مبادرة الشباب المعتقلين في سجون مصر.. فتّش عن الحقيقة الغائبة
في أقل من شهرين خرجت من السجون المصرية مبادرتان، تم نسبتهما لمعتقلين شباب، طالبوا فيهما قيادات جماعة الإخوان المسلمين بالتراجع خطوة للوراء لإنهاء حالة الاحتقان السياسي الذي تعيشه مصر.
في كل مرة تنقسم الآراء حول هذه المبادرات بين مؤيد ومعارض، وبين المطالب بحل لإنهاء المعاناة الإنسانية التي يعيشها ما لا يقل عن 50 ألف معتقل ما بين شيخ طاعن في السن، وشاب فقد الأمل في مستقبل أفضل، وسيدة لا تعرف شيئا عن أبنائها، وفتيات يقضين أفضل أيام حياتهن خلف القضبان.
فريق آخر يرى في مثل هذه المبادرات خيانة، وقلبا للحقائق، مؤكدين أن المعتقلين صابرين على طول الخط، وأنهم مستعدين لقضاء حياتهم خلف القضبان في سبيل الدفاع عن آرائهم ومواقفهم الرافضة للانقلاب العسكري.
وبين الفريقين يظل أصحاب الشأن أنفسهم هم أصحاب المعاناة الحقيقية، فهل يمثّل ما يخرج عنهم من مبادرات خيانة لقضيتهم، أم أنهم بحاجة لإطلاق صرخة ألم تعبر عن معاناتهم؟ وهل هذه المبادرات تعبر عن شباب تنظيم الإخوان أم أنها من شباب لا ينتمون للجماعة؟ ولماذا يتم تسريب مثل هذه المبادرات بين الحين والآخر بعلم الأجهزة الأمنية.
أحدث مبادرة
حسب ما نشره الإعلام المؤيد للإنقلاب العسكري، فإن 1350 شابا وقّعوا علي المبادرة منذ أيام، وحددوا فيها بعض النقاط للخروج من الوضع الراهن، منها أن يتعهد المتقدم بطلب الإفراج بعدم المشاركة السياسية مطلقًا، واعتزال كل أشكال العمل العام بما فيها الدعوي والخيري، ويقتصر نشاطه على استعادة حياته الشخصية والأسرية، وللأجهزة الأمنية اتخاذ التدابير الاحترازية التي تراها مناسبة لضمان ذلك، بما لا يخل بحريتهم، ويحفظ لهم كرامتهم.
واقترحت المبادرة، كبادرة لحسن نية من المتقدمين بطلب الإفراج، أن يتم دفع مبلغ مالي تحت المسمى الذي يتم التوافق عليه (كفالة - فدية - تبرع) لصندوق تحيا مصر بالعملة الأجنبية، دعما لتعافي الاقتصاد المصري، كمثال: 5 آلاف دولار لكل فرد، ما سيوفر للدولة مبالغ تزيد عن 5 مليارات جنيه كأقل تقدير.
واقترحوا أيضا أن تقوم الأجهزة الأمنية بدورها بمراجعة ملفات الأفراد المتقدمين، وتسمية جهة للإشراف على هذه المقترحات مثل الأزهر الشريف، أو المجلس القومي لحقوق الإنسان، أو غيرها من الجهات التي يمكن التوافق حولها.
وأكد الموقعون أن مبادرتهم شبابية مستقلة بغرض إنهاء معاناة المسجونين وأسرهم، فرادى لا جماعات، ولا تمثل أي جماعة أو كيان وليس لها أي علاقة بمبادرات أخرى، وأنهم يدعون المسؤولين إلى النظر إلى هذه المبادرة بعين الرحمة لهؤلاء المسجونين.
حرص الشباب في مبادرتهم على التذكير بأنهم لا يزالون أبناء مصر، ولا يعقل أن تستمر معاناة الآلاف بهذا الشكل بسبب قرار لحظي اتخذوه في إطار أحداث مرت عليها سنوات طويلة، ونالهم ما يكفي من المعاناة هم وأسرهم، وهم على استعداد لتقديم كافة الضمانات لأي تخوّف وارد.
