الجزائر وأحزابها المرعوبة
رغم مرور نصف سنة من الحراك الشعبي في الجزائر إلا أن الوساطات السياسية المفترضة التي جاءت بها انتفاضة 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1988 لا تزال أسيرة ما قبل حراك 22 فيفري (فبراير/ شباط) 2019، خاضعة لنطاق سلطة الأمر الواقع التي تحرص على فرض نسقها على الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والنخب العلمية والثقافية.
أولى ضحايا الرعب المزدوج الذي أحدثه الحراك الشعبي والسلطة الفعلية؛ هم أحزاب العهدة الخامسة لبوتفليقة، وهي أحزاب تعاني الحصار والإقصاء من طرف الجميع رغم محاولتها التكيف مع الأوضاع الجديدة وتقديم نفسها بمظهر التنازل لصالح المعارضة البرلمانية والحراك الشعبي، بل وتقديم الاعتذارات للشعب الجزائري عن أخطائها وذلك بإيصال قيادات تعتقد أنها ليست شريكة في الجريمة إلى مواقع المسؤولية لتعوض القيادات المسجونة والمتورطة في الفساد أثناء ممارستها للسلطة في حكومات بوتفليقة المتعاقبة.
وباسم أحزابها التي لا يمكن أن تتنصل من مسؤولياتها في تعفين الساحة السياسية والمناصب الحكومية بمجموعة من الوزراء والمسؤولين الفاسدين، إذ تلحق قضايا نهب المال العام أحزاب الموالاة بدون استثناء، وعلى رأسهم الأمين العام السابق للتجمع الوطني الديمقراطي، أحمد اويحي ورئيس الحكومة لعدة مرات، والأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني جمال ولد عباس، ورئيس تجمع أمل الجزائر عمار غول، ورئيس الحركة الشعبية الجزائرية عمارة بن يونس، الذين جمعهم بوتفليقة في تحالف رئاسي داعم له للعهدة الخامسة، رفقة أحزابهم في حكوماته الكثيرة حيث تقلد هؤلاء عدة وزارات تكشف المتابعات الأولية بأن حجم الفساد ونهب المال العام يعادل ميزانيات دول بأكملها.
لقد نجح بوتفليقة منذ مجيئه للحكم في إعادة حزبه "جبهة التحرير الوطني" إلى واجهة الأحداث ليرأسه ويسيّره دون أن يحضّر لأي مؤتمر أو نشاط له طيلة وجوده في الحكم، لينتقم منه بطريقته الخاصة عندما تم عقابه من طرف هذا الحزب إبان فترة حكم الحزب الواحد حزب جبهة التحرير الوطني، الذي أدان بوتفليقة مع مطلع الثمانينات بقضايا فساد أثناء تسييره لوزارة الخارجية خلال فترة حكم الرئيس هواري بومدين.
كما استطاع بوتفليقة أن يحجّم من دور التجمع الوطني الديمقراطي الذي أنشأته السلطة الفعلية سنة 1997 في عملية انشقاقية عن حزب جبهة التحرير الوطني، الذي خرج عن بيت طاعة السلطة أثناء فترة تولي الأمين العام السابق عبدالحميد مهري تسيير الحزب، وحاول أن يجعل منه حزبا مستقلا ملكا لمناضليه.
لكن سلطة الأمر الواقع آنذاك انتقمت منه بعملية انقلابية أزاحته من رئاسة الأمانة العامة للحزب ودفعت مجموعة من مناضليه للانشقاق عنه وتأسيس حزب التجمع الوطنى الديمقراطي، الذي دشن مرحلة الانتخابات المزورة، التي لم تتوقف لحد الآن رغم تغيير مواقع أحزاب الريع السلطوي التي حافظت على تقديم الخدمة للسلطة الفعلية على حساب تطلعات الشعب الجزائري في تحقيق الانتقال الديمقراطي والنهوض الاقتصادي.
