الجيش والحراك ورحلة الفوز بالنقاط
بإزاحته للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة تمكن الجيش الجزائري من الاستفراد مجددا بالقرار السياسي في البلاد ليتفرغ لتحجيم نفوذ جناحي الدولة العميقة بقيادة السعيد بوتفليقة ومحمد مدين المدعو التوفيق، اللذان استطاعا بتواجدهما في الحكم نسج شبكتين من المصالح تمتد في الأحزاب السياسية والمؤسسات الإعلامية ورجال المال ونشطاء المجتمع المدني ونافذين في هياكل الدولة.
وكان التنافس بين الشبكتين طيلة العشرين سنة الأخيرة من عمر الجزائر المستقلة، ليلتقيا في تحالف جديد لمواجهة قيادة الأركان، وهو ما كشف عنه الرئيس الأسبق اليمين زروال، بعد العرض الذي تقدم به السعيد بوتفليقة لمحمد مدين، بقيادة مرحلة انتقالية يكون للثنائي السعيد وتوفيق دور مركزي في ترتيباتها.
ذلك في محاولة للالتفاف على الحراك الشعبي من جهة وإزاحة خصمهما المشترك الفريق أحمد قايد صالح، الذي ازداد نفوذه بعد إزاحة مركز رئاسة الجمهورية من القرار السياسي، خاصة أنه من خلال المؤسسة العسكرية استطاع أن يتكيف مع الحراك الشعبي، ويوائم خطابه مع خطاب الحراك وينفذ جزءا كبيرا من مطالبه بتنحية بوتفليقة، عبر تفعيل المادة 102 من الدستور ودعوة القضاء لمباشرة المتابعات لعدد من المسؤولين المدنيين والعسكريين ورجال المال، الذين تصدروا المشهد طيلة حكم بوتفليقة في سابقة من تاريخ الجزائر الحديث.
وتزايدت متاعب الشبكتين بإعلان وزير الدفاع الأسبق خالد نزار لمحتوى اتصالاته مع السعيد بوتفليقة، مبرزا التزامه بمسعى المؤسسة العسكرية وانحيازه للحراك الشعبي في محاولة للحفاظ على نفسه من المتابعات القضائية، التي تم فتحها لرموز نظام بوتفليقة، ويخشى أن تصل إلى مرحلة وجوده في السلطة في تسعينيات القرن الماضي.
أمام مشهد تراجع نفود الشبكتين وضعف تحالفهما وللضربات المتتالية التي نفذتها قيادة الأركان بمعية الحراك الشعبي كل بطريقته الخاصة، الجماهير الشعبية المصرة على تحقيق جميع أهدافها في ذهاب كل رموز حكم بوتفليقة وفق شعارها الشهير "يتنحاو كاع"، أكدت ذلك في الجمعة الحادية عشر، وهي تحضر نفسها لمعركة طويلة الأمد حتى الوصول اإى تحقيق هدفها الإستراتيجي في بناء دولة ديموقراطية يكون الشعب هو السيد ولوحده في تقرير مصيره.
وفي المقابل، فإن قيادة الجيش الجزائري تريد أن تكون عملية التنحية وتحريك مسلسل المحاكمات وسيلة لتحقيق هدفين رئسيين؛ الأول هو إضعاف جميع الخصوم من عناصر الشبكتين داخل مؤسسات الدولة التي مازالت تدين بالولاء لتوفيق والسعيد، وتقليم أجنحتهما الإعلامية والمالية. والهدف الثاني هو وضع حاجز عازل بين قيادة الجيش والحراك الشعبي وعدم الذهاب بعيدا في المطالبة بقررات ثورية تستهدف الجميع.
وبالرغم من المرونة التي أبداها الحراك مع قيادة المؤسسة العسكرية، وذلك في مقابل إجراءاتها السابقة في تنحية قيادة العصابة، إلا أن إصرار الفريق قايد صالح المحافظة على الوضع الحالي بحجة الالتزام بالدستور، دون السماع للطبقة السياسية والحراك الشعبي بضرورة مصاحبة ذلك بمجموعة من الإجراءات السياسية، التي لا تتعارض مع الدستور؛ وأبرزها ذهاب رئيس الدولة المؤقت عبدالقادر بن صالح والإتيان بشخصية سياسية مقبولة من قبل الجماهير، لقيادة المرحلة حتى انتخاب رئيس جمهورية جديد وفق المعايير الدولية تشرف عليها لجنة مستقلة.
وهو المطلب الثاني للحراك؛ هذه اللجنة المستقلة التي توفرت لها جميع الوسائل المادية والبشرية للإشراف الكامل على العملية الانتخابية وذلك وفق مراجعة لقانون الانتخابات في البرلمان، ثم ذهاب حكومة نورالدين بدوي، وهو المطلب الثالث للحراك.
هذه المطالب الثلاثة تصر لحد الآن قيادة الأركان على عدم القبول بها، ما أجج الحراك في جمعته الحادية عشر، ورفعه لسقف المطالب، مما أدخل الأزمة السياسية إلى مزيد من التأزم وإصرار طرفي اللعبة السياسية الجزائرية -الحراك والجيش- على التمسك بموقفيهما.
