة الموضوع بشكل سريع.

وفسر المتحدث لصحيفة "الاستقلال"، في تصريح سابق، كيف تتعقب اللجان الإلكترونية أو الحسابات الوهمية أي ترند عن النظام يتصدر مواقع التواصل الاجتماعي ثم تطلق ترندا مضاد له بل ويتم الترويج له إلى أن يغطي على الترند الأول.

تهدف الأنظمة، التي تمسك بمواقع التواصل الاجتماعي وحسابات المواطنين بقبضة من حديد - سواء عبر الحسابات الوهمية أو أنظمة التجسس - إلى التحكم في المحتوى الرائج على هذه المواقع والحرص على أن لا يتبنى أي رواية أو رؤية مخالفة لتوجهها، وهو امتداد للديكتاتورية التي تمارس في حق الشعوب على الأرض.

لكن المتخصص المغربي في الإعلام الجديد، غسان بن شيهب، نفى أن تكون الحملة منظمة وأن يكون وراءها منافسون، بل هو رد فعل عفوي من قبل ناشطين عاديين شكلوا "رأي عام مؤقت"، وهو مصطلح يستخدم في السوشيال ميديا يعني اهتمام المستخدمين بقضية معينة لفترة معينة ثم تنسى وتنتهي.

واستبعد في حديث مع صحيفة "الاستقلال" أن يكون تحرك الدولة قد أتى استجابة للحملة، وإنما هي قررت أن يتم فرض الضرائب وجرى تدارس القرار من قبل. ويعتقد ابن شيهب أن مراسلة مكتب الصرف لـ"اليوتيوبرز" ما هو إلا استغلال لفرصة النقاش العام وغضب الناشطين على المحتوى الذي يتم تقديمه. 

ونفى المتخصص في الإعلام الجديد أن يكون غرض الدولة هو التحكم في المحتوى أو الحد منه، وقال إن النقاش الذي تثيره هو نقاش ضرائب، وهذا سيجعل "اليوتيوبرز" ينتجون بكثافة أكثر حتى يرفعوا مداخيلهم وليس العكس.

بناء المجتمع

التضييق على "اليوتيوبرز" لا تمارسه الدول والناشطون فقط، بل موقع "يوتيوب" نفسه، الذي أعلن عن فرض شروط أكثر صرامة على صناع المحتوى، سيجعل تحقيق الربح من الفيديوهات التي ينشرونها في قنواتهم أكثر صعوبة، خاصة بالنسبة للناشرين الجدد. 

ومن صلاحيات الموقع الجديدة إزالة خيارات كسب المال من الإعلانات في الفيديوهات التي يرى المواقع أنها "غير ملائمة للمعلنين"، وضمن شروطه الجديدة يلزم الموقع المدون بأن لا يقل عدد المشتركين عن ألف مشترك، وأن يكون أكثر من أربعة آلاف ساعة من محتوى القناة قد شوهد خلال السنة الماضية، وأن يمتلك صاحب القناة عشرة آلاف مشاهدة.

وقالت إدارة "يوتيوب": إن شروطها الجديدة ستتيح التعرف على منشئي المحتوى الذين يساهمون بشكل إيجابي في بناء المجتمع، ويساعدون في تحقيق المزيد من العائدات الإعلانية بعيدا عن المحتوى المسيء.

وكانت الشركة بدأت خلال الأسابيع القليلة الماضية إرسال تنبيهات إلى صناع المحتوى تخطرهم بالتعديلات الجديدة، لكن هذا ساهم في إلقاء الضوء على الأسباب الفضفاضة التي اختارت الشركة أن تكون مبررا لمنع نشر الإعلانات في الفيديو.

من جهته يرى غسان بن شيهب أن هناك محتوى هادف وآخر تافه، والمستقبِل هو من يصنف ما يتلقاه، حسب اهتماماته وما يُمتعه.

وقال المتحدث: إنه ينبغي عزل المحتوى عن التوصيف أو التقييم، حتى يصنع كل ما يتقنه، وهذا الاختلاف هو ما يضمن الاستمرارية.

أما إذا منحت بطاقة الرقابة والمنع للدولة فقد تستخدمها اليوم ضد المحتوى (التافه) وغدا ضد آخر (هادف) لا يناسبها.

وكان تطبيق "إنستجرام" سباقا للفكرة إذ بدأت إدارته بتطبيق قرار حجب الإعجابات عن منشورات المستخدمين، وفعّل التطبيق الحجب بشكل تجريبي على حسابات عدد من المستخدمين في بعض الدول، على أن تعمم التجربة على كافة المستخدمين في الدول الأخرى.

إذ لن يتمكن سوى صاحب الحساب من رؤية عدد "اللايكات" التي تسجلها منشوراته، ولن تظهر على شكل أرقام وإنما سيتمكن من معرفة عدد المعجبين عبر إحصائهم.

وتحدثت إدارة التطبيق عن جعل ذلك أكثر أمانا للمستخدمين، من الناحية النفسية -خاصة من فئة الشباب والمراهقين- من أجل إتاحة الفرصة للتركيز على المحتوى وليس عدد الإعجابات التي جمعها، وتجنب الاهتمام بعقد المقارنات معها.

فهل تكثف مواقع التواصل الاجتماعي جهودها للرفع من قيمة المحتوى على منصاتها، بعرض "بناء مجتمع" هدمته بعد أن أفشت ثقافة "اللايك" والمتابعة مقابل أي شيء؟