حكومة السيسي تفكك الأوقاف المصرية.. استثمار شرعي أم عبث بأموال المحسنين؟

أموال الأوقاف بطبيعتها لا تخضع لسلطة الدولة ولا تملك الحكومة حق التصرف بها
في خطوة أثارت جدلا واسعا داخل الأوساط الاقتصادية والدينية في مصر، أطلقت الحكومة مساعي جديدة لـ"تعظيم استغلال" أملاك هيئة الأوقاف، ما فتح الباب واسعا أمام جدل فقهي وقانوني حول مشروعية التصرف في أصول وقفية تحمل طابعا دينيا وتاريخيا يمتد لقرون.
وترأس رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي اجتماعا ضم وزير الأوقاف أسامة الأزهري، ورئيس مجلس إدارة هيئة الأوقاف المصرية خالد الطيب محمد الطيب، لمتابعة ما وصفته الحكومة بـ"تعظيم استغلال أملاك هيئة الأوقاف".
وخلال الاجتماع الذي عقد في 26 مايو/أيار 2025، شدّد مدبولي على ضرورة إجراء حصر شامل ومميكن لأملاك الهيئة كافة من أراضٍ ومبانٍ سكنية وتجارية.
وذلك تمهيدا لإعادة تقييم أصول الأوقاف وفتح المجال أمام القطاع الخاص للمشاركة في استثمارها، في إطار ما أعلنه عن دعم حكومي كامل لأي مشروعات مشتركة تنفذها الهيئة مع المستثمرين.
التحركات الحكومية تندرج في سياق أوسع من سياسات الخصخصة وبيع أصول الدولة، وتطرح تساؤلات حساسة حول مشروعية التصرف في أموال وأملاك الأوقاف التي تدار منذ قرون وفق قواعد الوقف الخيري الذي يحظر التصرف فيه بالبيع أو التمليك.
كما تثير هذه الخطوة مخاوف من تداعيات اقتصادية واجتماعية أعمق، تتعلق بتحويل الأصول الوقفية إلى سلعة استثمارية قد تفقد فيها هذه الأملاك وظيفتها الاجتماعية لصالح أهداف الربح السريع وجذب رؤوس الأموال.
وعلى إثر تلك التطورات، انطلق جدل فقهي وقانوني حول مدى جواز هذا التوجه في ظلّ النصوص المنظمة للوقف في الشريعة والقانون المصري.
تساؤلات وانتقادات
وحذر دبلوماسيون وخبراء اقتصاد من خطورة المساس بقدسية هذه الممتلكات المحبوسة شرعا لأعمال البر والخير.
وأكَّد مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق محمد مرسي، في منشور له عبر "فيسبوك"، أن أموال الأوقاف بطبيعتها لا تخضع لسلطة الدولة ولا تملك الحكومة الحق في التصرف فيها أو تغيير إرادة الواقفين الأصليين.
وأوضح أن "هذه ممتلكات خصصها أصحابها لأوجه البر والخير، ولا يجوز توجيه ريعها إلى غير الأغراض التي حبست لأجلها، وأي قوانين تشرع خلاف ذلك افتئات صريح على الشريعة ومقاصد الدين".
وبرغم تفهُّمه لفكرة حصر الأصول وتصحيح بعض المخالفات القائمة وتحسين إدارة الأموال لتعظيم عوائدها، شدَّد مرسي على أن أي تصور لخصخصة هذه الأصول أو بيعها يعدّ “توجها خاطئا وظالما يهدر ثروات المحسنين ويصطدم بجوهر فلسفة الوقف”.
واقترح أن تظل إدارة الوقف خاضعة لضوابط مهنية واقتصادية دقيقة عبر تأجير الأصول أو إدارتها لفترات زمنية محددة لا تتجاوز 20 أو 25 عاما بشفافية مطلقة، رافضا بشكل قاطع أي مساس بملكية الأصل نفسه أو بيعه بشكل نهائي.
