محاكمة بورقيبة.. العدالة الانتقالية هل تتحقق في تونس؟

12

طباعة

مشاركة

قبل 58 عاما، في غرفة بالطابق العلوي من نزل "رويال" وسط مدينة فرانكفورت الألمانية، مساء السبت 12 أغسطس/آب 1961، أطلق مسلحان النار صوب رجل جالس على الأريكة المقابلة لباب الغرفة ليسقط قتيلًا غارقا في دماه.

صالح بن يوسف، أحد قادة الحركة الوطنية زمن الاستعمار الفرنسي في تونس، والأمين العام للحزب الحر الدستوري التونسي الجديد، إلا أنّ خلافات حول المفاوضات النهائية مع الاحتلال الفرنسي وتوقيع اتفاق الاستقلال الذاتي، فجرت صراعا بينه وبين الحبيب بورقيبة، انتهى باغتياله في "جريمة دولة واضحة المعالم" كما وصفها  التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة.

وفي سياق العدالة الانتقالية التي فرضها الوضع الجديد في تونس ما بعد الثورة، وبعد انتهاء أعمال هيئة الحقيقة والكرامة المكلفة بإنفاذها، فتحت المحاكمات من جديد لكشف الغطاء قضائيا على أحد أبرز جرائم الاغتيال السياسي في تاريخ تونس الحديث.

أصل الحكاية

في 3 يونيو/حزيران 1955، وقعت الحكومة الفرنسية برئاسة مونداس فرانس مع رئيس الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري الجديد الحبيب بورقيبة اتفاقية الاستقلال الداخلي، والتي تقضي بمنح سيادة جزئية للسلطات التونسية ممثلة في ملك البلاد محمد الأمين باي، مقابل وقف المقاومة المسلّحة ونزول المقاومين من الجبال وتسليم أسلحتهم للمستعمر الفرنسي.

هذه الاتفاقية أفرزت معارضة واسعة من عدد من المنظمات الوطنية التونسية والنقابات والمنظمات الطلابية، بالإضافة إلى الحزب الحر الدستوري القديم ودوائر من جامع الزيتونة وخاصّة تيار من داخل الحزب الجديد بقيادة الأمين العام للحزب صالح بن يوسف الذي عارض الاتفاق وهدد بالعودة إلى الكفاح المسلّح حتى خروج الاستعمار الفرنسي والاعتراف بالاستقلال التام لتونس، معتبرا الاتفاق الحاصل بالخطوة إلى الوراء.

دخلت البلاد بعدها موجة من الصراع بين جناحي الحزب، وتطور هذا الصراع بعد تولي بورقيبة رئاسة الحكومة التونسية، ليشن حملة اعتقالات واغتيالات في صفوف مناصري صالح بن يوسف الذين لقبوا بـ "اليوسفيين"، كما أكّدت هيئة الحقيقة والكرامة في تقريرها النهائي مساندة الفرنسيين لجناح بورقيبة مستعملا القوة وموظفا القضاء في محاكمات، وتواصلت الملاحقات والمحاكمات إلى ما بعد الاستقلال التام في 20 مارس /آذار 1956.

المتهم بورقيبة

أوردت هيئة الحقيقة والكرامة في تقريرها الختامي الصادر نهاية العام 2018،  ما وصفتها بسلسلة من الأدلة والبراهين التي تؤكد ثبوت مسؤولية الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة "بصورة لا لبس فيها" في اغتيال رفيقه السابق وخصمه اللدود لاحقا صالح بن يوسف، مشيرة إلى أن بورقيبة اتخذ قرار تصفيته إثر لقاء عاصف جمع بينهما بمدينة زيوريخ السويسرية يوم 2 مارس/آذار 1961.

هذا اللقاء الذي انتظم بقاعة النزل بسعي من بورقيبة وتنسيق مع مدير ديوانه البشير زرق العيون، حضره كل من زوجة الرئيس وسيلة بورقيبة، وسكرتيره الخاص علالة العويتي، وسفير تونس بسويسرا توفيق ترجمان، إضافة لعمر الشاذلي الطبيب الشخصي لبورقيبة، كما واكب الاجتماع عناصر من الأمن السويسري بطلب من صالح بن يوسف ضمانًا لسلامته.

وفي الاجتماع احتد النقاش واستنكر بورقيبة إحضار الأمن السويسري رافضا مصافحة بن يوسف، واتهمه بمحاولة اغتياله بواسطة مسدس كاتم للصوت أو بالسم مستدلًا برسالة أرسلها بن يوسف إلى الصادق بن حمزة القيادي في حزب الدستور سأله فيها عن إفشائه للأمر، وانتهى اللقاء بمغادرة بن يوسف بطلب من بورقيبة.

إثر ذلك، كوّن بورقيبة وبإيعاز من وزير الداخلية وقتها الطيب المهيري فريق الاغتيال مكلفًا مدير ديوانه ورئيس حرسه البشير زرق العيون بالإشراف على المهمة، وهو للمفارقة ابن خالة صالح بن يوسف.

وفي محاضرة بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار بتاريخ 15 ديسمبر/كانون الأول  1973، سرد بورقيبة وقائع عملية الاغتيال بطريقته مصرحًا أن مدير ديوانه وقائد حرسه الرئاسي البشير زرق العيون مكث بسويسرا ولم يدخل إلى ألمانيا، وأنه أشار على المنفذين الاثنين بالمغادرة على أول طائرة نحو أي وجهة.

وأضاف بورقيبة في محاضرته أنه طلب من شخص يُدعى حسن بن عبد العزيز الورداني إحضار القاتلين لمنحهما وساما رفيعا مكافأة لهما عما قاما به لتخليص تونس من "الحية الرقطاء" يقصد بن يوسف.