صرخة أم تسريب؟
لم تختلف ردود الأفعال على المبادرة الأخيرة لشباب المعتقلين، عن غيرها من المبادرات السابقة، حيث التقطها الإعلام المؤيد لنظام الإنقلاب العسكري بترحيب وشماتة ليس لهما مثيل، واعتبروا المبادرة انعكاسا لغياب الثقة بين الشباب وقيادتهم، وأنها تشير إلى أن الجماعة باتت في حكم الماضي، وفقدت السيطرة على شبابها.
في المقابل، رأى المعارضون للانقلاب في المبادرة خطة أمنية مفضوحة يمارسها جهاز الأمن الوطني بين الحين والآخر، من أجل زرع "أسافين" بين الجماعة وشبابها، واللعب على وتر معاناتهم بالسجون، لدفع قيادات الإخوان بالقبول بأية أطروحات صادرة عن النظام الحاكم، لإنهاء الأزمة السياسية، بما فيها الاعتراف بنظام الانقلاب، والاعتراف بخطأ إدارة الجماعة خلال المرحلة الماضية.
ما يلفت النظر وفق المتابعين، أن هذه المبادرة الأخيرة، تعد الأولي بعد رحيل الرئيس محمد مرسي في 17 يونيو/ حزيران الماضي، كما أنها صدرت عن مجموعة من الشباب، دون أن يكون من بينهم أي قيادات شابة من الإخوان أو غيرهم من الحركات الإسلامية الأخرى.
رؤية من الداخل
خالد حمدي الناشط الإخواني الذي سبق اعتقاله كتب على صفحته بفيسبوك، أن المبادرة تشوبها الكثير من علامات الاستفهام، ورغم دفاع حمدي الذي اعتبره البعض بُعدا عن الواقع الذي يعيشه المعتقلون، إلا أنه كشف عن تواصله مع عدد من الشباب داخل السجون، ونفوا إقدامهم على هذه الخطوة، موضحا أنها واحدة من محاولات الأمن الوطني المستمرة لتدمير العلاقة بين القيادات الجماعة وشبابها.
وربط حمدي بين ظهور المبادرة وحلول الذكرى السادسة لمجزرة رابعة، وكأنها خرجت في هذا التوقيت للفت الأنظار عن ذكرى المجزرة البشعة.
ورغم الانقادات التي وجهها البعض لحمدي، إلا أن آخرين يرون أن هذه المبادرة، تأتي ضمن خطط متعددة لجهاز الأمن الوطني في السجون، من أجل حصار قيادات الجماعة في زاوية ضيقة، حيث سبقت هذه المبادرة واحدة شبيهة في أبريل/ نيسان الماضي، وانحصرت مطالب الموقعين عليها في فتح الزيارات وإدخال الأدوية، وتقديم الرعاية الصحية للمعتقلين في السجون، وقبل ذلك الاعتراف بشرعية الانقلاب.
وحسب شهادات استمع إليها "الاستقلال" من معتقلين سابقين، فإن الأمن الوطني قام بالفعل بالعديد من المراجعات داخل السجون، واعتمد فيها على عدد من الدعاة المحسوبين على نظام السيسي من أبرزهم مستشاره للشؤون الدينية أسامة الأزهري، ولم يكن الهدف من هذه المبادرات المراجعة الفكرية للمعتقلين، وإنما المراجعة السياسة لهم، ودفعهم للتبرؤ من جماعة الإخوان.
وحسب الشهادات نفسها، فإن حادثة المبادرة التي أطلقها شباب المعتقلين في قضية أحداث مطاي، وهتافهم ضد المرشد العام للإخوان الدكتور محمد بديع، وإهانتهم له أمام وسائل الإعلام التي كانت تقوم بتغطية الجلسة، على أمل إطلاق سراحهم في نفس اليوم وفقا لاتفاق جرى بينهم وبين ضابط الأمن الوطني أحمد سيف المسؤول عن السجون، إلا أنه بعد خداعهم أصدر نفس الشباب بيان اعتذار للمرشد العام وأكدوا فيه أن ما جرى كان بناء على ضغوط من الأمن الوطني.
