لماذا لا يقود البرلمان الحوار الوطني؟
رغم حرص النظام الجزائري على وصول شخصية سياسية محسوبة على المعارضة والحراك الشعبي إلى رئاسة الغرفة الثانية للبرلمان، وتأكيد أحزاب بوتفليقة ذات الأغلبية البرلمانية وخاصة حزب "جبهة التحرير الوطني" بأنها تنازلت للمعارضة على منصب رئيس المجلس الشعبي الوطني من أجل المصلحة الوطنية، ودعما للحراك الشعبي بعد سنين من الموالاة والتغطية السياسية لعصابة بوتفليقة التي اقتلعها من السلطة الحراك ولا يزال يواصل مطالبه بمحاسبة الجميع تحت شعار الحراك الشهير "يتنحاو قاع" في رغبة عميقة تنتقم للإرادة الشعبية المغيبة، وفي نضال متواصل من أجل تقرير الشعب الجزائري لمصيره وفي استئناف تاريخي لرسالة الشهداء وبيان أول نوفمبر/ تشرين الثاني 1954.
إلا أن هذه الخطوة بوصول سليمان شنين، وهو المناضل الإسلامي المعارض والناشط الحراكي منذ اللحظات الأولى، كانت ستكون إضافة نوعية للحراك وتلبية لمطالبه في الذهاب إلى تحول ديمقراطي حقيقي إلا أن صناع القرار فضلوا لحد الساعة تغييب البرلمان عن كل نقاش سياسي حول الحلول الممكنة للأزمة، وفرصة لإعادة ثقة الشعب في المؤسسات الدستورية القائمة رغم محدوديتها في القرار السياسي وما تعانيه من أعطاب في شرعيتها.
ليفضل أسياد اللحظة أسلوب الحوار بالتقطير وذلك بإنشاء لجنة للحوار الوطني والوساطة راعوا فيها توازنات السلطة الداخلية في المقام الأول؛ وهي توازنات مبنية ليست جديدة في الجزائر إذ تحضر في تركيبة أعضاء اللجنة وبالخصوص منسقها عناصر الجهة الجغرافية والانتماء السياسي والإيديولوجي.
ليتم الاستعانة من جديد بخزانة النظام مع تزيين من بعض المحسوبين على الحراك الشعبي والمحسوبين على معارضة المشاركة وهي معارضة حريصة على مشاركة السلطة في مشاريعها في مرحلة التحولات الكبرى للنظام السياسي الجزائري، وهي معارضة تمتد من اليمين الإسلامي إلى غاية اليسار الجهوي.
كما حرصت السلطة أن تنتقي أعضاء اللجنة متجاوزة المبادرات والتكتلات التي ظهرت تحت ضغط الحراك الشعبي وهي المتوزعة على أحزاب ونقابات وجمعيات المنتدى الوطني للحوار وأحزاب البديل الديمقراطي، كما أنها لم تكلف نفسها أي مشاورات مع نشطاء الحراك في محاولة لتمثيلهم في اللجنة، كل ذلك لتأجيل الحوار الحقيقي وترحيل الضغوط المتوقعة إلى غاية إضعاف الحراك والوصول إلى مرحلة السيطرة وفرض الشروط.
لجنة كريم يونس.. وسيط الوسيط
استقبل الحراك الشعبي لجنة كريم يونس باعتبارها لجنة خرجت من رحم السلطة دون استشارة لقوى الحراك والمعارضة رغم حرص السلطة على عضوية بعض الناشطين في الحراك، إلا أن النظام مازال وفيا لعاداته وأساليبه في إعادة تدوير أبنائه في المشهد السياسي متناسيا اللحظة التاريخية التي تعيشها الجزائر بقدوم جيل من المناضلين لا يقبلون بأنصاف الحلول أو أرباعها.
فقد نجح النظام بهذه الأسلوب مع الكثير من أحزاب المعارضة والمجتمع المدني والنقابات لكنه يصطدم بإرادة شعبية قوية لوضع نهاية لمرحلة وبداية مرحلة قواعدها الرئيسية الاحترام المتبادل والحوار المباشر مع من نصب نفسه وصيا على الجزائريين والجزائريات منذ بدايات الاستقلال الوطني.
