من كل جهات المدن الخرسا
الجموع كأنها يوم الحشر، القلوب تنتفض وتشعر كأنك تراها، العيون تدمع ولا تدري أمِن سكينة أم من خوف، الألسنة تتوحد كأنها لسان واحد رغم أن أصحابها ملايين، الأرض تنطق بالفصحى، رغم محاولات الـ"فرنَسة"، الأرض بتتكلم عربي لأول مرة منذ زمن بعيد، وكل هؤلاء بلا استثناء أتوا اليوم ورموا خلفهم مظان التحضر، مدركين أن الثورة فعل الحقيقة، وأنها مركب طبيعي يزيل مساحيق التجميل، ويرد الأمر إلى أهله؛ باريس في فرنسا، لا في الجزائر.
هنا الجزائر، وهذا هو شارع "ديدوش مراد"، وهؤلاء هم الجزائريون يهتفون، وأنت تتوقع أن أقول إنهم يهتفون ضد بقايا النظام المعزول، ضد ذوي تفليقات أخريات، أو يهتفون ضد الانتخابات المزيفة، أو يهتفون لصالح ثورتهم القديمة المتجددة، لكنني سأخيب ظنك، وأقول لك، إن الهتاف لمصر: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والسيسي عدو الله".
المكان: بيروت، الميدان: رياض الصلح، العنوان: كلّن يعني كلّن، المناسبة: يقولون هناك ثورة، وهؤلاء هم الثوار، وهذا هو الليل في عاصمة بلادنا الرقيقة، حين تتزين بالأحمر، كأنها كل يوم في "حِنة"، وتشعر أن الزفاف قريب، فلم ترض بأن تنتظر حتى يُعلن موعد الفرح، ولا حتى يُعقد القرانان، وإنما نصَبت الصُّوان، ونزلت إلى الساحة وجعلت منها قاعة، ودعت الشعب كله، وقالت أنتم أصحاب الفرح، وأنتم المعازيم، أنتم فرقة إحياء الليلة، وأنتم السادة الحضور، أنتم إخوة العروس، وأنتم جيران العروس، أنتم مصففة شعرها، وأنتم مقطوعات نشيدها وأبيات شِعرها، أنتم الناس، وأنتم العروس بشحمها ولحمها، يقف الجميع، وتشرئب الأعناق كأنها تتعجل الفجر، تقول للنصر: هلم إلينا، ويغمز لها النصر، فكل إنسان يفهم في الذوق يعرف أن بيروت يُغمَز لها، ويُكتب فيها الغزَل.
الواقفون يغنون معا، يهتفون بصوت واحد، يقولون واللهجة ليست لبنانية، والأغنية ليست لبنانية: "قلناها زمان للمستبد، الحرية جاية لا بد، "ليبيرتا" كانت مكتوبة، يا حكومة بكرة هتعرفي، بإيدين الشعب هتنضفي، والآية الليلة مقلوبة»!
الأغنية مصرية، وصاحبها "أولتراس أهلاوي"، والهتاف كأنني أسمعه بصوت لبناني رقيق: من بيروت هنا القاهرة، من بلاد الأَرز هنا بلاد المانجة، من الساحة هنا الميدان، من رياض الصلح هنا عبدالمنعم رياض!
في الشاشة، صورة من الداخل السوري -وصرنا نقول "الداخل السوري" بدلا من سوريا، كأن وجود أحدٍ بالداخل السوري ضرب من ضروب الخيال، أمر غير عادي، بطولة خارقة، أو حدث نادر-، الشبان واقفون كأنهم ذكرى هاربة من الماضي، يقولون إننا لا زلنا هنا، ولا زال علم الاستقلال يرفرف عاليا.
هل كانت الصورة تقول يسقط بشار؟ الحياة لسوريا؟ الموت لروسيا؟ كلا، كانوا يحملون أعلام مصر ولبنان والعراق، يقولون: من إدلب كلنا معكم. كأنهم أختنا الصغيرة التي فعل بها الزمان ما فعل، لكنها لا تنسى أن تذكُرَنا، ولا تغفل أن تذكِّرنا أنها لا زالت على قيد الحياة، وأنها إلى الأبد ستبقى "صاحبة واجب"، تعزي حين نحزن، وتواسي حين نسخط، وتقوّي حين نقوم.
"الله أكبر"، تتوسط العلم، والله أكبر على من يحمل العلم، والله أكبر على من يحاول أن يسقطه بإسقاط حامله بالرصاص، صورة الجسر تذكرنا بجسرنا، وبدلا من أسدي قصر النيل، هناك أسود نهري دلجة والفرات. صورة البشر أمام الآلة تذكرنا بنا حين كنا في الموقف ذاته قبل ثمان سنوات، العلمان متشابهان، عندهم ذِكر وعندنا نسر، الوجوه الخمرية والملامح السمراء تكاد تكون واحدة، العيون بها أمل ودموع، بها رضا عن العيال الذي تأخروا لكنهم قاموا، وبها غضب على الجنود الواقفين في المقابل.