كما طرح علامة استفهام حول تركيبة إدارة الأوقاف حاليا، متسائلا: “لماذا يترك الإشراف على ثروات بهذا الحجم لرجل دين، بدلا من أن يتولاها خبراء متخصصون في الإدارة والاستثمار، مع احتفاظ وزير الأوقاف بالدور الرمزي والإشرافي فقط من الناحية الدينية؟”
أما من الجانب الاقتصادي، فتذهب العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عالية المهدي، إلى طرح أكثر حدة.
إذ ترى أن عجز الدولة عن إدارة هذه الأموال ينبغي ألا يفتح الباب لاستباحتها أو التصرف فيها، بل يفرض عليها إعادة الأصول لأسر الواقفين الأصليين.
وقالت في منشور عبر صفحتها بـ "فيسبوك": “الأوقاف ليست ملكا للحكومة بل أمانة تديرها، وإذا فشلت في إدارتها فلتعدها إلى أصحابها أو ورثتهم، بدلا من تفريغها من مضمونها وتحويلها إلى أداة لجمع الأموال أو سد عجز الميزانية”.
وعن الجانب الشرعي، غرَّد عبر "إكس" المستشار السابق بوزارة الأوقاف الشيخ سلامة عبد القوي، قائلا: "شرعا الأوقاف ملك للواقف حسب الشروط التي نص عليها للموقوف له، فالقاعدة الفقهية تقول إن شرط الواقف كنص الشارع".
وتابع: “وزير الأوقاف هو متولّي الوقف أو ناظره، يعني موظف لإدارة الوقف حسب شرط الواقف؛ ولا يحق له ولا لرئيسه ولا لحكومته أن تتصرف في الأوقاف بدون إذن أصحابها”، واختتم: باختصار اللي بيحصل ده سرقة وخيانة كبيرة في نظر الشرع والقانون".
وهكذا تتصاعد الأصوات المحذرة من فتح باب التصرف في الأوقاف المصرية، بصفته تجاوزا خطيرا قد يهدم آخر ما تبقى من فلسفة الوقف، التي ظلت لقرون أداة لحماية الفقراء ورعاية المصالح العامة بعيدا عن تقلبات السياسة وأطماع المال.
أملاك الأوقاف
وفي قلب المعركة التي تدور بهدوء بين ما هو شرعي وتجاري، تقف هيئة الأوقاف المصرية على قمة جبل من الثروات المعطلة، وسط توجه حكومي متسارع لإعادة هيكلة هذه الأصول.
ويأتي ذلك تحت لافتة "تعظيم الاستفادة"، لكنها في نظر كثيرين قد تكون خطوة تمهد لفتح أبواب الخصخصة، بل وتفريغ فكرة الوقف من جوهرها الديني.
وتقدر هيئة الأوقاف المصرية قيمة ما تمتلكه رسميا بنحو تريليون و37 مليار جنيه مصري (حوالي 58 مليار دولار أميركي)، وهو رقم يضاهي في بعض السنوات إجمالي الناتج المحلي لمصر بأكمله.
هذه الأرقام الضخمة لم تكن واضحة على مدار سنوات طويلة بسبب غياب الحصر الدقيق، ما فتح الباب واسعا للفساد والتعديات.
وقد وصف رئيس الهيئة الأسبق صلاح عبده جنيدي الوضع سابقا بأنه “سرقة ممنهجة”، وذلك في كلمة له أمام مجلس النواب المصري عام 2017.
في حين كشف رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات الأسبق هشام جنينة، أن حجم الفساد في مصر خلال الفترة بين 2013 و2016 بلغ حوالي 600 مليار جنيه، وكان ملف الأوقاف جزءا أصيلا من هذا المستنقع المعقد.
وفي عام 2019، أطلقت وزارة الأوقاف ما عُرِف بـ"أطلس الأوقاف" في محاولة لحصر ممتلكاتها الضخمة.
تضمن الأطلس حصرا مميكنا في 87 مجلدا ورقيا، شمل 114 ألف وقفية مدعومة بخرائط ورسومات توثق بدقة الممتلكات كافة، بما فيها مواقع التعديات.
