الأزمة الجزائرية الإسبانية.. الأبعاد والتداعيات
المحتويات
مقدمة
أبعاد الأزمة بين الجزائر وإسبانيا (قضية الصحراء– ملفا الغاز والحدود– الدور الروسي)
ضغوط أوروبية على الجزائر
قوى أوروبية تدعو لتهدئة مع الجزائر (ملف الطاقة– ملف الجيوسياسة)
خاتمة
المقدمة
في 8 يونيو/حزيران 2022، قررت الجزائر تعليق معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون التي أبرمتها مع إسبانيا في أكتوبر/تشرين أول 2002[1].
وفي اليوم التالي، أعلنت الجزائر تجميد عمليات التجارة الخارجية للمنتجات والخدمات من وإلى إسبانيا بدءا من 9 يونيو 2022، حسبما نقلت الإذاعة الجزائرية الدولية[2].
وقبيل ذلك بفترة ليست بالقليلة، وفي 19 مارس/آذار 2022، كانت الجزائر قد استدعت سفيرها في إسبانيا[3].
وتتأثر العلاقة بين البلدين بعدة ملفات، أبرزها ترسيم الحدود وما يرتبط به من ثروات؛ أهمها- في الوقت الراهن– الغاز، وذلك بالنظر لتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي يتضرر منها ملف الطاقة بالدرجة الأولى على الصعيد الأوروبي.
وثمة كذلك ملفا الصحراء والسلاح الروسي. فما الوزن النسبي لهذه الملفات في إثارة الأزمة الراهنة؟
ومن جهة أخرى، يلاحظ أن الاتحاد الأوروبي بشكل عام، لم يكن على قلب رجل واحد من أجل دعم مدريد في هذا الصدد، وكان هناك انقسام واضح في المواقف الغربية.
فما ملامح الانقسام حول الموقف من الجزائر؟ وما أسباب اختلاف المواقف الغربية من الأزمة؟
ومن جهة ثالثة، فإن ثمة تأثيرا واضحا للصراع العالمي الأكبر في هذه الأزمة، وإن لم يتجل في صورة مباشرة.
فالحضور الروسي والصيني في الجزائر، سواء على صعيد التسليح أو الاستثمار أو حتى التنسيق الدبلوماسي؛ كلها عوامل تمثل مدخلات البيئة العالمية الضابطة أو المحركة لأفق هذه الأزمة.
فما ملامح تأثير هذا الحضور على أفق تصدي الأطراف الدولية المختلفة لهذه الأزمة؟ هذه الدراسة تجتهد في تقديم إجابات عن هذه التساؤلات جميعها.
أولا. أبعاد الأزمة بين الجزائر وإسبانيا
هناك عدة ملفات تقف وراء الأزمة بين البلدين، ويمكن توضيح تأثيرها فيما يلي:
أ. ملف الصحراء: المعلن فيما يتعلق بالأزمة الراهنة في العلاقات الجزائرية المغربية أنها مرتبطة بملف الصحراء الغربية.
فقد تفاقمت الأزمة الحالية في أعقاب تأكيد رئيس الحكومة الإسبانية "بيدرو سانشيز"، في 8 يونيو 2022، في "كورتيس خينيراليس" (برلمان المملكة الإسبانية)، على دعم مقترح الحكم الذاتي حلا لنزاع الصحراء الغربية وهو الموقف الذي رأته الجزائر مستفزا لأجندتها الإقليمية كداعمة لجبهة البوليساريو.
وجاء الرد في اليوم نفسه بتعليق اتفاقية الصداقة وحسن الجوار بين البلدين[4]. وأتى هذا الإعلان في أعقاب زيارة "سانشيز" للعاصمة المغربية الرباط في 7 أبريل/نيسان 2022، حيث أعلن تأييد مقترح الحكم الذاتي، وهي الخطوة التي فتحت الباب أمام تطبيع علاقات البلدين، بعد أزمة دبلوماسية حادة دامت نحو عام[5].
موقف حكومة "سانشيز" يمثل تغييرا لدى مدريد، التي اعتادت التزام الحياد لعقود حيال هذه القضية.
