من "المطرقة" إلى 15 تموز.. كيف نجا أردوغان من محاولات الانقلاب؟

أحمد يحيى | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

في 17 سبتمبر/ أيلول 1961، عُلّق جسد رئيس الوزراء التركي "عدنان مندريس" في جزيرة "يصي أدا" النائية، بعد عملية إعدام نفذها جنرالات الجيش الانقلابيين.

وتتابعت الانقلابات العسكرية في تركيا منذ قيام الجمهورية، حتى الانقلاب الأخير في 15 يوليو/ تموز 2016، والذي تحتفل الدولة بالذكرى الثالثة لفشله، اليوم الإثنين.

تبدو لحظات متفرقة من بدايات الحياة السياسية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وهي تبعث بظلالها في العهد الذي ترتسم فيه ملامح تركيا الجديدة، متجاوزة محاولات انقلابية متنوعة بدأت منذ مهد الحزب، حرّكتها الدولة العميقة تارة، وجنرالات الجيش تارة أخرى.

حالة دارجة في تلك الدولة التي طالما حملت التناقضات بين تطلعاتها نحو المستقبل من ناحية، والصراعات العنيفة التي صاحبت تلك التطلعات وعرقلتها من ناحية ثانية، وما يزال الصراع مستمرا بين الأطراف في ظل حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي واجه وحزبه العديد من الضربات.

قضية المطرقة 

في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2002، تمكن حزب العدالة والتنمية الذي تأسس حديثا من إظهار تفوقه على جميع التيارات السياسية الموجودة في تركيا، حيث فاز بنسبة كبيرة من الأصوات في الانتخابات التشريعية، ونال 363 مقعدا برلمانيا، محققا أغلبية كبيرة.

وفي 14 مارس/ آذار 2003، تولى رجب طيب أردوغان رئاسة الحكومة التركية، بعد أن عاد لممارسة العمل السياسي الذي منع منه بسبب تبعات الحكم القضائي الذي حظره من العمل في الوظائف الحكومية، ثم أسقط ليبدأ أردوغان مسيرته في قيادة الدولة.

بعد أشهر قليلة من حكم العدالة والتنمية، بدأت محاولة انقلاب عسكري خطط لها قائد الجيش التركي السابق الجنرال "تشيتين دوغان"، في الفترة التي كان فيها على رأس عمله في آذار/مارس 2003، في محاولة للإطاحة بالحكومة الجديدة.

ويعبر اسم القضية "المطرقة"، التي تعني باللغة التركية باليوز"Balyoz"، عن ثقل الأثر الذي كانت ستحدثه هذه العملية في خارطة السياسة والحكم بتركيا، باعتبارها أكبر محاولة انقلابية شهدتها البلاد قبل الانقلاب الفاشل في 15 يوليو/تموز 2016.

ظهرت أولى المعلومات عن انقلاب "المطرقة" في جريدة "طرف" الليبرالية، بواسطة الصحفي التركي "محمد بارانصو"، الذي سرب وثائق حول تخطيط القوات الجوية والبحرية لإسقاط طائرة تركية فوق بحر إيجة الذي يفصل الحدود التركية المائية من الغرب عن اليونان، في خطتين متزامنتين أطلق عليهما اسمي "موراج" و"سوغا".

وأظهرت التحقيقات أن خطة الانقلاب، كانت تشمل استهداف قيادات دينية ومجتمعية وأكاديميين معارضين وصحفيين من دعاة الديمقراطية بعمليات اغتيال مدبرة، تتهم الحكومة التركية بالمسؤولية عنها.

إشاعة الفوضى

ورد في ملفات القضية أن مدبري انقلاب "المطرقة" خططوا لتفجير مسجدي الفاتح وبايزيد التاريخيين الشهيرين في مدينة إسطنبول، لاستدراج الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ وتطبيق الأحكام العرفية، الأمر الذي سيزيد من توتر علاقتها بالجيش.

كان من شأن تلك الأحداث أن تفضي إلى إشاعة حالة من الفوضى والشعور بغياب الأمن في المجتمع التركي، وأن تخلخل العلاقة بين حكومة أردوغان "ذات التجربة الغضة" وقتئذ والجيش الذي اعتاد على التدخل في حالات أقل توترا لينفذ انقلابا عسكريا يعيده إلى مقاليد الحكم، وهذا ما ورد في بيانات الادعاء العام التي عرضها على القضاء التركي.

