مجزرة رابعة ورحيل الرئيس
"يا كاتب التاريخ لا تغلق الصفحات"، جملة تعودنا كتابتها والاستماع إليها عندما نتغزل في صنيع أحدهم أو نحتفي بإنجاز ما نريد للتاريخ أن يخلده أو نوثق لحدث بعينه نخشى أن يتم تزييفه.
في مثل هذا اليوم، ارتكب النظام المصري المجرم أبشع وأكثر المجازر دموية في التاريخ المصري القديم والحديث بحق المعتصمين في ميادين رابعة والنهضة وعلى مدار الأعوام الست الماضية تعودنا ممن نجوا من المذبحة مدعومين بالقنوات الفضائية والمؤتمرات الصحافية والمقالات وبعض الحفلات إلى جانب الأفلام الوثائقية والكليبات الثورية، تعودنا أن نتابع ما يعرف بإحياء ذكرى المذبحة، فيتذكر كل صديق صديقه الذي استشهد بالرصاص بين يديه وتتذكر الفتاة الصغيرة زميلتها الشهيدة التي رأت موتها بأم عينيها أمام المنصة أو في ممرات الخروج من المذبحة.
في الذكرى الأولى للمجزرة كنت وقتها في الأيام الأولى لعملي كإعلامي ومقدم برامج، وأذكر أنّي بكيت على الهواء مباشرة في حلقة قدمتها عبر فضائية مكملين، وأنا أستمع لشهادات بعض ضيوفي آنذاك ممن حضروا رابعة وكنت معهم، وأذكر أيضا أن ثلاثة من ضيوفي الشباب انهاروا في نوبة من البكاء عند تذكرهم لما حدث فقد كانت العواطف جياشة وجراح القلوب طازجة والدماء لم تجف بعد وكانت أغنية "حورية وطن" للفنان محمد الصنهاوي أو صوت الفنان محمد عباس وهو يرجوك في أغنيته "متخليهومش يكسروك" كافيتين لتأثرك الشديد وبكاءك المتواصل واستعدادك للعودة إلى رابعة مرة أخرى، كانت قناة "مكملين" صاعدة بسرعة الصاروخ، وقناة "الشرق" في حديث دائم عما حدث، وقناة "مصر الآن" تستعد للانطلاق وكانت قبلهم "الجزيرة مباشر مصر" في أوج عطائها وحديثها عن إحياء في الذاكرة وأمور أخرى خلّدت بها ذكرى رابعة، ولكن لا حال يبقى كما هو وخاصة إذا انحرفت البوصلة فما الذي تغير؟
في الذكرى الثانية للمجزرة كانت المعارضة المصرية في إسطنبول على موعد مع انقسام كبير داخل أكبر فصيل معارض في مصر وبدا الحديث عن فريقين داخل جماعة الإخوان المسلمين، وأصبح إحياء الذكرى الثانية والثالثة والرابعة والخامسة يسبقه سؤال: "من المنظم؟" أهو هذا الفريق أم الآخر؟ وبناء على ذلك تحوّل ذهابك لإحياء الذكرى وتذكر مآسي القتل والسحل والدماء من أولوية قلبية وعاطفية إلى مرتبة ثانية تأتي بعد تحكيم العقل واختيار دعم هذه الجهة المنظمة أو تلك، ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد انتشرت آفة الانقسام لتضرب المعسكر المعارض وقياداته بشكل عنيف فلم يسلم تيار أو مسار معارض سواء كان إعلاميا أو سياسيا أو حتى الحقوقي من آثار هذه الانقسامات فهذا مع الشرعية وهؤلاء ضد الشرعية، وهذا يريد عودة الرئيس وذاك يريد الاصطفاف مع العائدين من الثلاثين من يونيو، وهذا ثوري وذاك انقلابي وهذا إعلامي مهني وذاك ليس بإعلامي وهذا متحدث رسمي وذاك منتحل لشخصية المتحدث الرسمي، حتى اختلطت الأمور واختلط الحابل بالنابل ولم تعد تعرف من المخلص من المندس على هذا المعسكر وبات الحال في كل ذكرى مع الأسف أن تعلن جهة ما عن فعالية إحياء ذكرى المذبحة فتنفجر في وجوههم تعليقات بقايا المتعلقين بالمذبحة فتنهال التعليقات الغاضبة عن التمويل وأن الأولى هو دعم أسر المعتقلين المطحونين ماديا ونفسيا جراء ما يلاقونه من ويلات داخل مصر وإرهاقهم الشديد من زيارات السجن وأعبائها المادية والنفسية حتى أصبح الإعلان عن أي فعالية يتطلب ثلاثة بيانات أو أكثر تعقيبا وتبريرا وتوضيحا لنوايا المنظمين الطيبة.
على منصة رابعة كانت الخلفية المكتوبة تعكس كلمات المتحدثين ومطالبهم، فالشرعية وعودتها مطلب أساسي وهناك رئيس منتخب لمصر هو من يقرر خريطة الطريق للمستقبل وامتدت هذه المطالب والنداءات للداخل والخارج، فلم يعد هناك أي أفق للحل أو حديث عن قبول أي مبادرات إلا بعودة الرئيس واحترام الشرعية وظلت "رابعة" عاما بعد عام ملتصقة بتلك المطالب حتى استيقظنا ذات صباح مؤلم على خبر موت الرئيس محمد مرسي داخل قفص المحكمة بعد إهمال طبي متعمد من النظام الانقلابي المجرم في مصر، ليطرح موته عددا كبيرا من الأسئلة المشروعة حول فكرة الشرعية ومعطيات المرحلة المقبلة وما هي الرؤية بعد رحيل أول رئيس منتخب؟
بالتأكيد لن أسأل هنا عن الخطوات القانونية التي اتخذتها المعارضة المصرية تجاه رحيل الرئيس بهذا الشكل المريب، ولكن السؤال عما تغير بعد رحيل الرئيس مرسي، فقد توقع كثيرون تغييرا حقيقيا أو تحولا في مسار تفكير المعارضة وطريقتها في التعامل مع المشهد الكارثي في مصر، ولكن للأسف لم يحدث شيء فلا تزال الفعاليات يعلن عنها في إسطنبول بالطريقة نفسها، ثم يتم التبرير لها بنفس الكلمات أيضا، ولا يزال المعتقلون وأسرهم هناك في القاهرة وسائر المحافظات المصرية يلاقون ويلات العذاب في رحلات الزيارات اليومية إلى السجون، ولا يزال من فقدوا ذوييهم في مجزرتي رابعة والنهضة يتذكرون من رحلوا ينشرون صورهم ويكتبون عن مآثرهم.
ولكن ثمة ما تغير وهو تغير كبير يحسب للمعارضة المصرية وقادتها، ولن يغلق كاتب التاريخ الصفحات حتى يكتبوها، فاليوم بالنسبة إليهم ليس الذكرى السادسة لمجزرة رابعة، وإنما أصبحت الذكرى الأولى لمجزرة رابعة بعد رحيل الرئيس مرسي.