البروبغندا.. أفتك سلاح في العالم
يقول الفيلسوف وعالم اللسانيات والمؤرخ، نعوم تشومسكي، أنه في دولة شمولية لا يهم أبدا ما يفكر فيه الأشخاص نظرا لأن الحكومة تتحكم فيهم بالقوة والعنف، لكن عندما يصبح العنف حلا مستحيلا من أجل تكميم الأفواه يمكن للحكومة حينها أن تتحكم فيما يفكر فيه الناس والطريقة المثلى لفعل ذلك هي البروبغندا.
وتعني في مفهومها الشامل نشر المعلومات والأخبار بطريقة موجهة ومقصودة من أجل التأثير في الرأي العام وتوجيهه بعيدا عن كل موضوعية يجب أن يتسم بها الخبر. وغالبا ما يكون هذا الأخير زائفا أو ناقصا بطريقة مستفزة، إذ تمتنع الجهات المكلفة بنشره والترويج له عن إعطاء أي تفاصيل توضح الرؤية، وتكتفي بتوسيع دائرة نشره من أجل التأثير في الأشخاص عاطفيا عوض الاستجابة للأصوات المتسائلة بموضوعية وحرص كبير على الحقيقة.
في كتابه "1984" وصف جورج أرويل البروبغندا بطريقة مفصلة خصوصا وأنه نصب من خلال روايته وزارة الحقيقة التي تتكلف بنشر الأخبار الناقصة والكاذبة وتأليف العديد من الروايات البعيدة كل البعد عن الموضوعية، لكن وزارة الحقيقة في "1984" لم تكن في الحقيقة تهتم بردود أفعال المواطنين حول حقيقة الأخبار وموضوعيتها، بل كانت قد وضعت نوعا من الخطوط الحمراء التي لا يجب تجاوزها مطلقا: هذه الأحداث الرائجة ليست بالضرورة حقيقة محضة ولا يهمنا رأيكم حولها لكنكم كمواطنين يجب ألا تشككوا فيها مطلقا بصوت جهوري، وإلا ستتدخل الدولة لتصحيح المسار المخترق من طرفكم بالعنف؛ لأنها الطرف الوحيد الذي يمتلك القوة وباستطاعته استعمالها.
في عصرنا الحالي صار من غير الحكيم مطلقا استعمال العنف ضد المتظاهرين والأصوات المنادية بالتغيير، لأن ذلك سيسيء حتما لصورة الدولة وسيؤثر سلبا على سمتعها الدولية واقتصادها بصفة عامة في ظل الاتفاقيات الدولية والبنود العالمية المناهضة للعنف والقمع. لكن هناك طرق أخرى من أجل البروبغندا لا تتبنى العنف مطلقا لكنها تبحث عن الأصوات المرتفعة عاليا من أجل التغيير، وتحاول التأثير فيها بطريقة أو بأخرى دون علمها سواء من أجل تغيير نبرة الصوت أو رسالته.
ويؤكد منهج Otero المتخصص في البروبغندا أنه من بين الوسائل العالية الفعالية التي تروم التحكم فيما يفكر فيها الناس: إيهامهم بأن هناك نقاشا دائرا وحوارا مستمرا حول الموضوع الذي يعنيهم دون توسيع دائرته، بعدها يقدم كل طرف بعض الحقائق والادعاءات التي يؤمن بها ويعتقد أنها الحل، هنا تصير هذه الادعاءات بروبغندا لا تكشف عن اسمها خصوصا أن الطرفين يصادقان عليها دون ضغط مباشر من جهة معينة، ويدخل أصحاب الأصوات المناهضة في دوامة البروبغندا ويصيرون جزءا لا يتجزأ منها دون علمهم بذلك.
في نفس السياق، كان هتلر مهووسا بالبروبغندا لدرجة أنه أنشأ وزارة متخصصة في البروبغندا أسماها "وزارة التنوير العام البروبغندا" ونصب Joseph Goebells وزيرا لها؛ لعبت هذه الوزارة دورا كبيرا في وصول الحزب النازي إلى الحكم من الفترة الممتدة من 1933 إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وترسيخ ريادته في تلك الفترة وتمرير الكثير من القرارات المفصلية والقوانين المحورية من أجل توسيع دائرة نفوذه وتجنيد الملايين من أجل شن الحرب التي أودت بحياة ملايين الأشخاص حول العالم.