في ديسمبر/ كانون الأول 2010، عرضت ملفات التحقيق في قضية المطرقة على القضاء التركي، وصدرت قرارات المحاكم التركية عام 2012، بالسجن مددا لفترات متفاوتة على أغلب المتهمين، بينها أحكام بالسجن مدى الحياة خفضت إلى 20 عاما بحق المتورطين.

شملت الأحكام كلا من الفريق أول المتقاعد خليل إبراهيم فرتينه قائد القوات الجوية السابق، والجنرال المتقاعد أوزدن أورنك قائد القوات البحرية السابق، والفريق أول المتقاعد تشتين دوغان أحد قادة الجيش الأول التركي السابقين.

وحكم بـ 18 عاما بحق كل من الأمين العام لمجلس الأمن القومي التركي السابق شكري صاريشيق، والفريق أول المتقاعد أرغين صايغون، والفريق بحري أحمد فياض أويوتشو، والفريق سها طان يري، والعميد المتقاعد جمال تميزوز، والفريق نجاد بَك، والفريق عبد الله جان.

وفور صدور الأحكام، بادرت هيئة الدفاع عن المتهمين لتقديم الطعن أمام محكمة الاستئناف استنادا إلى "إجراءات غير قانونية" تمت الأحكام بناء عليها، وقبل القضاء التركي النظر بالاستئناف وأصدر بتاريخ 31 مارس/آذار 2015 حكما ببراءة 236 من المتهمين من بينهم الجنرال دوغان، وتم إطلاق سراحهم بعد القرار.

بقي الغموض يكتنف بعض تفاصيل القضية التي مثل أكثر من 360 متهما على ذمتها أمام القضاء، بعدما تغيرت الأحكام واختلط السياسي بالقضائي، ووجهت أصابع الاتهام لرجال القضاء والمدعين العامين المقربين من جماعة فتح الله غولن بتلفيق القضية بالكامل بغية إزاحة المتهمين عن مناصبهم الأمنية والعسكرية.

خطر الحظر

بدأت المحكمة الدستورية يوم 28 يوليو/تموز 2008، نظر دعوى لحل حزب العدالة والتنمية الحاكم بتهمة محاولة فرض الحكم الإسلامي وممارسة نشاطات مناهضة للعلمانية وسط أجواء من التوتر غداة انفجار قنبلتين في إسطنبول. 

ووافقت المحكمة في مارس/آذار من نفس العام، على النظر في القضية سعيا لإغلاق الحزب، بعد أن رفع المدعى العام التركي السابق عبد الرحمن بالتشينكايا، الدعوى متهما الحزب الحاكم بمحاولة إضعاف النظام العلماني، الذي يعد من أسس الدستور التركي، ويفصل بين الدين والدولة بشكل حاسم.

وقال المدعي العام: إن "محاولات حكومة رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان السماح للنساء بارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات يثبت أن الحزب يهدف إلى فرض تطبيق الشريعة الإسلامية، حيث إن القانون الحالي يحظر بشدة ممارسة الدين الإسلامي في المكاتب الحكومية والجامعات والمدارس". 

وفضلاً عن حظر الحزب، طالب "يالتشينكايا" بمنع أردوغان، وعبد الله غول، الذي كان يشغل منصب الرئيس وقتئذ، و69 عضواً آخر من أعضاء الحزب من ممارسة العمل السياسي.

وتم إقرار لائحة الاتهام التي عُرفت بـ"لائحة جوجل"، يوم 30 تموز/يوليو 2008 بعد تصويت 6 من أعضاء المحكمة الدستورية لصالحها مقابل معارضة 5 آخرين ضدها، إلا أنها رفضت طلب إغلاق الحزب لعدم تحقيق الغالبية الساحقة التي يستدعي الدستور التركي تحقيقها للإقرار.

وتجاوز حزب العدالة والتنمية خطر الحظر، وسريعا قام الحزب بعمل إصلاحات جذرية خاصة بالمحكمة الدستورية، حيث قدم مشروع قانون دستوري، قضى برفع عدد أعضاء المحكمة من 11 إلى 17 عضوًا، على أن يتم اختيار القسم الأكبر منهم من قبل البرلمان التركي على النحو التالي: 8 من قبل البرلمان، 4 من مجلس قضاء الدولة، و4 من مجلس شورى الدولة، وعضو من قبل المجلس المحاسبي العام.