ورأى سانشيز أن خطة الحكم الذاتي هي "الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف" في الصحراء الغربية.
هذا التحول طرأ على موقف الحكومة الإسبانية في منتصف مارس مع تصريح وزير الخارجية الإسباني "خوسيه مانويل ألباريس" بهذا المعنى، أمام الصحفيين في برشلونة[6].
وعن أصل المقترح الذي أثار الأزمة، فإنه مقترح مغربي، إذ عرضت الرباط "مبادرة التفاوض بشأن نظام للحكم الذاتي لجهة الصحراء" في 11 أبريل 2007، في استجابة لدعوات مجلس الأمن الدولي الذي يتولى النظر في هذا النزاع.
وارتأت الحكومة المغربية أن هذه المبادرة تمثل الحل الوحيد لإنهاء النزاع القائم منذ العام 1975 مع جبهة بوليساريو التي تطالب باستقلال الإقليم مدعومة من الجزائر.
انضمت بذلك إسبانيا إلى كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا التي ترى المقترح المغربي "جديا وذا مصداقية"، فضلا عن الاتحاد الأوروبي الذي تربطه اتفاقيات اقتصادية مهمة بالمغرب.
لكن هذه الأطراف تؤكد في نفس الوقت على أن أي حل يجب أن يكون في إطار الأمم المتحدة، وأن يكون مقبولا من كلا الطرفين[7].
ب. الدور الروسي: ومن جهة ثانية، تقدم إسبانيا تفسيرا ذا طبيعة تآمرية لهذه الأزمة، حيث اتهمت روسيا بتشجيع الجزائر على التسبب في الأزمة الراهنة.
وتنسب ذلك إلى ما يتجاوز نزاع الصحراء الغربية إلى احتضان إسبانيا قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" في نهاية يونيو 2022[8].
ذهب مراقبون إسبان لربط هذه الأزمة بزيارة وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" إلى الجزائر في 10 مايو/أيار 2022، والتي اتفق فيها الطرفان على تنفيذ خطة تبدأ بالاتفاق مع إيطاليا، واختلاق أزمة مع إسبانيا بعد زيارة "سانشيز" للمغرب في أبريل 2022.
تتمحور الرواية الأوروبية حول التكهن بتخطيط موسكو لدفع الجزائر نحو توظيف صادرات الغاز من أجل خلق توتر في إسبانيا، ثم التسبب في توتر بين روما ومدريد.
ويأتي هذا بالنظر إلى تفضيل الجزائر إيطاليا في مشاريع الغاز، لا سيما بعد زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى روما في 26 مايو 2022[9].
ورجح مراقبون أوروبيون أن يؤدي هذا التفضيل إلى التوتر في الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي، ضمن محاولات التأثير على قمة "الناتو" التي عقدت بالفعل في مدريد نهاية يونيو.
ويرجحون أن استهداف هذه القمة سياسيا يأتي من زاوية أنها ستكون منعطفا في التعاطي مع روسيا بسبب شنها الحرب ضد أوكرانيا[10].
ج. ملف الغاز: يرتبط هذا الملف بسابقه على أرضية دور الغاز الجزائري في السياسة الخارجية للجزائر.
ويرتبط تدفق الغاز الجزائري لإسبانيا باستثمارات ضخمة تمثلت في تدشين خط غاز خاص بين البلدين، هو خط بني صاف- ألميريا.
غير أن الأزمة الراهنة– من وجهة نظر جزائرية أكبر من حجم هذه الاستثمارات. وقد صرح أكثر من مسؤول جزائري بإمكانية إجراء مراجعة لأسعار الغاز المباع إلى إسبانيا، على خلفية الأزمة الدبلوماسية القائمة بين البلدين منذ إعلان مدريد تغيير موقفها من النزاع في الصحراء، ودعمها خطة الحكم الذاتي التي يقترحها المغرب لإدارة إقليم الصحراء.
ففي 28 مارس، صرح الأمين العام لوزارة الخارجية الجزائرية شكيب قايد، من روما، بأن الجزائر ستراجع جميع الاتفاقات مع إسبانيا، بما فيها أسعار الغاز، ردا على الموقف الاسباني الأخير بشأن الصحراء.
