انتقال سلس للسلطة.. تونس تدخل نادي الدول المستقرة ديمقراطيا

12

طباعة

مشاركة

تعيش الديمقراطية التونسية الناشئة اختبارا جديدا لمدى قدرتها على الاستمرار وإرساء حالة فريدة في محيطها العربي الذي تعصف به الصراعات الداخلية والأنظمة العسكرية والديكتاتوريات الملكية منها والجمهورية.

صبيحة الخميس 25 يوليو/تموز 2019، استقبل التونسيون خبر وفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي عن عمر يناهز 93 عاما، في وقت كانت البلاد تعيش على وقع تقديم المترشحين لقوائمهم الانتخابية في 33 دائرة من أجل خوض الانتخابات التشريعية المقررة 6 أكتوبر /تشرين الأول المقبل.

خبر وفاة الرئيس رغم وقعه الشديد على التونسيين بمختلف انتماءاتهم، لم يكن حاجزا أمام المؤسسات الدستورية في البلاد، لتحكيم فصول الدستور والقيام بعملية نقل مهام رئاسة الجمهورية من الرئيس الراحل إلى رئيس مجلس النواب (البرلمان) محمد الناصر خلال سويعات قليلة.

المشهد الغريب نوعا ما على المنطقة العربية والأول من نوعه في تونس، جعل المتابعين يقيمون درجات النجاح التي حققتها التجربة التونسية خلال السنوات الماضية في إرساء نظام ديمقراطي قائم على أسس دولة القانون والمؤسسات وفق عقد اجتماعي يحدد مسؤوليات الجميع داخل السلطة وخارجها.

اختبار الدستور

في 26 يناير/كانون الثاني 2014، وتحت قبة مجلس النواب في منطقة باردو في العاصمة تونس، اجتمع أعضاء المجلس الوطني التأسيسي للمصادقة على دستور جديد للبلاد، استمرت النقاشات حوله في البرلمان والمنابر الإعلامية والفضاءات العامة مدّة قاربت 3 سنوات منذ أن اختار التونسيون لأول مرّة ممثليهم بشكل حر ديمقراطي.

يومها تم التصديق على الدستور بموافقة 200 نائب واعتراض 12 وتحفظ 4 نواب من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي، وصدر في اليوم التالي في جلسة حضرها رئيس الجمهورية محمد منصف المرزوقي، ورئيس الحكومة علي العريض، ورئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر، وعشرات الشخصيات التونسية والسفراء والضيوف الأجانب.

وفق أحكام هذا الدستور الجديد تمكّن التونسيون من تنظيم أول انتخابات لاختيار مجلس نواب جديد، وانتخابات رئاسية أدّت إلى تداول سلمي في السلطة بين الرئيس حينها المنصف المرزوقي الذي انتخبه أعضاء المجلس الوطني التأسيسي في ديسمبر/كانون الأول 2011، والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي فاز في الانتخابات الرئاسية بنسبة لم تتجاوز 55% من أصوات التونسيين.

بعد 8 سنوات من الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي اتجه التونسيون مرّة أخرى إلى صناديق الاقتراع لاختيار أكثر من 6 آلاف عضو مجلس بلدي في مختلف مدن وقرى الجمهورية التونسية في أول انتخابات بلدية  يوم 6 مايو/أيار 2018.

هذه الممارسة الديمقراطية التي تترسخ تدريجيا في تونس، بإرساء المؤسسات الدستورية والمشاركة السياسية الواسعة ترشحا وانتخابا ونشاطا عبر الأحزاب السياسية التي بلغ عددها 218 حزبا حتى الآن، وعددا كبيرا من الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، جعلت التونسيين يلجؤون إلى تحكيم القوانين وفي مقدّمتها الدستور أمام كل الأزمات التي تعترضهم وآخرها وفاة السبسي وشغور منصب الرئيس.

انتقال سلس

في الوقت الذي كان البرلمان التونسي يستعد لعقد جلسة استثنائية بمناسبة الاحتفال بالذكرى 62 لتأسيس الجمهورية، أعلنت رئاسة الجمهورية في بيان وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي بالمستشفى العسكري بالعاصمة.

إثر الإعلان مباشرة انتقل رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى مبنى البرلمان ليجتمع برئيسه محمد الناصر، الذي دعا بدوره الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين والتي تقوم مقام المحكمة الدستورية التي لم يُنتخب أعضاؤها بعد، ليخرج الناصر في كلمة مقتضبة ويعلن توليه مهام رئيس الجمهورية طبقا للدستور إلى حين انتخاب رئيس جديد في مدّة لا تتجاوز 90 يوما.