كما نجح نظام بوتفليقة في شق المعارضة التي اقتربت من نعيم البحبوحة المالية التي رافقت حكمه، حيث دفعت حركة مجتمع السلم ضريبة المشاركة في حكوماته وتعوّد العديد من مناضليها على الحياة الجديدة التي وفرتها المناصب الحكومية، وذلك بميلاد مناضلين ملتصقين بمشاريع السلطة، فأنجب ذلك انشقاق مجموعة من المناضلين والقيادات بقيادة الوزير عمار غول، الذي انتهى به المطاف إلى سجن "الحراش" رفقة الأمين العام السابق للتجمع الوطني الديمقراطي أحمد اويحي، والأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني، جمال ولد عباس، ورئيس الحركة الشعبية الجزائرية عمارة بن يونس.
هذا الأخير انشق عن حزبه التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وقد كان أمل أنصار اليسار الجهوي والمطلب الأمازيغي في تحقيق المطالب التاريخية الخاصة بالهوية الأمازيغية والمشاركة في الحكم بديلا لسياسة المعارضة الراديكالية التي انتهجها حزبهم السابق "جبهة القوى الاشتراكية"، الذي فضل مواصلة مسار 1963 والإصرار على المطالبة بمجلس تأسيسي ليصفي حساباته التاريخية مع من أقصى تيارهم من المشاركة في الحكم.
أرادت أحزاب الوزراء أن تجدد جلدها والتنصل من تركة ثقيلة من الدعم والمساندة والتزكية السياسية لكل حكومات بوتفليقة بدون استثناء، التي تلاحقها قضايا الفساد ونهب أموال الجزائريين، التي أوصلت هؤلاء الوزراء والمسؤولين إلى سجن "الحراش" كما أوصلت عرابيهم الفاسدين إلى سجن "البليدة" في قضايا أخطر متعلقة بالتآمر على سلطة الدولة.
وهذه القضايا ستمتد إلى العديد من الوزراء الفاسدين ورجال المال والصفقات العمومية التي استفادوا منها من غير وجه حق وخارج التنظيمات والقوانين المعمول بها.
إنها أحزاب فقدت كل مصداقية لدى الشارع الجزائري وهي تقاوم لجمع شتاتها المتكون من جيش من المنتفعين والانتهازيين من نظام بوتفليقة لعلها تقاوم تسونامي الحراك الشعبي، الذي يبدو أنه حفظ جيدا دروس الانتفاضة الشعبية ونضالات ثمانينيات وتسعينات القرن الماضي التي جاءت بديمقراطية منقوصة أعادت إنتاج نفس النظام وبنفس المواجهة الحزبية جبهة التحرير الوطني مع إدخال ربيب من نفس التيار، وهو حزب "التجمع الوطني الديمقراطي"، واقتطاع جزء من الإسلاميين واليساريين ليشاركوا جميعا في أدوار الكومبارس السياسي الجزائري.
فقد ساهمت أحزاب التيار السلمي والتيار اليساري الجهوي في إنتاج نخب سياسية مارست الحكم ولم تختلف في ممارستها عن أحزاب التيار الوطني، حتى وإن أنشأت هذه النخب أحزابها الخاصة بها وتبرؤها من تاريخها السابق، فتحول عمار غول القادم من حزب حركة مجتمع السلم السلمي الذي أوصله للوزارة إلى متبنٍ لأيديولوجية هلامية تسبّح بحمد وشكر ولي النعمة، كما شاركه في نفس السعي عمارة بن يونس القادم من التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ذو التوجه اليساري الجهوي، الذي تبرأ هو الآخر من تاريخه السياسي ليضمن مقعدا في فرقة الجوق البوتفليقية.