وقال "سنراجع كل الاتفاقيات، لأن إسبانيا لم تُبلغنا بما نعده انحرافا في السياسة الخارجية لها، ونحن مندهشون للغاية من هذا التغير غير المبرر" ما دفع الجزائر إلى استدعاء سفيرها من مدريد[11].
وفي مطلع أبريل 2022، تكرر الأمر مع توفيق حكار المدير العام لشركة "سوناطراك" للمحروقات (حكومية)، الذي صرح لوكالة الأنباء الجزائرية بأنه لا يستبعد مراجعة حساب لأسعار الغاز مع إسبانيا[12].
تصريح "حكار" حمل تفسيرا يربط الأزمة بقضية الصحراء أكثر من أي عامل آخر. وأوضح أن الجزائر كانت قد قررت الإبقاء على الأسعار التعاقدية الملائمة نسبيا مع جميع زبائنها رغم انفجار أسعار الغاز والبترول بعد الحرب على أوكرانيا، ولوح بإمكانية مراجعة حساب للأسعار مع الزبون الإسباني"[13].
يذكر في هذا الإطار أن تصريحات "قايد" و"حكار" سبقت زيارة "لافروف" للجزائر بأكثر من شهر ونصف الشهر.
غير أن مدخل الأزمة المرتبط بملف الغاز أخذ مسارا جديدا في نفس الشهر، حين حذرت السلطات الجزائرية من أنها ستوقف إمدادات الغاز إلى إسبانيا إذا باعت مدريد أي غاز جزائري إلى دول أخرى.
السلطات الجزائرية عزت ذلك القرار إلى كونه رد فعل لما ذكرت أنه قرار إسباني لتصدير الغاز إلى المغرب عبر خط أنابيب[14].
في محاولة لاحتواء الموقف الجزائري، أعلنت مدريد، في 28 أبريل 2022 أن الغاز الذي سيعاد نقله إلى المغرب ليس من الجزائر[15].
وكانت الرباط قد توصلت إلى اتفاق مع مدريد يبدأ بشراء الغاز المسال من السوق الدولية عبر إسبانيا لينقل إلى أراضيها عبر الأنبوب المغاربي[16].
وإرضاء للجزائر، أصدرت وزارة التحول البيئي الإسبانية قرارا، في 6 مايو 2022، يلزم شركة الطاقة الإسبانية "إنكاس" بالعمل على نظام إداري جديد يسمح بإظهار منشأ الغاز الذي يصل إلى إسبانيا.
ولم تلجأ إسبانيا لهذا الإجراء إلا بعد أن بدأت "سوناطراك" الجزائرية بالفعل في خفض ضخ الغاز لإسبانيا بنسبة 25 بالمئة مطلع مايو 2022[17]؛ لتعاود الجزائر إثر ذلك رفع وتيرة تدفق الغاز للمستوى الطبيعي.
د. السلاح الروسي: الجزائر تعد ثالث مستورد للسلاح الروسي على مستوى العالم، وتبلغ حصة البلاد من هذا السلاح نحو 60 بالمئة.
كما تمتلك الجزائر 6 غواصات روسية الصنع، بالإضافة إلى اقتنائها نظام الدفاع الجوي الصاروخي "إس 400" التي تهدد منظومة الناتو، وترشحها روسيا للحصول على منظومة "إس 500" فور الانتهاء من تصنيعها[18].
رغم هذا؛ فإن الولايات المتحدة وعددا من دول الناتو لا ترى في الجزائر خطرا، وهو ما يفسر بالعقيدة القتالية للجيش الجزائري، والتي لا تتطلع إلى تعديل أي خرائط إقليمية جيوسياسيا باستخدام السلاح؛ بما في ذلك موقفها من قضية الصحراء الغربية، ما يجعل سلاحها دفاعيا محضا[19].
وإن كان هذا الاطمئنان لا يمنع من وجود أطراف إقليمية قلقة من التسلح الجزائري مثل إسرائيل[20]، أو حتى أطراف أوروبية كإسبانيا[21] وفرنسا[22].
