الطائف والطائفة.. حدود الانتفاضة اللبنانية
تضغط الجماهير اللبنانية على الفراغ وتواجه لا أحد. في الواقع هي تخوض مواجهة غير معلنة مع "اتفاق الطائف"، الوثيقة التي أنهت الحرب الهجينة ووضعت مستقبل الدولة اللبنانية على الحافة على مر الأيام. أمام هذه الانتفاضة الجماهيرية طرق عديدة لتسلكها منها أن تصير إلى ثورة، بما سيعني قطيعة تاريخية مع الطائف والمناداة بعقد اجتماعي جديد يتجاوز معادلات زمن الحرب والطوائف. التكوين القطاعي للمجتمع اللبناني قد يحول دون توغل الانتفاضة أكثر، وأن تتخلق منها ثورة شاملة. فلا توجد صيغة معينة، راهنا، بمقدورها أن تحل مكان اتفاق الطائف. المثقفون اللبنانيون المؤيدون للانتفاضة هم، في نهاية المطاف، مثقفون قِطاعيون.
بينما يقف الساسة اللبنانيون بخجل أمام مشهد هو، في تقديرهم، أقرب إلى العتاب الجماهيري منه إلى الثورة. كل مثقف يعبّر عن حاجة وخيالات فئة ما بصرف النظر عن حجمها في الفراغ، وبالضرورة فهو مثقف قطاعي.
المتظاهرون هم أيضا قِطاعيون، وسيمكثون في أماكنهم ما بقيت الانتفاضة في حدودها الدنيا. وإذا ما حددت الانتفاضة مركزا معينا لهجومها، مثل اتفاق الطائف، الطائفية، أو الميليشيات المسلحة خارج الدولة فإن الصورة المتجانسة للانتفاضة ستفقد إبهارها، وقد تنزلق إلى المشهد السوري، أو اليمني. كما لو أن النأي عن الثورة هو الحماية الحقيقية للانتفاضة الراهنة.
يتحدث الخطاب الجماهيري عن اللصوص والفسدة، ويعِد بالاستمرار في مواجهة الكاليبتوكراسي، أو حكومة اللصوص. بالمقدور جمع أكبر قدر من الناس من كل القطاعات من أجل الإمساك باللص، أو بتيار من اللصوص. غير أن تلك المهمة ستصبح أكثر تعقيدا حين يجري النقاش حول "مولد التيار". تكمن المشكلة في لبنان، وهذا ما يدركه المثقف اللبناني أكثر من غيره، في طبيعة الدولة التي أنتجها الطائف، في الديموقراطية التوافقية.
تنتج الديمقراطية التوافقية شكلا رخوا للدولة بلا سياسة خارجية، ولا شخصية وطنية مستقلة. كما أن برلمانات المنظومات التوافقية هي كيانات ليس بمقدورها تغيير طبيعة السياسة في البلد، ولا مراقبة الدولة.
سيبادر كل قطاع إلى الدفاع عن ممثليه في السلطة ورفض محاسبتهم لأن من شأن ذلك أن يعد خروجا عن لعبة التوافقات التي تقتضي، في النهاية، تبادل غض الطرف عن الجرائم والأخطاء، والاكتفاء بطرح الملاحظات الفنية.
ثمة خلل بنيوي في نموذج الدولة اللبنانية، ولطالما اعتُقد أن إصلاح هذا الخلل البنيوي من شأنه أن يطيح بالدولة برمتها ويهدد السلام الاجتماعي. قبل ثلاثة عقود نجحت وثيقة الطائف، التي أعطت حرية تنقل المواطنين وخفض البنادق الاهتمام الأكبر، في وضع حد للحرب. لم يكن بالإمكان إنجاز ما هو أفضل منها في تلك الأيام، حين كان لبنان في قبضة حرب هجينة يصعب عد أطرافها. غير أن وثيقة الطائف حملت معها مشكلتها الجوهرية، وهي اعتقاد مصممها أنها أزلية، وأن طاقتها لا تفنى. على وثيقة الطائف تأسس لبنان الجديد، وتُرك ليشق طريقه سيرا فوق جسورها.
استطاعت الوثيقة/ الاتفاق العبور باللبنانيين إلى زمان جديد بلا حرب، وتخلق في عهدها جيلان. أنهى الطائف القتال المستعصي لبارونات ذلك الزمان، وسمح لهم بالتسلل إلى المستقبل بوصفهم تعبيرا نهائيا عن قطاعاتهم. فالديموقراطية التوافقية هي، في طبيعتها، توزيع قبلي للسلطة داخل الزمن. وهي شديدة الشبه باللاديموقراطية. خلال العقود الثلاثة أتيح للمجتمع اللبناني الجديد، تحديدا الجيلين Z & Y، فرصة للنمو على المستوى الأكاديمي/ المعرفي، المهني، والنفسي. بموازاة ذلك النمو المتجانس والصلب تمتعت الدولة اللبنانية، بوصفها دوائر وظيفية، بغياب تاريخي.
