فرحة العيد.. هكذا استعادتها ثورات الشعوب واغتالها الاستبداد

12

طباعة

مشاركة

"وليس العيد إلا التقاء الكبار والصغار في معنى الفرح بالحياة الناجحة المتقدمة في طريقها، وترك الصغار يلقون درسهم الطبيعي في حماسة الفرح والبهجة، ويعلِّمون كبارهم كيف توضع المعاني في بعض الألفاظ التي فَرَغَتْ عندهم من معانيها، ويُبصّرونهم كيف ينبغي أن تعمل الصفات الإنسانية في الجموع عمل الحليف لحليفه، لا عمل المنابذ لمنابذه، فالعيد يوم تسلط العنصر الحي على نفسية الشعب".

بهذه الكلمات عبر الأديب مصطفى صادق الرافعي (1880 ـ 1937) منذ عشرات السنين عن المعنى الحقيقي للعيد، جاعلا همه كشف المعنى الحقيقي للإسلام كعقيدة وشعائر ومنهاج حياة.

العيد كشعيرة إسلامية نابعة من الإيمان بالله يأتي بعد أداء فريضة الصيام أو أثناء الحج، وهكذا تتعاظم الروحانيات لدى المسلمين، ويشعر الجميع، فقراء وأغنياء، صغارا وكبارا، بالتلاحم والقرب من بعضهم بعضا، بل يتعلم الكبار من الصغار بساطة معاني الفرحة، وإحياء الأنفس بحسن استقبال سعادة العيد، ثم الاستعداد للعمل من جديد.

لكن الاستبداد والظلم اللذين يرتعان في بلاد العرب غيرا من معاني العيد، وحتى لذة القرب من تلك المعاني في فترات الثورات الانتقالية خطفتها الثورات المضادة وعودة الاستبداد في أغلب دول الربيع العربي.

السمو بالروح

في نفس كتابه "وحي القلم" عبر الرافعي في مقال: "المعنى السياسي للعيد" أيضا، عن مفهومه الراقي للارتفاع بالنفس والسمو بالروح من خلال العيد، مؤكدا أنه في عصر الإسلام الأول: "كان العيد إثبات الأمة وجودها الروحاني في أجمل معانيه، فأصبح (العيد الآن) إثبات الأمة وجودها الحيواني في أكثر معانيه، وكان يوم استرواح من جِدِّها، فعاد يوم استراحة الضعف من ذله، وكان يوم المبدأ، فرجع يوم المادة!".

فالعيد لدى الرافعي فرصة لاستحضار معاني الإسلام العميقة وكيف تتحول إلى فعل يذكر الأمة بالله والروحانيات والرقي والارتفاع عن الدنيا، ولكن الأمة اليوم عادت بالعيد ليوم تخمة من مأكل ومشرب وملبس للأغنياء، وعاد الفقير ليشعر بشدة فقره وحرمانه، وهكذا تحول العيد من يوم مبدأ ليوم مادة.

لم يكن العيد عند الرافعي، في نفس المقال، يوم عيد واحد بل أعيادا تزدهر وتتعدد، بحسب ازدهار وتعدد رفعة الأمة اقتصاديا، صناعيا، علميا، فنيا، حتى أن الأعياد لتعمل عمل العسكريين في قيادة الشعب، كما رأى الرافعي في قوله:

"ليس العيد إلا تعليم الأمة كيف توجه بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت، فقد وضع لها الدين هذه القاعدة لتُخرِّج عليها الأمثلة، فتجعل للوطن عيدًا ماليًّا اقتصاديًّا تبتسم فيه الدراهم بعضها إلى بعض، وتخترع للصناعة عيدها، وتوجد للعلم عيده، وتبتدع للفن مجالَي زينته، وبالجملة تنشئ لنفسها أيامًا تعمل عمل القُواد (القادة) العسكريين في قيادة الشعب، يقوده كل يوم منها إلى معنى من معاني النصر".

وهو الأمر الذي يتفق فيه مع الرافعي الدكتور حاكم المطيري في كتابه: "الحرية أو الطوفان: دراسة في أصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي" حين قال: "لا سبيل لتحقيق النهضة والإصلاح إلا بالبحث عن خطاب سياسي وفكري وثقافي تتفاعل معه الأمة وتتقبله وتضحي من أجله... ومن هنا كان الواجب على العلماء والمفكرين أن يساهموا في بعث وبلورة خطاب سياسي يحقق للأمة حريتها، ويعبر عن هويتها، ويحافظ على خصوصيتها".

الأعياد التي اقترحها الرافعي للأمة في جميع مجالاتها صارت اليوم ضرورة منهجية تنبع عن خطاب يجدد للأمة العربية الإسلامية تحملها لآفاق تنتصر فيها للإنسان وتلحق بركب الحضارة؛ لكيلا يعشش الفساد والاستبداد في بلاد المسلمين برأي المطيري.

آلام في العيد

وعلى عكس معنى العيد لدى الرافعي، ومحاولة البحث عن خطاب يلم شتات الأمة لدى المطيري يجيء الواقع في أغلب دولنا العربية حيث يحكمها الاستبداد.

منظمة العفو الدولية أصدرت منتصف مايو/آيار الماضي تقريرا عن حقوق الإنسان في السعودية بعنوان: "سنة العار: استمرار قمع المنتقدين والنشطاء الحقوقيين"، فضلا عن القبض على حقوقيين وحقوقيات حتى أبريل/نيسان الماضي، بالإضافة لقمع أهالي معتقلين وكُتّاب وصحفيين.