ويدعم تلك الرؤية أن تعديلات الدستور الجزائري، التي أقرت في الثاني من نوفمبر/تشرين ثان، بما يسمح للقوات المسلحة الجزائرية بتجاوز حدودها قد جرى تقييده بقيدين دستوريين؛ أولهما موافقة ثلثي أعضاء البرلمان الجزائري، وثانيهما العمل تحت مظلة منظمة الأمم المتحدة[23].
غير أن قلق بعض الدول الأوروبية خاصة فرنسا، من الاعتماد الجزائري على السلاح الروسي يرتبط بتبعاته المستقبلية، بقدر ما يرتبط برغبة هذه الدول في تفكيك هذه التبعية، والحصول على حصة من كعكة[24] النفقات العسكرية الجزائرية التي تطورت في ميزانية عام 2021 - 2022 لتصل إلى 9.7 مليارات دولار بحسب البيانات الرسمية[25].
ثانيا. ضغوط أوروبية على الجزائر
لجأت مدريد إلى الاتحاد الأوروبي للضغط على الجزائر من أجل الاستمرار في مدها بالغاز، في نفس الوقت الذي أكدت إسبانيا أنها ستدافع عن مصالحها بقوة[26]، ولم يفت الدبلوماسية الإسبانية أن تلطف الموقف الإسباني عبر الإعراب عن الأمل في حل الخلاف دبلوماسيا[27].
ولا يخفي هذا التعاطي المزدوج وجود محاولة لإحراج الجزائر عبر التلويح بالمواجهة في توقيت حرج بالنسبة لأوروبا التي تعاني من ضعف تدفق الغاز الروسي والتشدد فيما يتعلق بمدفوعات الغاز بالعملة الروسية (الروبل).
وتحكم العلاقة بين البلدين فيما يتعلق بالغاز الطبيعي سوابق عدة، أبرزها حرب الأسعار التي شهدها عام 2020 بين مدريد والجزائر، عندما جمدت شركة "ناتورجي إنرجي" الإسبانية عقود إمدادات الغاز المبرمة مع "سوناطراك"، من مارس إلى أكتوبر من ذاك العام، بعد انهيار الأسعار في الأسواق العالمية.
وانتهى الخلاف بعد مفاوضات طويلة بين الحكومتين بقبول الجزائر للمطالب الإسبانية[28]. وتتيح العقود المبرمة بين الشركات الجزائرية والإسبانية تعديل الأسعار بحسب ظروف السوق، وهو ما لم تقدم عليه الدولة المغاربية بعد، لكنها لا تستبعده.
غير أن المصالح الإسبانية لا تتوقف عند حدود الغاز، بل إن سر لجوئها إلى الاتحاد الأوروبي يرجع إلى 3 عوامل أخرى تمس مصالحها الحيوية في علاقتها بالجزائر، وهي الهجرة والتجارة والحدود.
ففيما يتعلق بالتجارة، كان أحد القرارات التي أقلقت الجزائر إصدار "الجمعية المهنية للبنوك" الجزائرية (هيئة رسمية)، قرارا بـ"وقف الصادرات والواردات من وإلى إسبانيا".
وجرى توجيهها إلى المؤسسات المالية كافة ومديري البنوك في الجزائر، فيما يشبه بحسب الخبراء "قطعا للعلاقات الاقتصادية".
والميزان التجاري بين البلدين يميل لصالح الجزائر"، إذ وصلت واردات إسبانيا منها مع نهاية العام 2021 إلى نحو 5.64 مليارات دولار، غالبيتها تتعلق بالطاقة.
كما أن صادرات إسبانيا للجزائر نهاية 2021 وصلت إلى 2.16 مليار دولار، غالبيتها بين الحديد الخام والمنتجات المختلفة[29].
غير أن بدائل الصادرات الجزائرية حاضرة فيما تغيب نظيرتها الإسبانية، ما يعني أن قيمة صادرات الغاز ستوفى للجزائر بدون عبء آخر على الميزان التجاري الجزائري نتيجة منع الواردات الإسبانية.
أما العامل الثاني فيتعلق بالهجرة. وتمثل هذه القضية مصدر أرق دائم؛ ليس لإسبانيا وحدها، وإنما لأعضاء الاتحاد الأوروبي كافة.