إن أحزاب المعارضة السلمية والوطنية واليسارية لم تستوعب جميعها اللحظة التاريخية التي وفرها لها الحراك الشعبي لتسوية حساباتها مع نظام بوتفليقة الذي أبدع في شق صفوفها عن طريق شراء ذمم المسؤولين السياسيين، ونشر ثقافة الريع في أوساط المناضلين ليورط أكبر عدد ممكن ممن يحملون مشاريع سياسية للتغيير وتكبيلهم بفتات السلطة الذي تنثره على هذه القيادات الحزبية والملتفين حولها وتوابعهم في التنظيمات الطلابية والشبابية والجمعوية وغيرها.
فلم تستجمع هذه الأحزاب قواها الفكرية والبشرية بعد للقيام بالمراجعات اللازمة على مستوى الخطاب السياسي وتجديد المسؤوليات والهياكل، وربما حتى أسماء أحزابها في قطيعة مع رجال وممارسات الحقبة السابقة، التي لم تكشف لحد الآن بكل مآسيها في حق الحزب و الوطن.
إن عملية المراجعات حدثت في كثير من تجارب الدول إثر انتفاضات أو ثورات شعبية ونجحت عدة أحزاب في إعادة إنتاج نفسها بعد أن تخلصت من كل أثقال الأيديولوجيات غير الواقعية ومن القيادات المتحجرة أو الفاسدة لتساهم في شكلها ومضمونها الجديدين في ترقية الممارسة الديمقراطية.
في حين تواصل أحزاب المعارضة الجزائرية سياسة الحضور العلمي المكثف ومحاولات اللحاق بالحراك الشعبي التي رفضها ولا يزال، لتعوض ذلك بندوات القاعات المغلقة وتقديم مقترحات ومبادرات بشكل فردي وجماعي دون أن تسند ذلك بعمل ميداني كفتح حوار مباشر ونزول للتحاور مع نشطاء الحراك وقواه الحية، وعلى رأسها الطلبة والشباب لعلها تفلح في إقناعهم بخططها للخروج من الأزمة وتحقيق أهداف الحراك الديمقراطية، فرغم صعوبة الهمة إلا أنها تعيد للعمل السياسي قيمته ومصداقيته مما يعضد جهود الأحزاب في فرض رؤيتها للتغيير والانتقال الديمقراطي على سلطة لا تعترف إلا بمسيرات الجماهير الثائرة.
أمام غياب هذا التحرك وجدت الموالاة والمعارضة نفسها تعيش في خندق واحد رغم اختلاف درجات التموقع، فهي تعاني من رعب الحراك الشعبي الذي يطالب بتبدد أحزاب الموالاة وتجدد أحزاب المعارضة في فرصة أخيرة لها قبل أن يطالبها هي الأخرى بالخروج من الساحة السياسية لبروز قوى جديدة تمثله.
في المقابل يتواصل الرعب الذي تمارسه السلطة الفعلية على قادة الأحزاب، خاصة وأنها تدرك أنهم لا يمثلون أي عمق شعبي ذي تأثير وتعتبرهم غير مؤهلين للقيام بأي وساطة سياسية لعلمها بإفلاس هذه الأحزاب على المستوى الجماهيري وعدم قدرتها على تمثيل الحراك، الذي تجاوز كل الظروف الصعبة التي اعترضت سبيله طيلة 26 أسبوعا في سابقة جزائرية وعربية تذكّر العالم من جديد بعبقرية الشعب الجزائري في الانتفاضة على كل من يريد إذلاله واللعب بمصيره ومستقبله.
فلم يستطع شهر أوت (أغسطس/ آب) وهو شهر العطل بامتياز وخروج الأغلبية الساحقة من الجزائريين رفقة عائلاتهم لقضاء إجازتهم السنوية داخل الوطن وخارجه أن تخمد نار الحراك الملتهب بشكل متواصل منذ ستة أشهر، وليواصل الطلبة في عز العطلة الصيفية مسيراتهم كل ثلاثاء ليلهموا جماهير الجمعة مواصلة السير حتى تحقيق كل مطالب التغيير.