وقد كشف الأطلس عن 37 ألف حالة بارزة، من أهمها، أرض نادي الزمالك بمساحة 90 ألف متر مربع، ووقف مصطفى عبد المنان الذي يضم نحو 420 ألف فدان موزعة بين ثلاث محافظات، كفر الشيخ والدقهلية ودمياط، إضافة إلى أراضٍ على ميناء الأخيرة ومواقع مشروع "المنصورة الجديدة".
وتتوزع ممتلكات الهيئة بين أراضٍ زراعية ومبانٍ سكنية وتجارية وعقارات أثرية نادرة، تقسم إلى 500 ألف فدان من الأراضي الزراعية، منها 110 آلاف فدان تحت يد الهيئة فعليا، بينما لا تزال 420 ألف فدان محل نزاع قضائي.
ونحو 200 ألف وحدة عقارية سكنية وتجارية وإدارية، و9.7 ملايين متر مربع من الأراضي الفضاء بقيمة سوقية تتجاوز 141 مليار جنيه. كذلك 7.4 ملايين متر مربع من العقارات المبنية بقيمة تقارب 137 مليار جنيه (نحو 2.74 مليار دولار).
كذلك الأوقاف التاريخية مثل قصور وأوقاف خديوية تاريخية في مناطق شارع الأزهر، والعتبة، وعبد العزيز، وسوق السلاح، إلى جانب قصور الأمير محمد علي التاريخية، ومساجد وأسبلة تاريخية ضمن القاهرة الخديوية.
غير أن الأوقاف تمتلك أيضا ثروات أثرية تتجاوز حدود مصر، ولا يقتصر ميراث الوقف على الداخل المصري، بل يمتد ليشمل أصولا خارجية؛ إذ تمتلك الهيئة 15 أصلا وقفيا في اليونان على جزيرتي "تاثيوس" و"كيفالا"، تشمل قصر محمد علي ومجمع "الإيمارت" الفخم على بحر إيجه.

الفجوة الصادمة
ورغم ضخامتها، لا تحقق هذه الأصول سوى 1.2 مليار جنيه (24 مليون دولار) فقط كعائد سنوي، بحسب الحساب الختامي السنوي لهيئة الأوقاف للعام 2024.
وهو رقم هزيل مقارنة بحجم الثروة المسجلة على الورق، ويعكس بوضوح مدى ضعف كفاءة الإدارة أو تعطل استغلال هذه الأصول بشكل اقتصادي رشيد.
أما توزيع هذه العائدات فجري على النحو التالي 15بالمئة تذهب لسداد أجور العاملين، و10 بالمئة تنفق تحت بند "تنمية الموارد"، و75 بالمئة توجه لأعمال البر والخير، لكن دون شفافية كافية أو تفاصيل معلنة بدقة.
وفي محاولة لرفع الإيرادات، بدأت وزارة الأوقاف مطلع العام 2025، في اتخاذ سلسلة خطوات وصفتها بأنها تهدف لـ"تطوير الأوقاف" لكنها في نظر البعض تحمل بصمات توجهات الخصخصة التدريجية.
منها رفع الإيجارات إلى القيمة السوقية بدلا من الأسعار الرمزية الحالية، وتأسيس شركات وقفية في مجالات المقاولات، والأمن، والخدمات المالية.
وأيضا إنشاء محفظة مالية استثمارية في البورصة بقيمة 600 مليون جنيه لاستثمار جزء من ريع الوقف في شراء الأسهم والمضاربة والمشاركة في أنشطة تجارية.
في الوقت ذاته، لا تزال الهيئة تعاني من فقد السيطرة على جزء معين من هذه الأصول، ولا تستفيد من عائداتها، منها 420 ألف فدان من الأراضي الزراعية لا تزال قيد النزاعات القضائية، وأيضا 37 ألف وقف تشمل أراضي وقصورا ومباني وأندية كبرى.
وذلك مع توقف نحو 57 مشروعا وقفيا نتيجة مشكلات البنية التحتية والخدمات والمرافق، ما زاد من تعطل هذه الموارد وأفقدها الجدوى الاستثمارية.