والمراقب لتفاصيل تعليق "معاهدة الصداقة"؛ يجد أن كل وكالات الأنباء قد ربطت هذه الاتفاقية بالتزام البلدين بالتنسيق فيما بينهما بشأن الهجرة غير الشرعية.
وخلال الأشهر الماضية، سبق لإسبانيا أن أثارت أزمة مع المغرب نتيجة التراخي في منع الوصول لإقليم سبتة؛ ما أدى لتسلل نحو 10 آلاف نسمة من دول عدة إلى الإقليم، قبل أن تهدئ التوترات الحدودية بين البلدين خلال الفترة الماضية.
غير أن الأمر تكرر مع الجزائر أيضا في أعقاب تعليق الأخيرة لـ"معاهدة الصداقة".
ففي منتصف يونيو 2022، وصل 113 مهاجرا غير شرعي إلى جزر البليار الإسبانية، وهو طريق تقول السلطات الإسبانية إن القوارب القادمة من الجزائر تفضل استخدامه[30].
أما الملف الثالث فإنه يتمثل في الحدود والخلاف حول ترسيمها، وهي قضية كانت الجزائر تؤجل البت فيها نتيجة العلاقة النوعية الإيجابية التي تربطها بإسبانيا.
وتعد جزيرة "كابريرا" الملف الرئيس في قضية ترسيم الحدود، إذ تعد هذه المنطقة مركزا غنيا بالغاز الطبيعي. وقد نشر مراقبون ما يفيد بأن الحكومة الجوائرية تنوي إثارة هذا الملف بقوة، بعدما ظل الخلاف حياله كامنا[31] لنحو عقدين من الزمان؛ نتيجة "معاهدة الصداقة التي أبرمها البلدان.
ويمكن القول إن رد فعل الاتحاد الأوروبي اتسم باللين مع الحزم، وحمل رسالة قوية للجزائر بأن موقفها قد يؤثر على "اتفاقية الشراكة مع المجموعة الأوروبية" المبرمة في مدينة فالنسيا الإسبانية في أبريل 2002[32]، وهو– للمفارقة– نفس العام الذي شهد توقيع معاهدة الصداقة الجزائرية- الإسبانية.
في هذا الإطار، صرحت المتحدثة باسم مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي نبيلة مصرالي لوسائل الإعلام، بأن "قرار الجزائر مقلق للغاية".
وأضافت: "ندعو الجزائر إلى إعادة النظر في قرارها"، واستئناف الحوار بينها وبين إسبانيا "لتجاوز الخلافات الحالية".
وتابعت: "نجري تقييما لتأثير هذا القرار" على المعاهدة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي[33]. وصدر بيان أوروبي لاحقا يؤكد على هذه الرسائل؛ مع التشديد على أولوية الحوار.
ورغم أن هذه الاتفاقية لم تكن في صالح الجزائر طيلة فترة التطبيق 2005 – 2022، ما حدا بالرئيس "تبون" إلى التوجيه بإعادة تقييمها مطلع نوفمبر/تشرين ثان 2021[34]، فإن الخارجية الجزائرية تعاملت مع التلويح بمراجعة الاتحاد الأوروبي لها بجدية الدولة الحريصة على الاتفاقية.
وأصدرت بيانا ذا طبيعة دفاعية في 10 يونيو 2022، نددت فيه برد فعل الاتحاد الأوروبي بشأن الأزمة بين الجزائر وإسبانيا دون التشاور المسبق مع الحكومة الجزائرية، وأوضحت التزامها بتنفيذ العقود المتعلقة بالغاز[35].
والبيان الجزائري يعني التمسك بالاتفاقية المبرمة مع الاتحاد الأوروبي، لكن قوة لهجة البيانين كانت تحمل بوادر أزمة.
ثالثا. قوى أوروبية تدعو لتهدئة مع الجزائر
موقف الاتحاد الأوروبي يبدو عاما، يشمل كل دولة باستثناء ثلاث هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا، والتي ترى ضرورة وضع حد لهذا الخلاف، وترفض التصعيد الحاصل مع الجزائر.
