إنقاذ الرأسمالية.. من أجل الأغلبية
كتاب جيد كنت قد قرأت عنه عدة تقارير صحفية منذ عامين، ولكن انتبهت له مرة أخرى عندما صدرت حوله عدة أفلام وثائقية، إنه كتاب "إنقاذ الرأسمالية" لروبرت رايش، وهو أستاذ السياسة العامة والاقتصاد في جامعة كليفورنيا-بيركلي، وأيضا شغل منصب وزير العمل في عهد تولي بيل كلينتون رئاسة الولايات المتحدة الامريكية، الذي حاول الضغط من الداخل لاتخاذ إجراءات بهدف تحقيق المزيد من العدالة وتقليل التفاوت بين الرواتب في الولايات المتحدة.
هو كاتب محسوب على تيار "الطريق الثالث" الذي يفضل العمل من داخل المنظومة وإجراء إصلاحات قد تبدوا محسوبة على التوجه الاشتراكي أو بمعنى أصح كبديل ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية، بهدف جعل النظام الرأسمالي أكثر عدالة وأقل توحشا.
كان "روبرت رايش" يرى أنه كانت هناك فرصة في عهد "كلينتون" لتحقيق التنمية المنسجمة مع العدالة، وتحقيق نمو مع إشراك الناس في هذا النمو. في عهد كلينتون كانت هناك إجراءات كثيرة لتقليل الفارق الشاسع بين الرواتب؛ المديرون التنفيذيون يتقاضون رواتب بملايين الدولارات وأيضا يحظون بإعفاءات ضريبية، فى حين أن رواتب الموظفين العاديين عدة آلاف ويدفعون رواتب ومستقطعات ضخمة، مثل الإعفاءات الضريبية للاستثمارات الضخمة بحجة تشجيعها.
وبالطبع لم تعجب هذه الإجراءات قطاعات عديدة ووزراء داخل نفس الحكومة، فقاوموه بشدة وعرقلوا الكثير من مجهوداته التي كانت تسعى لمزيد من العدالة.
الكاتب يتحدث من منطلق إنقاذ الرأسمالية نفسها وليس استبدالها نظام اشتراكي أو ما شابه، وفي وجهة نظره فالرأسمالية الآن تدمر نفسها بنفسها، وإنقاذها سيكون عن طريق جعلها تعمل لصالح الأغلبية وليس الأقلية كما هو الحال. فالنظام العالمي الآن يدعم الرأسمالية الحرة بشكل مطلق، التي لا يجوز التدخل فيها، كما أن النظريات النيوليبرالية (التي بدأت مع تاتشر وريجان والمحافظين الجدد) يروجون لضرورة ابتعاد الدولة وعدم تحكمها في الاقتصاد ورؤوس الأموال. فحرية انتقال رؤوس الأموال تؤدي إلى ازدهار الاستثمارات وظهور فرص العمل وزيادة الدخل، تحقيقا لنظرية آدم سميث بأن رؤوس الأموال لا بد أن تكون حرة وأن الرأسمالية تصحح نفسها بنفسها.
ولكن الكاتب يزعم أن ما يحدث يختلف عن ذلك، فلا يوجد الآن اقتصاد حر بالمعنى الذي يتم تسويقه، بل هناك قلة تضع القوانين وقواعد اللعبة. وفي حقيقة الأمر هناك مجموعات لا تمثل إلا 1 % من المجتمع هي التي تضع قواعد السوق والاقتصاد الذى يتم تطبيقه على 99% من البشر.
في واقع الأمر لا يوجد ما يسمى السوق الحرة من الأساس، فمن الذي يضع قواعد اللعبة وقوانين السوق الحرة؟
الضرائب والاستقطاعات والموافقات والتصاريح وقواعد التجارة والاستثمار، قواعد إشهار الافلاس هي مثال على ذلك؛ فهي مسموح بها للأغنياء والمؤسسات الكبرى والبنوك ورجال الأعمال من أجل إنقاذ أنفسهم، في حين أنها غير قانونية على صغار المستثمرين أو المتعثرين أو العاجزين على سداد أقساط المنزل والسيارة والقروض الصغيرة، فهؤلاء مصيرهم السجن.
أما اهتمامات الناس وأولوياتهم لم تتغير منذ عشرات السنين، مطالب الأغلبية بسيطة وهي أن يعيشوا في أمان، وقواعد السوق تصب في مصلحة القلة الحاكمة، النظام العالمي يجعلك تسير مثل "الثور في الساقية" تدور حول نفسك وتوصل الليل بالنهار في العمل من أجل قسط السيارة وقسط الشقة الأكبر وقسط المدارس، ثم تبحث عن عمل إضافي لسداد قروض جديدة ترتبت على القروض السابقة والتأخر في سدادها.