واستهدفت التعديلات تقييد سلطة المدعي العام بشأن حل الأحزاب، كما تم تعديل أصول اختيار رئيس مجلس قضاء الدولة ونوابه. 

تعديلات دستورية

وفي يوليو/تمّوز 2010، أقر البرلمان تعديلات دستورية شملت توسيع الهيئة العُليا إلى 22 عضوا، 4 يختارهم الرئيس من المشتغلين بالمحاماة وأساتذة الحقوق، و7 يختارهم كافة القضاة والمدعين بالمحاكم الابتدائية، و3 يختارهم قضاة المحاكم الإدارية، و3 تختارهم محكمة الاستئناف، واثنان يختارهما مجلس الدولة، وعضو واحد لأكاديمية العدالة. 

وجاء التعديل متفقا مع ما قضت به توصيات الاتحاد الأوروبي من كسر اقتصار الهيئة على المحاكم العُليا، وشملت كذلك تقليص صلاحيات وزير العدل، وتخصيص ميزانية مستقلة للهيئة بعد أن كانت تعتمد على الوزارة، ومنع مثول مدنيين أمام محاكمات عسكرية، وإتاحة مثول عسكريين أمام محاكم مدنية.

تنظيم ارجنكون 

في 23 يناير/ كانون الثاني 2008، بدأت تفاصيل قضية أطلق عليها اسم "ارجنكون"، ظهرت هذه القضية عبر مداهمة منزل في حي "العمرانية" بالجانب الآسيوي من مدينة إسطنبول، حيث وجد فيه بعض الأسلحة، والقنابل اليدوية، وهناك بدأت عملية التحقيق، حتى وصلت إلى القضاء ملفات تُثبت تخطيط الجيش لانقلاب على أردوغان في العام المقبل (2009).

وكانت منظمة "ارجنكون"، تعمل عبر منظمات مجتمع مدني ووسائل إعلام مرتبطة ببعض قادة الجيش.

بعدها عمدت جماعة الخدمة تحت قيادة الداعية "فتح الله غولن" المقيم في ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، بالتعاون مع جهازي الداخلية والقضاء، إلى محاولة إلقاء القبض على رئيس جهاز الاستخبارات القومي "هاكان فيدان"، الذي يعد اليد اليمنى لأردوغان، وتزامنت محاولة اعتقاله مع دخول أردوغان المستشفى لإجراء عملية جراحية في جهازه الهضمي، يوم 7 شباط/فبراير 2012.

تواصل فيدان في البداية، مع رئيس الجمهورية آنذاك عبد الله غل، الذي قال له: "اذهب معهم"، إلا أنه لم يصغِ لذلك القول، وتواصل مع رئيس الوزراء أردوغان، قبل دخول الأخير العملية الجراحية بساعات قليلة، فقال له أردوغان: "إياك أن تسلم نفسك".

كانت هذه الحادثة القاصمة بين جماعة غولن وحزب العدالة والتنمية. ولتحصين موقع رئيس جهاز الاستخبارات، قدّم الحزب الحاكم، في 12 شباط/فبراير 2012، إلى البرلمان، مسودة قانون تقضي بتحصين البيروقراطيين الذين تم توكيلهم بمهام من قبل رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية.

وكان من بين أبرز المتورطين في هذه القضية رئيس أركان الجيش السابق "ألكير باسبوج" الذي تمت إدانته بالتآمر لقلب نظام الحكم ضد رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان في تركيا. 

وفي 5 أغسطس/ آب 2013 حكم على رئيس أركان الجيش بالسجن المؤبد، في القضية التي عرفت إعلاميا بشبكة ارجنكون الانقلابية التي بدأت قبل 5 أعوام في مدينة "سيلفري" القريبة من إسطنبول. وقضت المحكمة بالسجن لمدد طويلة على العديد من المتهمين فيها.

محاكمة أردوغان

حسب وكالة الأناضول التركية الرسمية، في 23 فبراير/ شباط 2019 أظهرت تحقيقات للقضاء التركي، أن منظمة "غولن" خططت عام 2015، لـ"محاكمة" الرئيس رجب طيب أردوغان، على يد عناصرها المندسين داخل جهاز القضاء.

وجاء ذلك في إطار قضايا تشرف عليها المحكمة العليا، تتعلق بمحاكمة أعضاء الجهاز القضائي المفصولين والمسجونين على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة التي نفذتها المنظمة في يوليو/تموز 2016.