وبهذا المشهد المعقد تقف هيئة الأوقاف المصرية في مفترق طرق تاريخي، وسط تساؤلات حادة حول مصير أموال حبست لوجه الله منذ مئات السنين، لكنها اليوم باتت مهددة بالدخول في سوق المضاربة والبيع تحت عناوين فضفاضة عن "تعظيم العائد" و"تحقيق التنمية".

فشل الحكومة
وفي تصريحات لـ "الاستقلال"، رأى الباحث الاقتصادي المصري أحمد يوسف أن ما تفعله الحكومة المصرية من تحركات لبيع أصول الأوقاف "يمثل اعتداء صارخا على الملكية الخاصة وعلى نصوص الدستور ذاته".
وأكد أن الدولة تبيع ما لا تملك وتتصرف في أصول ليست من حقها التصرف فيها، بل مؤتمنة فقط على إدارتها.
وأوضح يوسف أن أموال الأوقاف بطبيعتها لا تدخل ضمن الملكية الحكومية العامة، بل هي أصول خصصها أصحابها لأعمال البر والخير بشروط واضحة.
ولفت إلى أن أي محاولة للتصرف فيها بيعا أو تفكيكا تمثل إخلالا بالعقد الأصلي الذي قامت عليه فكرة الوقف، بل وتعد خرقا فاضحا لحق الملكية الذي يصونه الدستور المصري ويحميه القانون.
وشدّد على أنه إذا كانت لدى الحكومة خطط للتصرف ببيع هذه الأصول، فإن من حق أصحابها الأصليين أو ورثتهم الطبيعيين المطالبة باستردادها والتصرف فيها بأنفسهم وفقا للغرض الذي يرونه مناسبا، بتقدير أنها قد أخلت بالتفويض الأصلي الممنوح لها والمتمثل في الإدارة وليس التملك.
وتساءل يوسف عن النطاق الحقيقي الذي تستهدفه الحكومة من خطط البيع: “هل يقتصر على أصول هيئة الأوقاف المصرية وحدها؟ أم أن النية تمتد إلى أصول الوقف كافة بما في ذلك القصور والأوقاف الخديوية والتاريخية المنتشرة داخل مصر وخارجها؟”
وتحدث الباحث عن حجم هذه الأصول المهددة بالتفكيك، مشيرا إلى أن قائمة الأملاك تضم مناطق كاملة في القاهرة التاريخية، التي يهدمها رئيس النظام عبد الفتاح السيسي بالجرافات تحت بند التطوير أيضا.
وقال: “إذا فشلت الحكومة في إدارة هذه الأوقاف وتعظيم عوائدها، فعليها أن تتعلم من تجارب المؤسسات الوقفية الكبرى في العالم”.
وذلك “مثل تركيا والمغرب، وبعض الجامعات الغربية والمراكز البحثية التي حققت نجاحات استثمارية باهرة بإدارة الأموال الوقفية لصالح أصحابها والمستفيدين منها دون المساس بأصولها”.
ورأى أن "البديل ليس البيع أو التفريط، بل الإدارة الرشيدة التي تصون رأس المال وتحقق العائد".
المصادر
- ماذا وراء توجيه رئيس وزراء مصر بحصر أملاك الأوقاف لطرحها على القطاع الخاص؟
- استيلاء الحكومة على أموال الوقف مخالف للشرع ودليل إفلاس "السيسي"...ماذا قال الخبراء؟
- "التاجر المفلس".. كيف يستغل السيسي أموال الأوقاف بشكل غير قانوني؟
- لديها أملاك بأكثر من تريليون جنيه.. لماذا تطلب وزارة الأوقاف من المصريين التبرع؟
- أطلس ممتلكات الأوقاف يخرج للنور فى 87 مجلدا اليوم.. مميكن إلكترونيا لتوثيق تريليون و37 مليار جنيه للبر والخيرات.. يوثق 114 ألف وقفية تضم 500 ألف فدان و200 ألف وحدة عقارية.. يربط الممتلكات على خريطة الاستثمار