الاقتصاد العالمي ينمو، ولكن في الوقت ذاته تتضاءل الرواتب وتقل فرص العمل وتتآكل الطبقة الوسطى وتزداد الفجوة، والثروة تتراكم إلى الأعلى، تدعم أصحاب السلطة فتزداد السلطة قوة وتزداد دعما لأصحاب الثروات، اللوبييات ومراكز الضغط هم من يتحكمون في البرلمان ويدعمون أسماء ووجوها لتكون في مراكز صنع التشريعات، فيصنعون تشريعات لحماية استثماراتهم. الكاتب يحيل ذلك إلى ما يسمى "وثيقة باول"، التي أصدرتها الغرف التجارية والشركات الكبرى في الولايات المتحدة 1971 التي تتحدث عن ضرورة التحكم في مراكز القوة والتشريع ووسائل الإعلام وأيضا النقابات.
الشركات الكبرى وجماعات الضغط الموالية لها هي من يحكم العالم، يقومون بشراء القوة السياسية والسلطة عن طريق تمويل الحملات الانتخابية للمرشحين والتحكم بهم بعد فوزهم، تمويل المراكز البحثية وتحويل مسار تقاريرها وإصداراتها، بالإضافة لشركات العلاقات العامة الكبرى التي تستطيع تلميع وتجميل وتسويق كل ما هو فاسد، بل وأيضا مراكز استطلاعات الرأي والإحصائيات. وهناك أيضا سياسة الباب الدوار، بأن يصبح المسؤولون الحكوميون السابقون أو أعضاء الكونجرس والمجالس التشريعية كأعضاء في جماعات ضغط لما لهم من خبرة سابقة فى تحقيق مصالح معينة.
جماعات الضغط تنفق ميزانيات ضخمة على مصالحها ومصالح الأقلية من رجال الأعمال والشركات الكبرى، أكثر بـ30 ضعفا مما تنفقه النقابات والجمعيات التي تتحدث عن المصلحة العامة ومصلحة الأغلبية، فنسبة نجاح جماعات الضغط والشركات الكبرى في تمرير القوانين هي الأعلى مهما كانت المعارضة الشعبية.
أما القرارات التى يتحفظون عليها فلديهم أيضا قوة عظمى لمنعها مهما كان التأييد الشعبي لها، في حين أن نسب إصدار التشريعات المفيدة للصالح العام تعتبر ضئيلة بشكل عام، لأن في آخر المطاف تستطيع الشركات الكبرى شراء ذمم أغلبية صانعي التشريعات، وشركات الأدوية الكبرى التي تستطيع عرقلة تشريعات التأمين الصحي هي خير مثال على ذلك.
في نهاية الطرح يرى الرجل أن دونالد ترامب وبيرني ساندرز وجهان لعملة واحدة، وهي الشعبوية وإن كانا يروجان لخطابان وسياسات متضاربة، فعندما يشعر الناس بالغضب والخوف من الوضع الحالي يهرولون إلى أصحاب الخطاب الشعبوي، إلى الرجل القوى كما في حالة ترامب، حتى لو كان ذلك ضد الديمقراطية. أو إلى الرجل الذى يدغدغ المشاعر ويأسر القلوب ويعيد الأحلام الوردية بالإصلاح الشامل وتغيير النظام بالكامل كما في حالة بيرني ساندرز، فالناس فى حالة الغضب والإحباط تكفر بالمؤسسات القائمة وتنجذب إلى من هو من خارج المنظومة القائمة ومن يعد بالإصلاح الشامل.
وهو يؤمن كذلك بأن الناس قادرون على تغير قواعد اللعبة، جماعات الضغط تملك الأموال الطائلة، ولكن لو اتحد الناس ونسقوا الجهود يستطيعون تغيير قواعد اللعبة. العبودية كانت من المسلمات منذ أكثر من قرن، حتى بعد إلغائها ظل الاضطهاد العنصري والتمييز قائم بحكم القانون، لم يتغير إلا بالنضال طويل المدى والتضحيات وطول النفس.
السؤال الذي دار في ذهني عند مشاهدة تلك التقارير عن الكتاب، إذا كان هذا هو الحال في الدول الرأسمالية وكيف أن ضبط السوق وتدخل الحكومة واتخاذ سياسات العدالة الاجتماعية قد أصبح ضرورة من أجل منع الانفلات والفوضى وانهيار النظام الرأسمالي برمته؛ فما هو الحال والحل في بلادنا التي تتجه إلى نماذج أكثر توحشا في درجة الرأسمالية؟
من المفترض أن تكون الحكومات هي من تحقق العدالة وتضمن عدم حدوث المحسوبية وتعمل لصالح الأغلبية، ولكن كيف يكون الحال إذا كانت الحكومات تعمل لصالح المحسوبية والأقلية الثرية، أو لصالح طبقة عسكرية صاحبة امتيازات، وليس الأغلبية المطحونة؟