في مكان آخر من العاصمة تونس اجتمعت الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات، من أجل إعادة ضبط مواعيد الانتخابات بما يتوافق مع أحكام الدستور، حيث قرّرت تقديم الانتخابات الرئاسية التي كانت محدّدة يوم 16 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، إلى 15 سبتمبر/أيلول المقبل، وفتح باب الترشيح في 2 أب /أغسطس الجاري.

صحيفة الإندبندنت البريطانية اعتبرت في مقال للكاتب الصحفي بورزو دراغاهي أن الانتقال السلمي السلس للسلطة بعد وفاة السبسي، رغم التحديات الاقتصادية والأمنية التي يعيشها البلد، دليل على نضج التجربة الديمقراطية التونسية.

الكاتب ذهب إلى أنه رغم فراغ السلطة بعد رحيل السبسي الذي يمثل مصالح الجيش والنخبة في البلد، لم تسجل أي محاولة من طرف الجيش أو أي لاعب سياسي آخر للاستيلاء على السلطة، ولم يرَ المستثمرون والجهات الدبلوماسية والشارع التونسي في الحدث ما يثير القلق بشأن استقرار البلد.

وأشار إلى أن انتقال السلطة إلى رئيس البرلمان محمد الناصر الذي تولى بهدوء منصب رئيس الدولة مؤقتا كما نص على ذلك دستور 2014 الذي أقره أول برلمان منتخب ديمقراطيا في البلد، يعد مثالا يحتذى به في احترام الدستور.

الكاتب رأى أن تونس "تعد مثالا نادرا للدولة العربية التي تسعى جاهدة لتحقيق الديمقراطية والتعددية، رغم مشاكلها الاقتصادية والهجمات الإرهابية التي تتعرض لها وسعي القوات الأمنية لإثبات نفسها، والتراجع الذي تشهده الحريات والحقوق المدنية في بعض الأحيان، مما يجعل عدم سعي الغرب لدعم تلك التجربة أمرا محيرا".

مرحلة جديدة

منذ أيام دخلت تونس المرحلة الانتخابية بشقيها التشريعية والرئاسية، وهي ما يعتبره عدد كبير من المتابعين مرحلة اختبار جديد تتعلّق بكيفية اجتياز المرحلة الانتقالية من الآن حتى انتخاب رئيس جديد للبلاد بأقل ضرر ممكن، وتوافقات واسعة على أكثر من واجهة رغم عدم وجود ملفات خلافية كبيرة مطروحة على الساحة السياسية.

وجّهت مجموعة البنك الدولي، الجمعة 26 يوليو/تموز الماضي، رسالة تعزية ومواساة الى الشعب التونسي إثر وفاة رئيس الجمهورية محمد الباجي قايد السبسي.

ووصف البنك الدّولي الرئيس الراحل "بحامي الديمقراطية والتوافق" مقرا بدوره في معاضدة روابط البلاد بالمجموعة الدولية.

في تقرير نشره في مايو/آيار 2014 نشر البنك الدولي تقريرا بعنوان "الثورة غير المكتملة" انتقد خلاله السياسات الاقتصادية السابقة لتونس معتبرا أن "النتائج الاقتصادية المحبطة هي نتيجة عدة عوائق أمام سير عمل الأسواق وإخلالات عميقة تسبّبت فيها سياسات اقتصادية ذات مقاصد جيدة لكنها تفتقر الى حسن التوجيه".

لكن البنك الدولي سنة 2018 أقر بنجاح تونس في الخروج من المأزق السياسي لسنة 2014 وأنها تحولت الى نظام حوكمة منفتح وديمقراطي.

هذا التقييم للحالة السياسية في تونس أكدها الإقبال الكبير على المشاركة في الانتخابات التشريعية من حيث الترشح، وأفادت الناطقة الرسمية باسم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وعضو مجلس هذه الهيئة حسناء بن سليمان أن عدد القوائم التي أودعت ملفات ترشحها لخوض الانتخابات التشريعية، بلغ حتى مساء 29 يوليو/تموز الماضي 1572 قائمة في مجمل الدوائر الانتخابية داخل تونس وخارجها وعددها 33 دائرة.

وأضافت بن سليمان في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (وات)، أن المنظومة المعلوماتية للهيئة أظهرت أيضا أن العدد الإجمالي للمترشحين والمترشحات ضمن مجمل هذه القوائم بلغ 15737 مترشحا ومترشحة سيتنافسون للفوز بأحد مقاعد المجلس النيابي المقبل وعددها 217 مقعدا.