ليكون الحوار مباشرة مع من بيده زمام الأمور وليس مع من عيّنه عبد القادر بن صالح المطالب أصلا من طرف الحراك بضرورة الرحيل رفقة رئيس الحكومة كما كان مصير رئيس المجلس الشعبي الوطني ورئيس المجلس الدستوري وهي مطالب يصر الحراك على تحقيقها للذهاب إلى حوار حقيقي وسيد.
فالحراك لا يريد أن يتعامل مع وسيط الجيش بل يريد أن يتعامل مع المؤسسة العسكرية لأنها يدرك بأنها صاحبة اليد العليا في الجزائر وهي المؤسسة الوحيدة التي تحظى باحترام واعتراف الشعب بدورها المركزي في البلاد في غياب مؤسسات سياسية محترمة،
والمؤسسة العسكرية تدرك تبعات القرارات التاريخية التي صاحبت ولادة الدولة الجزائرية وهي في وضع لا يحسد عليه؛ فهي ورثت تركة المسؤولية على هذه الدولة وغياب أحزاب قوية تتصدى للشأن العام وتكون محاور جادة لشباب الحراك الذي لا يريد أن يتعامل مع طبقة سياسية متورطة في الفساد بمختلف أنواعه، وهذا ما كشفت وستكشف عنه الأيام والأسابيع المقبلة.
لجنة تستغيث بلجنة
أمام هذا الفشل الذي بدأت به لجنة كريم يونس، حاولت أن تستدرك الموقف بعملية التفافية كعادة السلطة وموظفيها، وذلك بدعوة شخصيات تحوز على الاحترام المقبول من طرف الحراك الشعبي.
لكن هذه الشخصيات السياسية والنقابية والجمعوية وبحكم تجربتها سواء من خدم منها النظام في مرحلة معينة أو المناضلين المستقلين عنه في النقابات والجمعيات يدركون بأنهم أمام حراك شعبي بزخم ثوري كبير تحرّكه قوى شبابية ومناضلين سياسيين تجاوزوا أحزابهم ومنظماتهم.
ولن يرضى الجميع إلا بالتغيير الجذري لمنظومة الحكم رغم تجاوبهم وترحيبهم بكل الإجراءات التي اتخذتها السلطة الجديدة المتجددة وخاصة متابعة عصابة بوتفليقة، لكن أشواق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية أقوى تأثيرا في سيرورة الأحداث وهي محفز رئيسي إلى مواصلة النضال لتسوية كل الملفات التي تم تأجيل حلها خلال العقود الستة الأخيرة.
النقاش الغائب في برلمان المعارضة
رغم الهدية الكبيرة والتنازل التاريخي للمعارضة برئاسة البرلمان بحجة التنازل للمصلحة الوطنية كما تروّج أحزاب الكاشير وهي أحزاب بوتفليقة المسيطرة على غرفتي البرلمان.
وكان من المفروض أن يتحول خطاب مغازلة الحراك من طرف أحزاب بوتفليقة إلى خطاب محترم لو فتح النقاش العام حول الوضع السياسي في البلاد، وبالخصوص حراك الشعب الجزائري داخل هياكل السلطة التشريعية وبحضور ناشطين في الحراك، في خطوة أولى وجادة لتأطير الشارع المنتفض من خلال المؤسسات الدستورية الموجودة.
وكذلك إيصال مطالب الأحزاب السياسية المنضوية تحت لواء مختلف التكتلات السياسية للإدلاء بآرائها في كيفية الخروج من الأزمة، ويصاحب ذلك فتح المجال السمعي البصري لمختلف القنوات التلفزيونية لتغطية النقاش مما يساهم في نقل هذا العمل المؤسساتي إلى أوسع نطاق ممكن.
كما يعطي لكل الجزائريين والجزائريات داخل الوطن وخارجه للمساهمة في ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي والذي يتطور حتما إلى إصدار عرائض وبيانات ومساهمات مكتوبة لشرائح واسعة تكون مادة لتضمينها في التقارير النهائية لمخرجات الحوار الوطني.
إن تفعيل دور البرلمان هو رد واعٍ على من شكك في خطوة السلطة في إيصال حزب معارض إلى رئاسة البرلمان، كما أنه يبين أن تنازل أحزاب السلطة فعلا جاء لخدمة الوطن، كما أن النقاش عبر المؤسسات الدستورية هو بمثابة خطوة جادة من طرف المؤسسة العسكرية؛ للمساهمة في بناء مؤسسات سياسية تملأ الفراغ الذي سوف يتركه الجيش بعد أن ينسحب نهائيا من إدارة الشأن السياسي الوطني.