وهو أمر لا يتوقف على دور الجزائر الطاقوي بقدر ما يرتبط بوضعها كرقم إقليمي صعب؛ جعل الدولة المغاربية محور سياسة استقطاب بين القوى العالمية شرقا وغربا[36].
يمكن رصد القيمة الإقليمية للجزائر على صعيد ملفين أساسيين، هما: ملف الطاقة وملف الجيوسياسة وارتباطاته الاقتصادية.
أ. ملف الطاقة: فمن جهة، كانت فرنسا إحدى أبرز الدول التي سعت لاحتواء الأزمة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي بعد الأزمة.
التدخل الفرنسي كان مفاجئا، خاصة بعد أن بلغت الأزمة بين البلدين: الجزائر وفرنسا حد استدعاء الدولة المغاربية سفيرها لدى باريس في الثاني من أكتوبر 2021، ردا على تصريحات صادرة عن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون".
وقال ماكرون في التصريحات إن الجزائر، بعد استقلالها، بُنيت على "ريع الذاكرة" الذي عززه النظام السياسي- العسكري الحاكم فيها[37] وإنه "لم تكن هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار".
وشاركت فرنسا مع المغرب في مناورات عسكرية على التراب المغربي قرب الحدود مع الجزائر، في 22 مارس 2022، ما فتح الباب لمزيد تدهور محتمل في العلاقات الفرنسية الجزائرية[38]. وفجأة؛ شهدت هذه العلاقات انقلابا في وجهتها.
الدور الفرنسي حرص على فصل الأزمة الجزائرية– الإسبانية عن علاقة الجزائر بالاتحاد الأوروبي.
وأشار مراقبون لاتصال هاتفي بين وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، ونظيرته الفرنسية "كاثرين كولونا، والتي لم تتوسط لمدريد لدى الجزائر، ولم تنتقد موقفها إزاء إسبانيا، واكتفت بالإشارة إلى رغبة فرنسا في علاقات جيدة بين شركائها الأوروبيين والمتوسطيين[39]. هذه التصريحات توضح النهج الفرنسي الذي يدعم عدم توغل الاتحاد الأوروبي في الأزمة.
الجزائر التي ترغب في كبح التوتر مع الاتحاد الأوروبي، رحبت بالدور الفرنسي من دون أن تضطر لتقديم تنازلات له.
والدور الفرنسي المشار إليه كان يرمي كذلك لحلول فرنسا محل إسبانيا في علاقتها التجارية مع الجزائر.
وكانت العلاقة التجارية بين الجزائر وإسبانيا قد تطورت على أرضية حلول مدريد محل باريس في الواردات الجزائرية، وهو الإحلال الذي أعقب أزمة أكتوبر 2021.
الغاز الجزائري يمثل أحد أهم مفاتيح الدور الفرنسي في الأزمة. وكان أحد المسارات الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا خلال أبريل 2022، يتمثل في بناء تفاهم مع الدولة المغاربية لتزويد القارة الأوروبية بالغاز[40].
واضطلاع فرنسا بهذه المهمة جعل أول أهدافها من التدخل في الأزمة الفصل بين المسارين الإسباني والأوروبي في إدارة الخلاف.
الطرف الثاني الرافض للتعبئة ضد الجزائر تمثل في ألمانيا التي تحركت سريعا في أعقاب اندلاع الأزمة.
وأوفدت وزيرة الدولة في وزارة الخارجية الألمانية "كاتيا كيول، للجزائر، في 13 يونيو 2022. وحرصت المسؤولة على التأكيد على وجود تمايز بين الموقف الألماني والإسباني.
وفي هذا الإطار، صرحت "كيول" قبيل الرحلة بأن "الجزائر لاعب رئيس في حل القضايا الإقليمية في شمال وغرب إفريقيا، ومن المهم بالنسبة لي تكثيف الحوار السياسي مع المسؤولين الجزائريين"[41].