هل يئس الشباب؟
وفق العديد من الدراسات التي أجريت حول أوضاع السجون المصرية، فإن الشباب مثل غيرهم من المعتقلين يعانون ظروفا معيشية وصحية سيئة، بعضهم دفعه اليأس لمحاولة الانتحار، كما أن الأوضاع المعيشية لأسرهم في الخارج تمثل عبئا متزايدا عليهم.
أمام ذلك كله ليس هناك بصيص أمل في ظل الأحكام المشددة التي يحصلون عليها، وفي ظل غياب أي مبادرات سياسية حقيقية بين المعارضة بما فيها جماعة الإخوان، ونظام الإنقلاب العسكري.
وترى هذه الدراسات أنه في مقابل ذلك، فإن النظام العسكري الحاكم يعاني هو الآخر من أزمة خطيرة نتيجة الوضع الراهن في السجون، في ظل التحذيرات التي أطلقتها العديد من مراكز أبحاث متخصصة، بأن السجون تحولت لحاضنة مقلقة للأفكار المتطرفة، وهو ما يمثل خطرا على النظام السياسي، والمجتمع الدولي بشكل عام.
كذلك أكدت تقارير عديدة لمنظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، والدراسة الأخيرة التي أعدها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان تحت عنوان "كالنار في الهشيم .. نمو التطرف العنيف داخل السجون المصرية".
دراسات وتحليلات أخرى ذهبت إلى أن المراجعات التي يتم إطلاقها بين الحين والآخر من داخل السجون، ليست مراجعات فكرية بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي أشبه بإقرارات التوبة التي يطلبها النظام من المعتقلين لإطلاق سراحهم، أو تخفيف القبضة الأمنية التي تحيط بأسرهم على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
وبالعودة للشهادات التي استمع إليها "الاستقلال" من معتقلين سابقين، فإن الوضع المعيشي داخل السجن، وفقدان الأمل في حل للأزمة السياسية، تدفع بعض المعتقلين وخاصة من الذين لا ينتمون لجماعة محددة، إلى اليأس من الوضع الذي يحيط بهم، وهو ما يدفعهم للتفكير في بدائل.
هذه الفئة تحديدا تحظى بمراقبة من جهاز الأمن الوطني في السجون، ليس لكونهم الأضعف، ولكن لكونهم الأسهل في التفاهم مع الجهاز، نتيجة عدم انتمائهم لجماعة تحكمها قواعد وضوابط، ربما تقف عائقا أمام مخططات هذه الأجهزة الأمنية.
وتشير نفس الشهادات إلى أن ذلك يبرر السبب في عدم خروج أي من هذه الدعوات والمبادرات عن شخصيات معروفة في جماعة الإخوان، سواء كانوا شبابا أو شيوخا، وإنما على العكس من ذلك تخرج رسائل شباب الإخوان مثل أحمد عارف وجهاد الحداد حاملة معاني عديدة عن الصمود.
إلا أن هذا لا يعني وفق الشهادات التي استمعنا إليها أن السجن يروق لهؤلاء الشباب أو القيادات الإخوانية، حيث يعانون مثل غيرهم من ظروف معيشية وطبية وأمنية صعبة للغاية، وربما تصل لحد التصفية والقتل البطئ، كما يحدث منذ سنوات مع معتقلي سجن العقرب الذي يسكنه معظم قيادات الإخوان البارزين.
بل إن عددا من قيادات الجماعة دفعوا حياتهم ثمنا لمواقفهم مثل الرئيس الراحل محمد مرسي، والمرشد العام السابق للإخوان محمد مهدي عاكف، والقيادي بحزب الحرية والعدالة فريد إسماعيل.
علامات استفهام
تحليلات إعلامية عديدة أشارت إلى أن هذه المبادرات، الهدف منها إحداث انشقاق بين قيادات الإخوان وشباب الجماعة أو الجماعات الأخرى، خاصة وأن قيادات الإخوان المعتقلين، معظمهم بسجن العقرب، وخروج أي مبادرة عن السجون لا تضمن موافقتهم، مشكوك فيها لعدة أمور، منها استحالة التواصل مع هذه القيادات، وصعوبة التواصل بين بعضهم البعض، بالإضافة إلى أن هذه المبادرات عليها كثير من علامات الاستفهام.