لقد أتاح الطائف مجالا للحديث عن "تعطيل الدولة" على مر الأيام، حتى إن كلمة تعطيل، لكثافة حضورها في الخطاب السياسي اللبناني، أخذت معنى السياسة نفسها. راكمت الأجيال الجديدة خبرات وطموحات لا علاقة لها بالمعادلات التي حكمت لبنان في زمن الحرب. ها هو لبنان يكتشف، بلا مواربة، حقيقته المعاصرة: النظرية السياسية التي أوقفت الحرب ليست هي النظرية التي ستجيب عن أسئلة من ولدوا في زمن ما بعدها.
الانتفاضة اللبنانية الراهنة هي في طبيعتها ضد المياه التي تخرج من "الطائف"، وضد أن تستمر تلك المياه في ري الحياة اللبنانية الحديثة، حياة الجيلين واي و زد، وهما الجيلان المولودان بعد عامي 80، و97م. حتى هذه اللحظة لم تشكل الانتفاضة خطابا نهائيا متجانسا لا يرفض المياه الملوثة وحسب، بل يصعد إلى النبع نفسه، ويسائل المشروعية في مركزها.
ينشأ سؤال المشروعية مع الزمن، وكل مشروعية بحاجة إلى مساءلة وتجديد بين الحين والآخر. لم تكن مبادئ الطائف وثيقة صاغها الآباء المؤسسون للبنان، بل صلحا كتبه أمراء حرب ذلك الزمان. ثمة مشكلة عميقة في مولد التيار، في النبع، وسيستمر ذلك النبع في رفد الحياة اللبنانية بالمياه الملوثة.
لكن الوقوف أمام النبع ومساءلته، الحديث عن عقد اجتماعي جديد ينقل لبنان من الطائف إلى بيروت، من ديموقراطية التوافقات إلى الديموقراطية الليبرالية، من دولة قابلة للتعطيل إلى دولة متجاوزة للقطاعات ومتعالية عليها.. هذه المواجهة/ المساءلة الحتمية التي لم تحدث بعد هي ما سيضع لبنان مرة أخرى على المحك، أو على الحافة، سيفتح أمامها بابا للخروج أو سوى ذلك.
الإبهار الذي تبدو عليه الانتفاضة اللبنانية، بتعبيراتها المادية الحديثة، هو إبهار مراوغ. كما لو أن الجماهير العربية تمنحها الإعجاب نظير نأيها عن تقديم خطاب ديموقراطي ليبرالي يطالب بإخراج الدولة من القطاعات إلى المجتمع المفتوح، وبإعادة كتابة عقد اجتماعي جديد في بيروت بحيث يكون قادرا على الاستجابة لمشاكل المستقبل لا مآسي الماضي، أن يكون واعيا بخيالات واحتياجات مطوري التطبيقات وكتاب قصيدة النثر أكثر من مراعاته لترتيبات ومصالح رجال العشائر ومهندسي الخنادق.
يتسابق الطائفيون وحرس الديكتاتوريات إلى مديح الانتفاضة اللبنانية، ذلك أنها لا تتحرك تحت سقف واطئ، وتطالب بعودة اللصوص إلى جحورهم دون أن تقول شيئا عن الحقل الذي ينبت اللصوص. فالنظام السعودي، وإعلامه، يبدو متحمسا لمساندة تلك الانتفاضة بوصفها ثورة ضد تنظيم حزب الله. بينما ينظر إليها شبيحة النظام السوري، من ناشطين وإعلاميين، بوصفها انقلابا على الهيمنة السعودية في لبنان.
فقد قال حوالي 50% من المستطلعة آراؤهم على حساب "رصيف 22": إن الانتفاضة اللبنانية هي ثورة ضد حزب الله. بينما يقول الخطاب اليومي للانتفاضة: إن كل شيء سيكون على ما يُرام لو أن "القطاعات" اللبنانية أبدلت اللصوص برجال أكثر التزاما وطهارة. وهو موقف يدفعنا للقول: إن الانتفاضة اللبنانية تبدو أقرب إلى الحقيقة الفنية والشكلانية منها إلى الثورة. ولأنها كذلك فها هي تبدو صديقة لكل الناس، ولكل الأنظمة، بما في ذلك قادة العشائر في البلاد.