"الفساد المقدّس".. هل بدأت واشنطن الحرب على أباطرته بالعراق؟

يوسف العلي | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

استشاطت القوى السياسية في العراق غضبا، من تحقيق استقصائي لا تتجاوز مدته النصف ساعة نشرته قناة أمريكية، كشفت فيه أبواب الفساد لرجال دين شيعة وسُنة في البلاد، ولا سيما المقربين منهم للمرجعية الدينية بالنجف، وديوان الوقف السني (بمثابة وزارة).  

التحقيق الذي بثته قناة "الحرة" بدأ بكشف وثائق إهدار وفساد مالي تتعلق برئيس ديوان الوقف السني المقرب من إيران عبداللطيف الهميم، والتي أشارت إلى أنه حوّل ملكية عدد من الأراضي التابعة للوقف إلى مليشيات وأحزاب شيعية نافذة في البلد.

"الفساد المقدّس"

"الهميم" الذي حكم عليه القضاء العراقي في أبريل/ نيسان 2017 بالحبس لمدة عام مع وقف التنفيذ بتهم الفساد المالي، أفرج عنه بكفالة مالية لا تتجاوز ربع دولار أمريكي، وبقي في منصبه حتى وقت كتابة هذه السطور، على الرغم من أنه رئيس للوقف السني بالوكالة.

التحقيق كشف عن وجود إرادة للطبقة السياسية الشيعية الحاكمة، لبقاء الهميم في هذه المؤسسة الثرية، على الرغم من تاريخ الرجل الذي كان مقربا من الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ومداحا له من الطراز الأول على منابر الجمعة.

عبد اللطيف الهميم مع علي خامنئي في إيران

وعلى الجانب الآخر، تناول تحقيق القناة الأمريكية المشاريع الرهيبة التي يديرها وكيلي "المرجعية الشيعية العليا"  في كربلاء أحمد الصافي وعبد المهدي الكربلائي، وما يدور حولها من علامات استفهام عن مصير الأموال الطائلة التي تجنيها "العتبتين العباسية والحسينية".

والمثير في التحقيق، أن المرجعية الشيعية تنشئ مشاريع استثمارية من المال العام، وعلى الأراضي التي تعود إلى الدولة، بعد تخصيص ميزانية ثابتة لها ضمن الموازنة المالية السنوية التي تقدمها الحكومة العراقية.

وذهب إلى أن سلطة المرجعية، أقوى من سلطة الحكومة العراقية، وذلك ما يمنع على الأغلب من الإطاحة بـ"الفساد المقدس" الذي تديره جهات تابعة لأعلى مرجعية دينية في البلد، والتي من غير الممكن مساءلتها أين تذهب أرباح تلك المشاريع؟

وكيلا المرجعية من اليمين: عبدالمهدي الكربلائي وأحمد الصافي

 ردود غاضبة

على نحو متسارع جاءت الردود غاضبة من الجهات المعنية "العتبتان العباسية والحسينية" و"الوقف السني"، فقد استهجنت الأولى ما صدر عن قناة "الحرة" من تحقيق وصفته بأنه "يغالط الحقيقة ويجانب الصواب".

وأشارت إلى أن "الهدف من ورائه لم يكن مهنيا البته، فقد أثار التقرير علامات استفهام كبيرة وكثيرة ولاسيما استهداف العتبات بوصفها رمزا من رموز الاستقرار والنجاح فضلا على كونها مساحة تصحيح وتصويب طوال تعاقب الحكومات بعد 2003".

وحول التساؤل الأبرز الذي طرحه التحقيق "أين تذهب أموال العتبات"، أجابت "العتبة الحسينية" في بيان تلاه ممثلها عبر مؤتمر صحفي، بالقول: "إن جميع مشاريع العتبة الحسينية المقدسة الاستثمارية منها والخدمية يخضع الانفاق فيها الى تعليمات وقرارات الموازنة العامة للحكومة الاتحادية".

ولفتت إلى أن أموال المشاريع الاستثمارية تذهب أيضا إلى "ديمومة الخدمات التي تقدمها تلك الاقسام وهذه الاقسام الخدمية منها وما يسمى الاستثمارية (على نحو مجازي) لا تبتغي تحقيق الجنبة الربحية بقدر تحقيق أهداف خدمية واجتماعية وصحية (جامعات ومستشفيات)". ويضيف: "العتبة الحسينية المقدسة مسؤولة عن رواتب وإعانات لقرابة (14) ألف منتسب".

وبخصوص استيلاء العتبات على الأراضي التابعة للدولة وبناء المشاريع عليها، قال البيان إن "وزارة العمل طلبت بضغط من أهالي كربلاء المقدسة ومن العتبات المقدسة ادارة تلك المدن لغرض ادامتها وديمومتها اذ قدمت خدماتها للزائرين والنازحين مجانا طيلة خمس سنوات تم تحويل ملكيتها إلى العتبات المقدسة بعد شرائها من الوزارة... لتستخدم بعد ذلك كجامعات، ولا سيما بعد إنشاء مدن الزائرين بالقرب منها".