فيما تشير تحليلات المختصين بشؤون الحركات الإسلامية إلى أن كل المبادرات التي تصدر من السجون موجهة ضد قيادات الإخوان، وتحمّل القيادات المعتقلة مسؤولية استمرار سجن الشباب وإعدامهم، ما يشير إلى أن مصدر معظم المبادرات هو قطاع الأمن الوطني- بشكل أو بآخر- الذي يستغل رغبة الشباب في الخروج من السجون.
ووفق باحثين مختصين، في الحركات الإسلامية تحدثوا لعدد من وسائل الإعلام عن المبادرات التي يتم إطلاقها بين الحين والآخر، فإن هناك فارقا كبيرا بين مراجعات الجماعة الإسلامية عام 1997، التي أعلن فيها قيادات الجماعة وعلى مرأى الجميع نبذهم للعنف، وبين وضع جماعة الإخوان في المشهد السياسي الراهن.
حسب هذا الرأي فإن أزمة الجماعة الإسلامية، لم تكن نتيجة خلاف سياسي مع النظام الحاكم، وإنما كانت بسبب خلاف عقائدي مع الدولة ومؤسساتها، وصلت لحد تكفير الحكام ومعاونيهم، والدعوة لتغيير نظام الحكم بالقوة، وهي القوة التي اتخذت أشكالا مختلفة من بينها الاعتداء على السياح وتفجير المنشآت الحكومية، وهو ما يختلف عن الموقف مع جماعة الإخوان.
أنصار هذا الرأي يؤكدون أن الأزمة بين النظام العسكري والإخوان، ليس خلافا عقائديا يحتاج لمراجعة من الإخوان، وإنما هو خلاف سياسي ناتج عن اغتصاب العسكر لسلطة سياسية شرعية انتخبها الشعب، من خلال انقلاب دموي، كان سببا في مقتل الآلاف من جماعة الإخوان وأنصارهم بطرق مختلفة، تنوعت بين فض الإعتصامات بالقوة، والتصفيات الجسدية، وأحكام الإعدام التي أصبحت أمرا اعتياديا لدى النظام الحاكم.
ووفقا لما سبق فإن الجماعة لم تكن على خطأ فكري، تحتاج لمراجعته، وأن الأزمة بينها وبين النظام العسكري سياسية متعلقة بشرعية وجوده، وهو ما يجعل المقارنة بين موقف الجماعة الإسلامية وجماعة الإخوان مختلفا سياسيا وشرعيا.
المصادر
- سيكولوجيا السجن: ما يحدث في سجون مصر
- مراجعات السجون.. السلطة والجماعات ودوامة الدم (1-2)
- مراجعات السجون.. السلطة والجماعات ودوامة الدم (2-2)
- الإهمال الطبي يهدد حياة المعتقلين داخل السجون المصرية
- مصر: وفاة 823 معتقلاً داخل السجون منذ انقلاب 2013
- معتقلون مصريون يطرحون مبادرات للخروج من السجون
- “مبادرات السجون”.. أداة أمن الانقلاب للوقيعة بين الإخوان في السجون
- القصة الكاملة لـ "مبادرة الشباب المستقل بالسجون المصرية" الداعية للتبرؤ من الإخوان
- هكذا يستخدم السيسي مبادرات السجون ضد قيادات الإخوان
- صناعة التطرف في السجون: هل تنجح المبادرات الدولية في كبح جماحها؟
- مراجعات شباب الإخوان في سجون مصر... نقد لتجربة الجماعة أم مجرّد "إقرارات توبة"؟
- مصر: ضغوط على معتقلين لتوقيع إقرارات نبذ العنف
- كالنار في الهشيم .. نمو التطرف العنيف داخل السجون المصرية
- أول رد من إخوان السجون على تجاهل الجماعة: نطالب الدولة باحتوائنا ونعتزل العمل السياسي والدعوي