المنظمة أكدت أن السلطات السعودية تنوي تنفيذ الإعدام، عقب شهر رمضان في "نشطاء حقوقيين وعلماء شرعيين معتقلين أبرزهم الشيخ سلمان العودة الذي وَجهت إليه 37 تهمة منها علاقته بالإخوان المسلمين ودعوته الحكومة لإجراء إصلاحات".

أحكام إعدام تنتظرها السعودية خلال عيد الفطر في حق علماء إصلاحيين، والحال في مصر ليس بأفضل من السعودية فالإعدامات بحكم القانون تواصلت أحكامها حتى في شهر رمضان، حيث قضت المحكمة العليا للطعون العسكرية، بتأييد حكم محكمة جنايات عسكرية الإسكندرية، بمعاقبة 17 متهمًا بالإعدام، وذلك فى اتهامهم في القضية المعروفة إعلاميًا بـ"تفجير الكنائس الثلاث".

يأتي عيد الفطر على مصر وأغلب الدول العربية ترزخ تحت نير الاستبداد في ظل إعدامات واعتقالات واغتيالات وحروب، لا معالم على الطريق حاليا للاستقرار ونيل الحرية، أو حتى للعيد بمفهوم الرافعي والتخطيط للسيادة والاستقلال عن الغرب.

الأمة الإسلامية جميعها، بما فيها دول الربيع العربي، تنتظر العيد كما رآه الرافعي في كتبه، وكما قال عنه أيضا، في الجزء الأول من "وحي القلم" في مقال "اجتلاء العيد": "جاء يوم العيد ، يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحدَه لا يستمر أكثرَ من يوم. زمنٌ قصير ظريف ضاحك، تفرضهُ الأديان على الناس، ليكونَ لهم بين الحين والحين يومٌ طبيعي في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها. يوم السلام، والبِشر، والضحك، والوفاء، والإخاء، وقول الإنسان للإنسان: وأنتم بخير!".

نكتب للتاريخ

الدكتور مجدي شلش، الأكاديمي الأزهري المصري يقول: منذ كلمات الرافعي، رحمه الله، عن العيد وقبلها وبعدها، وما استمرت فترة ركون الأمة، فإننا نتحدث عن معان والفارق كبير بينها وبين تحقيقها، ذلك لأن حكامنا والمسؤولين لا يفهمون ولا يستوعبون، وإنما كتب الرافعي ونكتب للتاريخ، ولكيلا لا يستوي الذين كتبوا والذين صمتوا.

ويضيف شلش لـ "الاستقلال": "للعيد معنيان أولهما تعبدي، فيجيء الفطر بعد رمضان، والأضحى في الحج، ومعنوي عبر الفرح به وما يواكبه من مظاهر، ولذلك فإن التوازن بين المعنى المعنوي للعيد والفرح به ماديا أمر مطلوب التوازن فيه، والسعادة هنا ينبغي أن تنطلق من النجاح في أداء العبادة، وشعور الفقير بأنه ذو اعتبار مع تعايش الجميع مع بعضهم البعض".

ويكمل الأكاديمي والكاتب المصري: "هناك آراء تخص الثورات العربية، ووصل الأمر بالبعض، بعدما يراه الآن من انتكاسات وصعوبات لدولها لوصفها بترتيبات خارجية، وهناك الذي يراها هبات شعبية لم تكتمل لكي ينتظر منها تحقيق المعنى الحقيقي للعيد، بحسب الرافعي، أما رأيي الخاص فإن الثورة المصرية كانت الأقرب لتحقيق هذا المفهوم، وللنجاح، إذ امتلكت رئيسا وبرلمانا وحكومة ودستورا، ولذلك كانت أهلا للاستمرار في المقدمة، حيث تحقق لها ما لم يتحقق لغيرها".

ويواصل شلش: "في الفترة الانتقالية عقب الثورة، ومع تولي الرئيس مرسي كانت مصر أقرب لمفهوم الرافعي عن معنى وسعادة العيد، وكنا كدعاة وأصحاب رأي نتحرك في كل مكان من الدولة، وكان الشعور بالحرية والانتماء للبلد، وكل المعاني الوطنية والسياسية والاجتماعية متحققة، يمكن البناء عليه، ولكن كل هذا لم يكن يواكبه، للأسف، انتباه كاف من جماعة الإخوان المسلمين، لخطورة الموقف وما ينبغي عليهم لقيادة الأمة نحو نهضتها وتحقيق آمال الشعوب لا الشعب المصري وحده".

الفرحة الحقيقية

الشيخ محمد عوف، الإمام والخطيب بوزارة الأوقاف المصرية سابقا يقول: "لم تعد للشعوب العربية فرحة اليوم بالعيد، وأقصد الفرحة الحقيقية التي أرادها الرافعي، خاصة مع الأزمات والأوضاع الاقتصادية المتردية، وذهاب الطموح، وبالتالي فقدان المواطن لسعادته، بالإضافة للشعور بالخوف الدائم الملازم لانعدام الأمن".

ويضيف عوف لـ "الاستقلال": "في الأعياد أثناء الفترة الانتقالية في مصر وحكم الرئيس مرسي كان الأمر يعتبر ذروة النجاح، أما اليوم فإن قائد النظام الانقلابي عبد الفتاح السيسي يرى أن المساجد وساحات الأعياد هي ذروة الأماكن التي أخرجت المعارضين له، خاصة الحركات الدينية وجماعة الإخوان المسلمين".

عوف أوضح أن السيسي "تمادى في تجفيف الساحات الخاصة بالأعياد، والتضييق على سنة الاعتكاف في المساجد، مع منع المعارضين للنظام من الإمامة وفصلهم، وخطب الجمعة أصبحت موحدة، كل هذا أدى لغياب الخطاب الديني المقنع الرشيد، مع غياب دور المساجد والساحات في مصر، وصار الأمر كله منفرًا للأسف".