واتهمت "العتبة الحسينية" في بيانها قناة "الحرة" الأمريكية بتسويق "الأكاذيب" من خلال اعتمادهم على وثائق من المواطنين الكربلائيين، وأن ذلك بحسب قولها ينافي "المهنية" التي من المفترض أن تتبعها الوسيلة الإعلامية.

أما على صعيد "الوقف السني"، فقد عبّر في بيان له عن أسفه لمحتوى التحقيق التلفزيوني الذي بثته قناة "الحرة عراق" الممولة من الإدارة الأمريكية.

وقال: إن التحقيق تضمن "إساءات تجاوزت القصد وتحريفا للحقائق وتزييفا للوقائع بسيناريو مفضوح يُراد من ورائه التوظيف السياسي وسوء القصد على أي حال بما ينال من المؤسسة الدينية والوطنية ورموزها في العراق، بكلام باطل على وجه باطل فيه كثير من الظلم والإجحاف".

ورأى البيان، أن التحقيق "افتقر إلى المصداقية والعدل والإنصاف"، نافيا: "كل ما جاء فيه حول بعض الأمور الإدارية في مؤسسة الوقف السني وإدارتها".

ودعا "الوقف السني" قناة "الحرة عراق" إلى أن "تكون حرة؛ لأننا ندرك جيدا أن الأموال الهائلة التي تُغدق عليها ليست لوجه الله تعالى، ولم تكن لوجه العراق، وإنما للتبشير بمشروع أمريكي يستهدف بلدنا تاريخا ودينا وحضارة".

وأعرب عن قناعته، بأن "ما عُرض في هذه القناة من أكاذيب وتزوير للحقائق هو جزء من مشروع أمريكي صهيوني يراد من خلاله الاساءة إلى المؤسسة الإسلامية؛ لذا فإن ديوان الوقف السني يحتفظ بحقه القانوني بمقاضاة قناة الحرة عراق ومن يقف خلف البرنامج قانونيا".

رئيس ديوان الوقف السني عبد اللطيف الهميم

واشنطن وبغداد

على خلفية الاتهامات التي طالبت الولايات المتحدة، بالوقوف وراء بث التحقيق كون القناة خاضعة لإرادة وزارة الخارجية الأمريكية، أصدرت السفارة الأمريكية في بغداد بيانا ردّت فيه على تلك الاتهامات.

وقالت: إن "وزارة الخارجية الأمريكية وسفاراتها حول العالم لا تملك سلطة رقابية على محتوى القناة التي تتناول بشفافية وحيادية القضايا الهامة في المنطقة والسياسات الأمريكية، مع الحرص على عرض كافة وجهات النظر بشأن القضايا التي تهم المتابعين".

وأشارت إلى أن "للحكومة العراقية حق الرد ومساءلة قناة الحرة عراق على أي تحقيق ترى أنه تضمن معلومات غير دقيقة أو بعيدة عن المهنية أو تتعارض مع السياسات الأمريكية".

وبدأت قناة "الحرة عراق" البث في سبتمبر/أيلول عام 2004 لتكون قناة مختصة في تغطية أخبار الشأن العراقي، وهي إحدى عائلة شبكة "الشرق الأوسط للإرسال" التي تضم أيضا قناة "الحرة" وراديو "سوا"، وكلها ممولة من الإدارة الأمريكية. 

وفي أول خطوة عملية تتخذها السلطات العراقية، أعلنت هيئة الإعلام والاتصالات، التابعة لمجلس الوزراء العراقي، تعليق عمل مكاتب قناة "الحرة عراق" الأمريكية في البلد لثلاثة أشهر، على خلفية بثها تحقيقا متلفزا عدته جهات في بغداد "مسيئا للمؤسسات الدينية" في البلاد، مطالبة إياها بتقديم اعتذار رسمي.

وقررت الهيئة، بحسب ما قالت في بيان لها: "تعليق رخصة عمل مكاتب قناة الحرة عراق في العراق لمدة ثلاثة أشهر، وإيقاف أنشطتها لحين إعادة تصويب موقفها حيال التعاطي مع الشأن العراقي".

وطالبت الهيئة "ببث اعتذار رسمي من مكتب ادارة قناة الحرة عراق في العراق لما تسببه البرنامج من ازدراء وإساءة لرموز وشخصيات المؤسسات الدينية والتي أضرت بسمعتها ومكانتها في نفوس الشعب العراقي".