لم تخف "كيول" كذلك أن "أزمة الطاقة" أحد محركات هذا التواصل مع الجزائر، وصرحت- أيضا– بأنها ستعرض بصحبة وفد تجاري رفيع المستوى على الحكومة الجزائرية تعاونا أوثق في توسيع علاقاتنا في مجال الطاقة المتجددة، وهو ما نقلت وكالات الأنباء حدوثه فعلا خلال مقابلتها مع وزير الطاقة والمناجم الجزائري محمد عرقاب[42].
غير أن سياق الزيارة يكشف عن تجاوز المباحثات مع "عرقاب"، خاصة فيما يتعلق بتقنية إنتاج الهيدروجين الأخضر.
فعامل الوقت أكثر إلحاحا على دول أوروبا فيما يتعلق بتطورات أزمة الغاز الروسي، والتي بدأت غالبيتها اليوم تشكو من انخفاض الوارد منه بنسبة 50 بالمئة.
هذا بخلاف كل من بولندا وبلغاريا وفنلندا والدنمارك وهولندا التي أوقفت استقبال الغاز الروسي نتيجة رفضها الدفع لروسيا بعملتها "الروبل"[43].
وخط "نوردستريم 1"، الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، ومنه إلى مشتريه من الدول الأوروبية، يعاني من انهيار التوربينات الخاصة به، والتي تحتاج إلى صيانة تستغرق وقتا كبيرا، وتسببت في نقصان التدفق بنسبة تبلغ نحو 40 بالمئة.
ومن جهة ثالثة، فإن إيطاليا، التي تستورد 90 بالمئة من احتياجاتها من الغاز من روسيا، سبق لها أن اتفقت مع الجزائر، في منتصف أبريل 2022، على توريد كمية أكبر من الغاز، يبلغ مقدارها نحو 9 مليارات متر مكعب إضافية سنويا؛ فيما كانت وارداتها من الجزائر في عام 2021 تبلغ 21 مليار متر مكعب[44].
ومع اشتعال الأزمة مع إسبانيا، قررت الجزائر، في 25 مايو 2022، أن تجعل إيطاليا الموزع الحصري للغاز الجزائري في أوروبا. هذا الموقف أعلنه الرئيس تبون في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الإيطالي سيرجيو ماتاريلا خلال زيارة إلى روما[45].
المشكلة في هذا الإطار أن أوروبا تحاول بناء مخزون كاف؛ استعدادا لموسم الشتاء القادم، في الوقت الذي تجبرها فيه تصرفات روسيا على السحب من مخزونها الذي نقص عن 50 بالمئة، ما يهدد الأمن الطاقوي الأوروبي في الشتاء القادم.
وتحاول أوروبا تعويض ذلك عبر مشروعات عاجلة، منها توسيع نطاق الواردات الجزائرية، والترتيب السريع لخط النيجر، علاوة على الغاز الأميركي المسال القادم عبر الأطلسي.
وهذا هو السبب الرئيس الذي دفع القوى الأوروبية لمنع إسبانيا من إفساد "الفرصة الجزائرية". غير أن قدرة الاستخراج الجزائرية محدودة بسبب تقادم الاستثمارات، واحتياجات السوق الداخلية[46].
ورغم هذا، تحدث مراقبون عن خطط إيطالية لتعويض جزائري مرحلي يلبي الحاجة الفرنسية إلى جانب الإيطالية، مع وجود خطة تستغرق 150 يوما لاستكمال خط أنابيب ينقل الغاز النيجري إلى كل من إيطاليا وفرنسا[47].
وهي ترتيبات غير معلنة– إن صحت– فإنها تقتضي ترتيبات جيوسياسية جديدة تحتاج إليها كل من النيجر ومالي لتأمين خط الغاز هذا في بيئة يهتز فيها الحضور العسكري الفرنسي، فيما ينعدم الحضور الإيطالي تقريبا.
ب. الوضع الجيوسياسي: يرتبط اتجاه هذه القوى الأوروبية الثلاث بالمستقبل الجيوسياسي، بنفس درجة الرغبة في الإنقاذ الآني لأمن أوروبا الطاقوي، بل يمكن القول إن ملف الجيوسياسة يفوق الملف الطاقي من حيث الأهمية الإستراتيجية.