وكشفت التحقيقات مدى تغلغل المنظمة الإرهابية داخل المحاكم "العليا" و"الإدارية العليا" و"الدستورية"، والمجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، في تركيا خلال الأعوام الماضية.

واستندت التحقيقات إلى مراسلات جرت بين قياديين في المنظمة داخل الجهاز القضائي. وورد في واحدة من المراسلات بين القياديين "عمر إينان" و"سلامي أر"، أنه "يجب العمل على مستوى المحكمة الدستورية" من أجل محاكمة أردوغان.

انقلاب تموز

مساء 15 يوليو/تموز 2016، فاجأ عسكريون الجميع بإعلان انقلاب في البلاد على السلطة الشرعية، واستولوا على القناة الرسمية "TRT" وأجبروا العاملين بها على بث بيان يعلن إسقاط نظام حكم أردوغان، وتشكيل هيئة لاستلام السلطة، أسموها "مجلس السلام الوطني"، ووعدوا بإخراج دستور جديد.

لكن سرعان ما خرج أردوغان على قنوات فضائية تركية "CNN Türk" يتعهد بإفشال الانقلاب ومحاكمة من يقفون خلفه، داعيا الشعب للنزول إلى الشوارع لحماية الديمقراطية وإفشال خطط الانقلابيين.

وشكلت الاستجابة الشعبية الواسعة لنداء أردوغان تحولا مفصليا في مسار الأحداث، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع وبعض المطارات التي كانت عناصر من الجيش قد سيطرت عليها، وعلى رأسها مطار "أتاتورك".

وتوالت تصريحات قيادات الجيش الكبرى معلنة أن المحاولة الانقلابية تزعمتها مجموعات داخل الجيش، كما نجحت قوات الأمن والقوات الخاصة في إلقاء القبض على كثير من الانقلابيين، معلنة بداية فشل الانقلاب.

بعدها خرج الرئيس السابق عبد الله غل في تصريح لقناة فضائية تركية عبر تطبيق للتواصل الاجتماعي أكد فيه بلهجة صارمة أنه "لا يمكن القبول بأي محاولة انقلابية".

غل أشار إلى أن الحركة الانقلابية لم تحدث ضمن التسلسل الهرمي للجيش، ودعا للعودة سريعا إلى الديمقراطية". وتابع غل قائلا: "تركيا ليست بلدا في إفريقيا، وليس من السهل تنفيذ انقلاب عسكري فيها".

خاطب أردوغان شعبه فجر يوم 16 يوليو/تموز 2016 قائلا: "الحكومة تتولى زمام الأمور في البلاد عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة التي خلفت مقتل العشرات وجرح المئات"، داعيا الجيش إلى الوقوف مع الشرعية، مشددا على أن "القوات المسلحة لن تحكم تركيا".

وسارع وزير العدل بكير بوزداغ للإعلان عن اعتقال مئات من العسكريين في شتى أنحاء البلاد ممن شاركوا في المحاولة الانقلابية.

معاقبة الانقلابيين

ما لبثت أن توالت حملة اعتقالات، حيث تم اعتقال حوالي 3 آلاف عسكري بينهم رتب رفيعة، كما تم إصدار مذكرة توقيف بحق قائد اللواء 55 مشاة الجنرال بكر كوجاك، وأقيل 5 جنرالات و34 ضابطا رفيعا من وزارة الداخلية بأمر من الوزير السابق أفكان علي. 

كما أعلنت وسائل إعلام تركية أن أجهزة القضاء عزلت 2745 قاضيا، بينما تم اعتقال نحو 100عسكري بقاعدة جوية بديار بكر. وأعلن محافظ ملاطيا غداة المحاولة الانقلابية إلقاء القبض على 39 طيارا عسكريا كانوا على متن 7 طائرات عسكرية.

وفي 20 يونيو/ حزيران 2019، أصدر القضاء التركي 141 حكما بالسجن مدى الحياة، بحق 17 من كبار المسؤولين العسكريين السابقين، بمن فيهم قائد سلاح الجو السابق، وقائد المحاولة الانقلابية "أكين أوز تورك"، ومستشار سابق للرئيس رجب طيب أردوغان للشؤون العسكرية.

وتتضمن الاتهامات ضد المتهمين الرئيسين "انتهاك الدستور" واستخدام الإكراه والعنف في محاولة الإطاحة بالبرلمان والحكومة التركية والتسبب في "استشهاد 250 مواطنا" و"محاولة قتل 2735 مواطنا".