حرب ساهمت في تغيير خريطة العالم السياسية إلى الأبد بواسطة نشر أخبار ومعلومات خاطئة تماما أو ربما ينقصها الكثير من الحقيقة وكتب محورية كـ"Protocols of Elders Zions" المنشور سنة 1897، ومفاده أن هناك مزاعم صهيونية لحكم العالم إضافة إلى كتاب "سيكولوجية الجماهير " لكاتبه Gustave LeBon، الذي يسطر أن البروبغندا هي أفضل وسيلة للتحكم بعقلية القطيع ناهيك عن خطاب الكراهية الذي ترسخ في عقل معظم الشعب الألماني آنذاك، وكان يؤكد على سمو العرق الآري وأحقيته بالتربع على عرش العالم بأسره.
غير بعيد عن ألمانيا النازية وتحديدا خلال شن الحرب الأمريكية على ڤيتنام انقسم الحوار الدائر في الولايات المتحدة الأمريكية عبر الجرائد والقنوات المعروفة آنذاك إلى جهتين لا ثالث لهما: Doves Vs Hawks (الحمام والصقور). أكد فريق "الصقور" أن بلادهم ستفوز حتما إن استمرت في الحرب أما فريق "الحمام" فكان مترددا بشأن احتمال الفوز ويعتقد أن هذه الحرب ستكلف بلاد العم سام كثيرا من المال والأرواح من أبناء جلدتهم.
هنا يظهر جليا أن كلا الفريقين لم يكن يجد ضررا في شن الحرب على الڤيتنام لكن الاختلاف الوحيد كان في حيثيات لا أهمية لها. هنا نستطيع أن نرى دور البروبغندا في تغيير الحوار الدائر حول قضية معينة وحجب الأضواء عن مربط الفرس الذي يكمن أصلا في شرعية الحرب من عدمها حيث صارت الأغلبية مساندة لتدخل بلادهم في ڤيتنام من منطلق "الدفاع" فقط وليس "استخدام العنف ضد دولة أخرى"، كما سطر جورج أوريل في كتابه "1984"، إذ عوضت الدولة آنذاك مصطلح "العنف" بـ"الدفاع".
كان معظم الأمريكيين آنذاك مؤمنين بأحقية بلادهم في شن الحرب على ڤيتنام وقتل الكثير من المواطنين لكنهم لم يتساءلوا مطلقا عن شرعية تلك الحرب في الوقت نفسه الذي كان الاتحاد السوڤياتي في أوج احتلاله لأفغانستان، الشيء الذي أسال الكثير من المداد واعتبره العالم فعلا استعماريا عنيفا ضد شعب أعزل. لم تستطع الأغلبية "حمام-صقور" حينئذ أن ترى أن الحرب على الفيتنام والحرب على أفغانستان ليست إلا وجهين لعملة واحدة هي الاحتلال والعنف.
هناك نقطة مهمة يجب الإشارة إليها وهي أن البروبغندا غالبا ما تنطلي على الطبقة المتعلمة خاصة وأنها تكون قريبة من مصدرها، تقرأ كثيرا وغالبا ما تكون جزءا لا يتجزأ منها، فخلال سنة 1982 أظهر استطلاع للرأي في الولايات المتحدة الأمريكية Gallup Poll أن أكثر من 70% من الأمريكيين يعتبرون أن الحرب على ڤيتنام خطأ فادح اقترفته الولايات المتحدة الأمريكية، وأنهم ضد العنف بشتى وسائله لكن هذه النسبة من الأمريكيين لم تكن تشمل "الصقور"و "الحمام" "Doves Vs Hawks" الذين كانوا يختلفون فقط في تكتيك الحرب على الڤيتنام، بل كانت تمثل عامة الشعب التي صوتت بأغلبية ساحقة ضد العنف والحرب.
تنطلي البروبغندا بسهولة على الطبقة المتعلمة لأنها تقرأ وتكون أكثر عرضة للوسائل المسخرة لها، كما أنها تشكل النخبة التي تتحكم وتدير شؤون غالبية الشعب. اقترفت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في نفس الحقبة خطأ جسيما باستعمار كل من ڤيتنام وأفغانستان، لكن الأغلبية لا ترى الشيئين بنفس المنظور مطلقا. وتجدر الإشارة إلى متلازمة الڤيتنام التي مفادها أن هناك بعض الأشخاص الذين يحسبون على النخبة، الذين يفهمون كثيرا خاصة عندما يرون أن الاتحاد السوڤياتي شن حربا عشواء ضارية على أفغانستان في الوقت نفسه الذي يعتقدون فيه أن شن الحرب على الڤيتنام كان ضرورة من أجل الدفاع عن النفس.