هيئة الحقيقة والكرامة أكدت في تقريرها ثبوت واقعة توسيم بورقيبة للقاتلين وهما عبد الله بن مبروك ومحمد بن خليفة محرز بوسام الاستقلال عام 1974 بمناسبة الذكرى الأربعين لانبعاث الحزب الدستوري الحر.

كما قام بمكافأة المشرف الميداني زرق العيون بالصنف الأكبر من وسام الجمهورية، وكذلك توسيم الأمني محمد الرزقي الذي اخترق تنظيم الأمانة العامة واستدرج بن يوسف، بمنحه و6 عناصر في وزارة الداخلية الصنف الثاني من وسام الاستقلال بمناسبة عيد الجمهورية عام 1974 أيضًا.

جدل المحاكمة

منذ العام 2011، وإثر فوز حركة النهضة بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي وتشكيلها حكومة ائتلافية رفقة حزبي التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية، بدأت تبرز معارضة جديدة لحكومة ما بعد الثورة يتزعمها الرئيس التونسي الحالي الباجي قائد السبسي رافعة شعار "البورقيبية" نسبة للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، معتبرة أنّها الضامن لمنجزات دولة الاستقلال والمكتسبات التي حققتها.

ورغم الانشقاقات والتصدعات التي شهدها حزب الرئيس، إلا أنّ جميع شقوقه تتفق وتدّعي وصلا ببورقيبة ومنهجه في إدارة البلاد، وهو ما جعل جلّهم يستنفرون للتصدّي للمحاكمة الجارية للمتهمين في اغتيال الزعيم الوطني صالح بن يوسف.

في 12 ديسمبر/كانون الأول 2018 أحالت هيئة الحقيقة والكرامة ملف اغتيال صالح بن يوسف إلى الدائرة القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية بتونس، مبينة أنها تمكنت من تحديد هوية 3 منسوب إليهم الانتهاك، انطلاقًا من وثائق أرشيفية حصلت عليها الهيئة من ألمانيا وتونس، وبعد الاستماع إلى أحد المتهمين في القضية.

تصفية حسابات

وهاجمت شخصيات سياسية وقائع الجلسة الأولى لمحاكمة قتلة ابن يوسف عبر تدوينات غاضبة على فيسبوك، معتبرة أنها إهانة بحق الزعيم بورقيبة، ولا تخلو في باطنها من تصفية حسابات، حيث وصف القيادي في "نداء تونس" ناجي جلول المحاكمة بأنها "محاولة يائسة لطمس الذاكرة الوطنية"، وتابع في تدوينة أخرى: "أناس لا يؤمنون بالدولة الوطنية يحاكمون الدولة تحت غطاء محاكمة بورقيبة".

ومن جهته اعتبر سليم العزابي الأمين العام لحركة "تحيا تونس" حزب رئيس الحكومة يوسف الشاهد، أن "العدالة الانتقالية في تونس انحرفت عن مسارها وتحولت إلى عدالة انتقامية، لتحقيق أغراض سياسية هدفها الوحيد تشويه مسيرة ونضال الزعيم الحبيب بورقيبة".

وأضاف في تدوينة على صفحته بفيسبوك "نلفت نظر التونسيين لخطورة استغلال هذه القضية لإفشال المصالحة الوطنية الشاملة والعدالة الانتقالية، التي تتَطلّب استكمال مسارها على أسسٍ سليمة، والتي نعتبرها الوسيلة الوحيدة لبناء مستقبل يمكّن أبناء الشعب من التّعايش في كنف الوحدة الوطنية".

رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي استنكرت ما وصفتها بـ"المحاكمة المهزلة للزعيم الحبيب بورقيبة في قضية اغتيال الزعيم السياسي صالح بن يوسف"، وهاجمت موسي منظومة العدالة الانتقالية واعتبرت أن قانونها "فاشي ويخرق كل أبجديات حقوق الإنسان والمحاكمة العادلة"، مشدّدة على أن محاكمة الزعيم بورقيبة خلّف صدمة في الشارع التونسي.

وأضافت قائلة: "تونس ستبقى بورقيبة رغم أنف الإخوانجية (في إشارة لحركة النهضة) ومنظومة 18 أكتوبر/تشرين الأول (في إشارة لتحالف المعارضة التونسية للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي"، في الوقت الذي لزمت فيه حركة النهضة الصمت، حيث لم يصدر عنها أي موقف إزاء هذه القضية.

حقبة مظلمة

في الجهة المقابلة طالب الرئيس السابق المنصف المرزوقي بكشف الحقيقة عن حقبة وصفها بـ"المظلمة في تاريخ تونس"، مشددا على أن المحاكمات التي تتم ضمن مسار العدالة الانتقالية، هدفها إنصاف ضحايا الاستبداد وطي صفحة الماضي.

وأضاف في تدوينة على حسابه الرسمي بفيسبوك: "بمناسبة تكلف القضاء بملفّ اغتيال الشهيد صالح بن يوسف، عادت إلى الذاكرة كل الذكريات الأليمة، وعدت إلى صور الأرشيف العائلي نحتفظ بها منذ 1955 شهادة صامتة على فترة موجعة من تاريخ تونس ومأساوية من حياة عائلتي وحياة عائلات الآلاف من التونسيين".

مختتما تدوينته بالقول: "قلنا ألف ألف مرة ومرة، نريد للجرح أن يلتئم، للأخوة المتخاصمين أن يتصالحوا أخيرا، وللصفحة أن تطوى نهائيا، قلنا لا نريد الانتقام، كل ما نريده كشف الحقيقة عن حقبة مظلمة من تاريخ هو تاريخنا جميعا".