شهد العقدان الأخيران محاولات غربية حثيثة لجذب الجزائر غربا، وإنتاج حالة فك ارتباطها مع روسيا وأيضا الصين التي تبذل بدورها جهودا اقتصادية قوية لإدارة الدولة الجزائرية في الفلك الصيني– الروسي، من بوابة الاقتصاد لا من السلاح الذي تحتكر روسيا نحو 60 بالمئة منه[48].
وخلال الأعوام الخمسة الماضية بدأت زيارات متكررة لوزراء الدفاع والخارجية الأميركيين للجزائر تترى، في إطار هذا التوجه.
الجهود الغربية توجت خلال مايو 2022 بمشاركة نادرة للجزائر إلى جانب المغرب في تدريبات عسكرية مشتركة مع 7 دول عربية وأوروبية قبالة سواحل تونس وخططت لها القيادة الأميركية لإفريقيا "أفريكوم"، وهي مناورات "فينيكس إكسبرس 2022"، والتي انتهت في 4 يونيو 2022، وتتعلق بمكافحة الإرهاب[49].
وفي إطار المواجهة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والثنائي الروسي– الصيني من جهة أخرى، تخوفت دول أوروبا، ومن ورائها واشنطن من أن تؤدي عزلة الجزائر أوروبيا إلى مزيد من ارتمائها بين الأذرع الروسية– الصينية الممتدة إليها، ما دفع فرنسا وألمانيا وإيطاليا للمسارعة لفصل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي عن العلاقة مع إسبانيا.
هذا المسعى يمكن جعله رؤية إستراتيجية غربية في التعاطي مع بلد مثل الجزائر، سبق لها في عام 2016 أن تبنت برنامجا يهدف إلى تنويع اقتصادها، ثم عقدت اتفاق شراكة إستراتيجية مع الصين في 2018، علاوة على سلسلة طويلة من الاتفاقات ذات الطبيعة الاقتصادية، سواء في إطار "مبادرة الحزام والطريق" أو في إطار العلاقات الثنائية بين البلدين.
خاتمة
الأزمة الجزائرية الإسبانية من أكثر الأزمات حساسية من حيث توقيتها، ولعل هذه الحساسية ما جعلت نطاقها يتسع بسرعة لغرض احتوائها، لا حسمها لأي من طرفيها.
يحرك الأزمة 3 عوامل أساسية، أولها ملف الصحراء الذي أدى لتفجرها نتيجة لتغير موقف الحكومة الإسبانية من معارضة مقترح الحكم الذاتي الذي قدمته المغرب في 2007 إلى قبوله، بل والنظر إليه على أنه أكثر الحلول المطروحة للقضية قابلية للتطبيق. الموقف الإسباني أدى لمتتالية تصعيد فاقمت الأزمة.
تأتي الأزمة في إطار من حرب روسية على أوكرانيا، ما دفع دولا أوروبية، وحتى الاتحاد الأوروبي نفسه، إلى تبني تقارير تؤكد أن الأزمة رتبت لها روسيا لإحداث وقيعة أوروبية قبل قمة مدريد، ما يقود لتوجيه أصابع الاتهام إلى الجزائر في الأزمة.
الغاز الجزائري كان أحد أهم أسباب تصاعد الأزمة بقدر ما كان أحد عوامل كبتها. إذ أدى لتفاقمها بعد إعلان الجزائر نيتها إعادة تسعير عقود الغاز. كما كان أحد أهم عوامل كبتها نتيجة أزمة الطاقة التي خلفتها الحرب الروسية على أوكرانيا.
كان الاتحاد الأوروبي منحازا ومتسرعا في مساندة إسبانيا التي ارتفع صوتها بالغا حد التهديد.
وبلغ تحيز الاتحاد الأوربي درجة التلويح بتأثير الأزمة على اتفاقية الشراكة مع الجزائر.
وهو ما دفع دولا عدة للتدخل لفصل مسار الأزمة عن الاتحاد الأوروبي، والحرص على استمرار ضخ الغاز الجزائري لأوروبا، ومنع الجزائر للدخول في مرحلة عزلة عنها قد تلقي بها إستراتيجيا بين أذرع كل من الصين وروسيا.
المصادر: