المذبوحة تضحك على المسلوخة
عِوض أن تتجه الأحزاب الجزائرية إلى الالتقاء حول الحدِّ الأدنى من المطالب السياسية التي تُحقق خطوات في الانتقال الديمقراطي السلس وتستفيد من اللحظة التاريخية المفصلية التي وفَّرها الحراك الشعبي لافتكاك مكاسب للتجربة الديمقراطية وإرساء قواعد جديدة للعمل السياسي مبنية على التوافق والتعاون وإشراك الجميع في المرور الآمن نحو مسار انتخابي نزيه تشارك فيه كل أطياف الطبقة السياسية بدون إستثناء.
فضَّلت كثير من الأحزاب بناء مجدِها السياسي الواهم باستهداف أحزاب أخرى، وذلك بدعوتها إلى إقصاء مجموعة من الأحزاب باعتبارها جزء من نظام بوتفليقة متناسية أن أغلب الأحزاب الرئيسية والمنشقة عنها قد شاركت في مراحل مختلفة من حكم عبدالعزيز بوتفليقة وساهمت في إرساء نظامه بسكوتها أحياناً وتواطئها وقبولها بالأمر الواقع في أحيان كثيرة.
فجميع الأحزاب سواء كانت أحزاب العُهدة الخامسة وهي الأحزاب التي ساندت بوتفليقة إلى آخر لحظة قبل إزاحته من طرف الحراك الشعبي في 22 فبراير 2019، وكذلك الأحزاب التي شاركت في العهدات الأولى من حكمه أو المشاركة كأرانب سباق في مسرحيات الإنتخابات الرئاسية المختلفة.
فجميعها مطالب أن يُقدم كشف حسابه للشعب الجزائري عن كل مرحلة شارك فيها مع نظام بوتفليقة، سواء على المستوى الحكومي التنفيذي وما صاحب ذلك من فساد في تسيير الشأن العام، أو على المستوى البرلماني التشريعي، وما تخلَّل ذلك من تزكية الأوامر الرئاسية وتمرير القوانين المختلفة، أو المواعيد الانتخابية والقبول بدور أرانب السباق وتقديم مشهد ديمقراطي تنافسي مفبرك موجه للاستهلاك الخارجي لتتورط هاته الأحزاب في لعبة النظام سواء كانت في السلطة أم في المعارضة، ليأتي الحراك الشعبي المبارك ليضع حداً لمسلسل المغامرة بمستقبل الجزائر.
إنَّ الحديث عن وجود العصابة في مرحلة معينة فقط حديث لا أساس له من الصحة، فالقصة تعود إلى سنة 1994 عندما قام قادة النظام آنذاك بجلب عبدالعزيز بوتفليقة ليرأس البلاد، وذلك بتزكيته من طرف الندوة الوطنية للوفاق، التي نظموها بعيداً عن الإرادة الشعبية، في محاولة لخلق حالة من التوافق السياسي لتجاوز آثار إنقلاب جانفي (يناير/كانون الثاني) 1992.
إلا أنَّ وزير خارجية هواري بومدين رفض العرض ليقبله في المرة الثانية بعد خمس سنوات بمناسبة الانتخابات الرئاسية 1999، عندما وفَّروا له دعماً سياسياً يعتمد في الأساس على حزبي السلطة "جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديمقراطي"، وحركتي التيار الإسلامي "حركة مجتمع السلم" و"حركة النهظة"، ليتوسع هذا الائتلاف السياسي بعد نتائج الانتخابات إلى حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، وهو الحزب الرئيسي الثاني لتيار اليسار الجهوي المتمركز بمنطقة القبائل.
لتشارك هذه الأحزاب جميعها في حكومة بوتفليقة بعد الانتخابات الرئاسية التي لم تغادرها إلاّ بعد أحداث كبيرة، خاصة بكل حزب مع بقاء حزبي "جبهة التحرير الوطني" وهو حزب الرّئيس وحزب "التجمع الوطني الديمقراطي"، باعتبارهما جهازي السلطة الفعلية لممارسة الحكم. لتدفع حركة مجتمع السلم ثمن خروجها من الحكومة بانشقاق وزيرها عمّار غول رفقة مجموعة من القيادات والمناضلين، الذين أسَّسُوا حزب تجمع أمل الجزائر، وهو حزب أُنِشَأ خِصيصاً لدعم الرئيس في كامل المسار، وإلى غاية تنحيته من الحكم.
نفس الأمر وقع لحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية بانشقاق وزيره عمّارة بن يونس، الذي أسَّس حزب الحركة الشعبية الجزائرية ليُعوِّض خروج حزبه الأصلي.
وفي سياق معارض انشق رئيس الحكومة الأسبق والأمين العام الأسبق لجبهة التحرير الوطني في العُهدة الأولى لبوتفليقة علي بن فليس، رفقة مجموعة من الإطارات والمناضلين، ليُأَسِسُوا حزب طلائع الحريات.
إذ من غير المعقول أن يُطالب من كان جزء في الفساد السياسي بإقصاء البعض دون البعض وجميعهم شارك في النظام الذي أرسى دعائمه بوتفليقة، وهو المعروف من خلال مُداولات اللجنة المركزية وقرارات مرحلة الحزب الواحد "حزب جبهة التحرير الوطني"، التي أدانته بقضايا فساد أثناء ممارسته لمهامِّه على رأس وزارة الخارجية في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
فليس بمقدور الأحزاب المشاركة أو أحزاب وزرائهم المنشقين عنهم أن تتنصَّل من تاريخها أثناء حكم بوتفليقة سواء كان ذلك في الائتلاف الرئاسي سنة 1999 أو التحالف الرئاسي الذي جاء بعده، أو الحكومات الائتلافية المتعددة، أو المشاركة في التزكيات المتنوعة داخل البرلمان وتكريس التشريع عن طريق الأوامر الرئاسية أو المشاركة في المواعيد الرئاسية كأرانب سباق. كما حدث مع حزب العمال الذي ساهم في الأعراس الانتخابية، وتحوَّلت مرشحته الويزة حنون إلى أحد أدوات الحملة الانتخابية للرئيس بوتفليقة.
إنَّ المشاركة في مختلف التحالفات، الائتلافات والانتخابات لم تكن مُشكلة في حدِّ ذاتها، بل هي من صميم العمل السياسي. لكنَّ المشكلة في الفساد الذي صاحب هذه الممارسات السياسية، التي أضرَّت بالعمل السياسي وساهمت في إطالة عمر نظام بوتفليقة المُهترئ.
لهذا فإنَّ خطاب الإقصاء من طرف البعض للبعض لن يفيد هذه الأحزاب لأنَّها متورطة بدرجات مختلفة في تسيير هذه المرحلة من تاريخ الجزائر الحديث.
إنَّ أغلبية الأحزاب السياسية الموجودة في الساحة الجزائرية قد قبلت بذبحها من طرف نظام بوتفليقة، في حين فضَّلت الأكثر ولاءاً أن تُقدِّم خدمات إضافية فسلخها نهائياً من كل إمتداد شعبي وجماهيري حقيقي.