وإذا بقيت الأمور بهذا الشكل فإننا أمام مؤسسة عسكرية تراهن على كسب النقاط تلو الأخرى لتحقيق فوزها النهائي برئاسة الجمهورية. هذا المنصب الذي كان طيلة قرابة ستة عقود حكرا على من يختاره الجيش الجزائري، الحريص على أن يصل إليه شخص موثوق به أو في أسوأ الأحوال وفي الظروف الحالية، شخصية غير معادية له.
لهذا يحرص رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الفريق أحمد قايد صالح، على ممارسة السياسة بصفة دورية لتحقيق الهدف الإستراتيجي للمؤسسة العسكرية؛ وهو المحافظة على الوضع القائم الذي يضع الجيش في موقع اليد العليا في المشهد السياسي الجزائري والمحاور الوحيد والجاد للحراك الشعبي والطبقة السياسية.
ذلك في حين يحرص الحراك الشعبي أن تعود الكلمة للشعب الجزائري، وأن يكون السيد في تقرير مصيره واختيار رئيسه، وأن يكون له الفضل والمنة على من يتبوأ منصب رئيس الجمهورية. هذا الحرص والإصرار من طرف الحراك الشعبي حتم على الجيش موازنة الشرعية الدستورية في مقابل الشرعية الشعبية التي يمثلها الحراك الشعبي.
كما أن الدعوات المتكررة للقضاء لمباشرة إجراءات المتابعة بحق رموز نظام بوتفليقة ورموز الشبكتين المتحالفتين، في مختلف المواقع، ساهم بشكل متزايد في شل أذرعهما المالية والإعلامية ومنعهما من لعب أي دور مستقبلي، مما ساهم في حالة من الارتياح والقبول الشعبي، خاصة وأنها استهدفت ولأول مرة وزراء سابقين وحاليين وقادة سابقين في قيادة الأركان للجيش الجزائري، بالإضافة إلى المحسوبين على نظام بوتفليقة من عالم المال، إذ ارتبط نجاحهم المالي بالفساد الذي انتشر بشكل كبير في مرحلة حكم بوتفليقة.
وهذه نقطة إضافية في صالح الجيش، لكن الحراك يعتبرها خطوة في الطريق الصحيح ويريد المزيد من المتابعات القضائية، ولا يريد أن تتم المقايضة بالمطلب الرئيسي وهو الذهاب إلى انتخابات رئاسية حرة ونزيهة وألّا يستبدل شعار "يتنحاو كاع" (أي يذهبوا جميعا) بشعار "يتحاسبو كاع" (أي أن تتم محاسبتهم جميعا). إذ يعتبر تيار واسع من الحراك أن المحاسبة الحقيقية لرموز الفساد لا تتم في ظل نظام بوتفليقية بل تتم في ظل نظام ديموقراطي يؤسس لقضاء مستقل وعادل.
وفي محاولة لكسب نقاط إضافية تعبر عن جدية المؤسسة العسكرية في مكافحة الفساد ومتابعة المتورطين في قضايا نهب المال العام، تم إيداع الحبس الاحتياطي لقادة عسكريين كانوا ضمن قيادة الأركان والإدارة المركزية لوزارة الدفاع كتعبير عن صدق المؤسسة العسكرية في سعيها لكسب رضا الإرادة الشعبية، وفي محاولة لكسب التأييد لخطتها للخروج من الأزمة، التي تتراوح بين الحفاظ على المسار الدستوري ومباشرة إجراءات مرحب بها شعبيا.
ذلك في حين يرى الحراك الشعبي أن هذه الإجراءات غير كافية، خاصة وأنه يرى المئات من رموز نظام بوتفليقة في السياسة والمال والإعلام لا يزالون يتحركون بحرية بل ويحاولون ركوب الحراك الشعبي، ومن هنا تأتي نقطة ضعف هذه الإجراءات.
وأمام هذا الانسداد وتوازن القوى بين الحراك والجيش، لم يبق إلا طريق الحوار، هو المخرج لتجاوز حالة الجمود على المطالب بين الطرفين، خاصة وأن الجمعة الحادية عشر من الحراك أثبتت:
- استمرار ورسوخ الحراك.
- إصرار الجيش على عدم الصدام وحرصه على الدعوة للحوار، وذلك بعد إحساسه بمحدودية الإجراءات التي قام بها لتحقيق الرضا الشعبي.
سيواصل الجيش مقاومة المطالب الشعبية الثورية، وخاصة تغيير النظام ولن يتنازل على أي جزء من السلطة، بل سيحرص على أن يكون آخر مركز في السلطة يتعرض للتغيير والتقييم، وسيقدم في مقابل ذلك مجموعة من الإجراءات تشمل متابعة الوزراء الذين كانوا في مرحلة حكم بوتفليقة ورجال المال والإعلام؛ بل ورجال السياسة في السلطة والمعارضة المتورطين بطريقة أو بأخرى في ديمومة نظام بوتفليقة. وسيباشر هذه المتابعات رفقة حوار مع الحراك الشعبي والطبقة السياسية للوصول إلى تفاهمات مقبولة للطرفين.
وقد نشهد في الأيام المقبلة بداية حوار سياسي تقوده رئاسة الأركان من خلال رئيس الدولة المؤقت مع الحراك الشعبي والطبقة السياسية، إذ مازال الفريق قايد صالح عضوا في الحكومة بصفته نائب وزير للدفاع الوطني مما يسهل البدء في حوار جاد بين الفاعلين الأساسيين في المشهد السياسي الجيش والحراك.