لبنان.. الضياء والثورة والوجه الحسن
في كل بيت أخ صغير طيب القلب، مدلل حلو اللسان، في بيتنا يقول أبي عنه وقت غضبه إنه "مايص"، وترد عليه أمي بأنه "رقيق"، في وقت الضحك يقول "حطيه في الشمس يتحمص"، لكنه يا سيدي تربية القمر، عيونه نصف مغمضة، وخدوده وردية، ولهجته تحمل قدرا من الخفة يتناسب مع عذوبة صوته وهدوء روحه.
في كل شارع بيت مختلف، لسكانه طبع مختلف قليلا عن سمات أهل الشارع، لكنه أول الحاضرين في كل خير، وأجمل المتجهزين في كل فرح، وأكثر المعزين إخلاصا في كل فقد، وأعذب المواسين أو المهنئين حسب كل موقف، له حضور خاص، يغيب يغيب ثم يعود حين تفكر فيه، ويحضر فور احتياجك إليه.
في الوطن العربي الكبير وطن صغير، أخو الأوطان الكبيرة، المدلل، تربية القمر وحبيب الضحى وعدو الشمس الحامية، لكنه يحب الفجر حتى وإن جلب الحرارة الشديدة من بعده، يحمل معه شجرة أرزه وارفة الظلال، وافرة الظلال، كأنه جذرها وكأنها امتداده، غذاؤها وجوده، وثمارها أن ترى الراحة مرسومة في عينيه، يحتمي بها من الحرور، يتمدد بطوله القصير وجسمه الدقيق، تحت شجرته، في حضن العروبة الحنون، وبين أذرع كثيرة رفيقة، لكل منها دين وطائفة وملة، لكنها جميعا تشكل بيته الخالد.
أخونا اسمه "لُبنان" وننطق اسمه "لِبنان" ونزيده دلَعا فنقول "لِبنَين"، عشر جماله في وجهه وتسعة أعشاره في لسانه، وجمال اللسان تكاد تسمعه في كل حركة تصدر منه، في كل فعل يقوم به، في كل سلام يلقيه، وكل كلام يلقيه، في سلامه وحربه، في هدوئه وغضبه، في براءته وجرأته، في عذابه وعذوبته، في كل قصيدة، ومع كل هتاف، ووسط كل أغنية، وبعد كل دبكة.
لبنان، أخونا الصغير الجميل المدلل، الذي حين تغنى بالسلام جعلنا نبتسم، ثم حين تغنى بالثورة جعلنا نضحك، يعرف كيف يصنع من الدمعة نكتة، ومن الأسنان المضروبة بقبضة شرطي حقير أجمل ابتسامة، ومن الخريف العربي ربيعا يعيد له الزهور من جديد، ومن الآلام المدفونة في أعماق كل منا، آمالا تحارب الحيتان كي تعود إلى السطح مرة أخرى.
لبنان هو كلمة السر، بغض النظر عن ما يريده أو لا يريده، لكنه يضرب مثلا لنا في كيف نصنع من عشرين لونا، لونا واحدا، كيف نخلق من اللوحات الفارغة قائمة مطالب موحدة، وكيف نجعل من رايات الأحزاب خرَقا نمسح به أشياء معينة في أجسام رؤساء الأحزاب، وكيف يجتمع الآلاف في ميدان واحد فجأة، كأنهم في الليلة ذاتها أفاقوا وسألوا أين الوطن؟ فدلهم شعاع مشترك بين عيونهم، هتف لهم من السماء: الوطن هنا. فتوجهوا إلى هناك، وحين تجمعوا في البقعة ذاتها وجدوه، أكبر من حيز الزمان ومن نطاق المكان، أعرض من اللحظة وأطول من المناسبة، أكثر من اللفظ وأوسع من المعنى، وجدوه في وجودهم هناك معا.
"لبنان" في اللغة من أصل "ل ب ن"، في إشارة إلى البياض، إلى اللون الذي يكسو بشرته، واللون الذي يصبغ قلبه، واللون الذي يذكره بأصله دائما؛ إنه في الحقيقة ملاك، وإن الأبيض الذي بمنتصفه يليق به أكثر من الأحمر الذي يحده من أعلى وأسفل.
إلى أين سيسير؟ لا أحد يدري، ماذا سيحقق؟ لا أحد يتنبأ، لكننا نعرف جميعا كيف يكون الحليم إذا غضب، وكيف يكون المدلل إذا تمرد، فإنه لا يعود إلى وداعته حتى ينال ما أراد، يظل يزن ويزن ويزن، حتى يقول له القضاء والقدر خذ ما شئت واهدأ.
فهو الضياء المشتعل بعد يأس في القناديل، وهو الثورة الآتية بعد أمل مع الضياء، وهو الوجه الحسن الذي يضيء وجهه حين تثور عيناه.
وبينما نحن جلوس مقعدون على الأسرّة، نتابع الصغير الجميل وهو يرقص ويهتف، يصيب ويصاب، يصنع تاريخه، خرج علينا قوم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، نصيبهم من الثورات الصور، يراقبونها بعيون وقحة، ويستخفون دمهم في سبيل الضحك الثقيل، ويستغرقون في الاعتقاد بأنهم ولاد نُكتة.
لكن الأصل أن الشيء الوحيد الذي وجدناه خفيفا عندهم، كان العقل، وكانت القضية، فالبعض عيونه ملونة بعيون الميدان، والبعض عيونه مغرورقة أملا في المولود الجديد، والبعض عيونه "طفسة" لا يعنيها الميدان ولا الأمل، وإنما يبحثون في الثورات عما اعتادوا البحث عنه في صفحات المجلات، وهذا نقول له على رأي اللبناني: "جابوا الديب تَيعلموه القراية قالوا له: قول ألف، قال: عنزة".