يمنعون الجنين من أن يسلك إلى الدنيا طريقه، نزل رأسه إلى العالم فصرخ وتنفس، لكن العساكر وقفوا كالعقدة في المنشار وسط عملية الولادة، فصارت الأم بين الحياة والموت، وصار الجنين بين الموت والحياة، وهي تفيق ويغشى عليها، وهو يصرخ ويهتف، لكنهم يمنعونه من أن يتقدم، لا يسمحون لجسمه بأن يطأ الدنيا، ولا يسمحون لقدميه أن تخطو خارج الرحِم، ويخنقون الرحم بالجنين والجنين بالرحم، حتى يؤدبوا الأم ويجعلوا لها اليوم عبرة، إذا فكرت في الولادة غدا. لكنها ستعود وتلد.
الرجال واقفون رجالا، والصبايا واقفات أشد صلابة، كأن الذكور استعرن من الإناث عنادهن، وكأن الإناث استعرن من الرجال عضلاتهم، والملحمة دائرة، والمعركة يصّاعد غبارها، والقناصة لا يفرغ حشوها، رصاصها ممتد بين الأزل والأبد، لكن الشبان يُقسمون أن عددهم أكبر من عدد طلقات العالم كله، سيفنى الرصاص ويبقون.
وسط هذا كله ترى من بعيد، وجها قريبا كأنك تعرفه، عروقا في يد كأنك تمسكها، ورقة كأنها مقطوعة من دفترك أنت، مكتوبة بخط يشبه خط أبيك، ملتقطة بزاوية تشعر أنها الزاوية التي يرقد فيها سريرك بغرفتك، وعلى الورقة: من بغداد، ما ناسينك يا سيسي!
يا رجل! مَن طلب منك وأنت مهدد بالموت أن تتذكرني! وأنا المطالَب بأن أتذكرك وأذكرك ولا أنساك ساعة وأنتم في يوم ساعته بسنة!
لم ينسوا –رغم سيسيهم- سيسينا، بسرِّه الباتع، وصِيته الذائع، وذِكره الممتد من أقصى بلادنا إلى أقصاها، فرد عليهم المصريون من كل بقاع الدنيا، من الداخل المصري، والخارج المصري، من الشتات والبلاد، يقولون: من كل عواصم الأرض، هنا بغداد.
من السودان، غنّى السمر الشداد لمصر، كأنهم يصدقون على الشيخ إمام حين قال: يا شعب مصر يا خم النوم، ماتقوم بقى وتشوفلك يوم، دا الثورة قامت في الخرطوم! فكأن الشباب يقولون: والله أجل، قامت في الخرطوم، ومن جديد، عقبال القاهرة.
من المغرب هتفوا للجزائر، من الجزائر هتفوا لتونس، من تونس هتفوا لمصر، من مصر هتفوا للسودان، من السودان هتفوا لليبيا، من طرابلس ليبيا هتفوا لطرابلس لبنان، من طرابلس لبنان غنوا لبيروت، من بيروت غنوا للعراق، من العراق غنوا لليمن، من اليمن غنوا لسوريا، من سوريا غنوا لسوريا، وللعالم، من العالم غنوا جميعا نشيدا وطنيا واحدا، من كل نشيد وطني لكل بلد أخذوا بيتا، وأكملوا القصيدة، وجعلوا من الأعلام كلها علما واحدا، فيها نسر يقف على شجرة أرز، وفوق شجرة الأرز هلال، ونجمة كبيرة، وبجوارها ثلاث نجمات صغيرات، حتى إذا مر العابرون ورأوا المشهد بهذا الإبداع، قالوا بلسان عربي مبين: الله أكبر!
إنها حالة، ظاهرة تستوجب الدراسة، عن كيف تقوم الحدود في مائة عام وتهدمها الشعوب في دقيقتين، كيف تقوم الحدود باتفاقيات من آلاف الصفحات، وتحرقها الشعوب في كلمة واحدة، كيف يجعلون الوطن العربي بلادا عربية، وتجعلها الشعوب وطنا عربيا واحدا.. كيف تتحرر الشعوب من قوميتها إلى وطنيتها، ومن حدودها إلى امتداداتها، ومن أراضيها المختلفة إلى السماء المأتلفة، ومن جغرافيتها الصغيرة إلى موقعها من الوطن الكبير.
الآن أعود وأتذكر أغنية "الحلم العربي"، أسمعها الآن، وفي نفسي شيء مختلف، بعدما كنت أسمعها في كل مرة: "المستحيل العربي" والآن صرت أسمعها لأول مرة: "الممكن العربي".