وشدد البيان على "التعهد بالتزام مكاتب القناة في العراق بلائحة قواعد البث الإعلامي وعدم تجاوز موادها في تقاريرها المعدة في الشأن العراقي"، واصفة هذه الإجراءات "بمثابة إنذار نهائي للقناة، وسيتم اتخاذ عقوبة أكثر شدة في حال تكرار الإساءة، وخرق مواد لائحة قواعد البث الإعلامي مرة أخرى".

وأشارت الهيئة التابعة للحكومة العراقية، أنها "تترك للجهات والشخصيات المتضررة حق تقديم الشكوى لدى الجهات القضائية المختصة، وستقدم رأيها الفني في ذلك".

السؤال الأهم

لكن التساؤل الأهم بعد عرض قناة "الحرة" للتحقيق التلفزيوني الأكثر جرأة منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، هو: هل تقف الإدارة الأمريكية وراء توقيت وبث التحقيق الذي طال أعلى جهة دينية في البلد؟

التحقيق المثير، سبقه تحقيق استقصائي سلّط الضوء على تهريب النفط العراقي من موانئ البصرة، وسيطرة جهات سياسية نافذة على منافذ تهريب النفط الأسود، الأمر الذي أثار حفيظة مليشيات الحشد الشعبي، الذي ألمح التحقيق بوقوف عدد من فصائله وراء عمليات التهريب.

لكن ذلك لم يمرّ بسهولة، فقد عثرت القوات الأمنية العراقية في يناير/كانون الثاني 2019 على المصور الصحفي علي سامر الذي يعمل في قناة "الحرة" الأمريكية والذي كان أحد عناصر الفريق في التحقيق المذكور آنفا، مقتولا بطلق ناري في منطقة الرأس، وقد ألقيت جثته على قارعة الطريق شرق العاصمة بغداد.

علي سامر المصور الصحفي العراقي في قناة "الحرة" الذي قتل بظروف غامضة

إلا أن هذه الأحداث سبقتها، بأشهر عدة وتحديدا في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، قرار من إدارة القناة في الولايات المتحدة بتسريح نحو 34 موظفا ينتمي للمكون الشيعي من مكتب القناة في بغداد، الأمر الذي انعكس بشكل واضح على سياسية القناة، واتخاذها نهجا مغايرا تماما عما كانت عليه منذ بدء بثها في عام 2004.

ما يدفع إقدام القناة الأمريكية على طرح مثل هذه المواضيع الحساسة، هو مساسها بحاجة الشارع العراقي، الذي لم يكن مطالباته للحكومات المتعاقبة بفضح ملفات الفساد والجهات التي تقف وراءها، بحسب مراقبين.

ويعزز ذلك أيضا، صمت الشارع الشيعي الذي يعتبر المرجعية الدينية "خطا أحمر"، وترحيب ناشطين وبعض السياسيين حيال ما طرحته القناة من ملفات حساسة لم تجرؤ الحكومة على فتحها من قبل، في وقت شنت فيه أحزاب ومليشيات شيعية مقرّبة من إيران هجوما على الإدارة الأمريكية واتهمها بالوقوف وراء سياسة القناة.

إذ غرّد النائب في البرلمان العراقي فائق الشيخ علي، قائلا: "تقرير لقناة الحرة من 12 دقيقة أحدث هزة بالعراق؟ فردوا عليه بإغلاق مكتبها وإصدار بيانات التسقيط ضدها!". وتساءل الشيخ علي: "لماذا لا تردوا عليها بـ12 تقريرا تلفزيونيا، بثوها على قنواتكم الـ12 وفندوا ما قالوه؟".

وسخر النائب قائلا: "راح تصير عتباتنا المقدسة مثل مشهد (مدينة إيرانية).. رئيسي (مرشح رئاسة إيراني) هو الي يرشح للانتخابات ويُداين حكومة إيران".

وفي السياق ذاته، كتب محافظ نينوى الأسبق أثيل النجيفي تغريدة على "تويتر" قال فيها: "حين يصبح الجهل والفساد مقدّسين ويلتحق الظلم بركبهم فإما أن تهرب القدسية لتنجو بنفسها أو تنهار مع حلفائها".

يضاف إلى ذلك كله، وقوف الأحزاب السياسية السنية،  ومرجعية المكون (المجمع الفقهي لكبار العلماء) صامتة إزاء ما ورد في التحقيق التلفزيوني، الأمر الذي فسره مراقبون على أنه قبول بكل بما جاء فيه، ولا سيما أن رئيس ديوان الوقف السني جاء دون موافقتهم وهم من تحدث حسبما ورد في التحقيق عن فساده وإهداره لأموال الوقف.

وليس ببعيد عن سياسة "الحرة" الجديدة، فبحسب مراقبين: "ربما تكون خطوة الولايات المتحدة الأمريكية بوضع سياسيين عراقيين بارزين قبل أشهر عدة على لائحة العقوبات بتهم تتعلق بالفساد، هي إجراءات تأتي ضمن حملة تقودها واشنطن ضد أباطرة الفساد في العراق".