رغم أن الأحزاب السياسية اعتادت أن تنظم جامعاتها الصيفية ومخيمات فروعها الطلابية والشبابية والجمعوية في هذه الفترة من كل عام، الذي كان من المفروض أن يكون عاما متميزا نظرا لخصوصيته التاريخية ويتحول إلى فرصة للتفاعل مع مختلف شرائح الشعب وتنظيم اللقاءات الحوارية للوصول إلى إعادة صياغة الرؤية السياسية للحزب لتتوافق مع التحول الذي شهده المجتمع الجزائري، وبث روح جديدة في منظوماتها خاصة وأن الملايين من الجزائريين والجزائريات أعادوا علاقاتهم بالسياسة وكل الشأن العام الذي لم يعد مقتصرا على فئة معينة بل أصبحت هموم الوطن ومستقبله قضية كل فئات الشعب الجزائري داخل الوطن وخارجه.
وهي فرصة لبناء نظام ديمقراطي حقيقي ينهي حقبة الديمقراطية الصورية ويعود بالإيجاب على البلد والحياة السياسية القاطرة لجميع مناحي الحياة العامة، وللتخلص نهائيا من نظام استطاع أن ينتقل من حالة إلى حالة دون كلفة سياسية كبيرة مما أعطاه ثقة في النفس في الحفاظ على جوهره ولا يهمه التضحية بالطرائف والزوائد.
إن الرعب الذي أصاب قيادات أحزاب الموالاة قد امتد إلى أحزاب المعارضة وهو رعب أحدثه الحراك الشعبي من جهة برفضه منذ اللحظات الأولى المشاركة أي رمز من رموز هذه الأحزاب وعلى رأسها القيادات وكذلك اضطرارها لتغيير جدول أعمالها من الانخراط في مشروع الانتخابات الرئاسية إلى ملاحقة الحراك الذي جرف نظام بوتفليقة، فما بالك بأحزاب انتفض عليها معظم مناضليها ليكرسوا جهدهم في إنجاح الحراك الشعبي دون إنتظار أي توصيات أو تعليمات من قيادات أحزابهم التي تفقد يوما بعد يوم مصداقيتها لدى المناضلين فضلا عن المواطنين.
من جهة أخرى أحدث الحراك الشعبي حركية داخل دواليب السلطة الفعلية شجعها للمضي في تفعيل "المنجل" وهو حملة قطع رؤوس الفساد التي أنعشت الشعب الجزائري ورفعت من منسوب الثقة بمؤسسته العسكرية التي دعمت هذا التوجه مما شجع جهاز القضاء وكل المخلصين لمباشرة هذه الحرب الشريفة ضد الأعداء الداخليين للجزائر وهم من كانوا يسرقون وينهبون ويخربون ويُيئسون أبناء الجزائر من أي محاولة لخدمة وطنهم.
هذه الحملة التي طالت رؤساء حكومات، وزراء ورؤساء استخبارات وقادة عسكريين سامين وولاة جمهورية وغيرهم، تلقاه شركاؤهم في المعارضة المدجنة بخوف كبير خشية أن تفتح ملفاتهم هم الآخرين، وحتى لا تبقى زعيمة الطبقة الكادحة الأمينة العامة لحزب العمال الشيوعي لوحدها، وهي المسؤولة الحزبية التي كانت تصنف كمعارضة راديكالية لنظام اشتغلت معه خفية طيلة سنوات طويلة واستفادت من ريعه وحاولت أن تساهم في إنقاذه رفقة رأس العصابة السعيد بوتفليقة ورئيس المخابرات السابق محمد مدين وخليفته عثمان طرطاق.
من هنا نفهم سر صمود نظام بوتفليقة في أطول فترة حكم لرئيس جزائري الذي تحالف معه قادة الريع البترولي في الدولة وإخوان ورفاق الفساد في المعارضة.