خمس سنوات من الجفاف ومخاوف جدية من شبح العطش.. ماذا يحدث بإيران؟

"طهران توشك على نفاد المياه، وإذا استمر الوضع فلن نتمكن من تزويد المدينة بها"
لم يعد الانهيار البيئي في إيران أزمة بطيئة يتجاهلها القادة منذ عقود، بل تحول اليوم إلى واقع متسارع يهدد وجود البلد ذاته.
فقد جاء جفاف هذا الصيف القاسي ليكشف بوضوح الحقيقة المروّعة: إيران على وشك أن تستنزف آخر ما لديها من مياه، وليس لديها وقت للاستدراك.
هذا ما أكده مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، لـ "نيك كوسار"، الصحفي الإيراني الأميركي، المحلل في قضايا المياه، و"علي رضا نادر"، الباحث في شؤون إيران والشرق الأوسط.

5 سنوات من الجفاف
وجاء في المقال أن إيران لطالما كانت بلدا جافا؛ إذ لا تحصل إلا على نحو ثلث معدل الأمطار الذي تهطل به في معظم مناطق العالم.
لكن في السنوات الأخيرة، تدهورت الأوضاع من السيئ إلى الأسوأ، ودخلت البلاد عامها الخامس على التوالي من الجفاف، فما كان في السابق أزمة بطيئة أصبح اليوم يتسارع بشكل خطير.
وبين عامي 2003 و2019 حين كان عدد سكان إيران لا يزال أقل من 90 مليون نسمة، وكانت الأمطار أكثر من مستوياتها الحالية؛ فقدت البلاد ما يقارب 211 مليار متر مكعب من المياه، أي ما يقرب من ضعف إمداداتها المتجددة وفق مستويات اليوم، وهي كمية المياه التي تتجدد طبيعيا سنويا.
ومعظم هذه الكمية استُنزف في الزراعة، وغالبا بأساليب ري غير فعّالة. وفي السنوات الحارة والجافة، ينخفض معدل الإمدادات المتجددة بشكل حاد بسبب سرعة جفاف التربة، وزيادة التبخر، وانخفاض تغذية طبقة المياه الجوفية.
وفي المقابل، يظل معدل الاستهلاك ثابتا تقريبا، ما يؤدي إلى اتساع العجز بشكل كبير. ومع ضعف الأمطار في السنوات الأخيرة، تباطأ معدل الفاقد السنوي، لكن الضغط على المياه الجوفية لا يزال شديدا مع ارتفاع درجات الحرارة وتفاقم موجات الجفاف، وفق المقال.
وفي حين تتركز العناوين الإخبارية غالبا على الطموحات النووية لإيران أو حروبها بالوكالة، تكمن التهديدات الوجودية الحقيقية تحت السطح، حرفيا، بحسب المقال.
فالنظام الذي كان يتباهى يوما بإنجازاته الهندسية في بناء السدود ومشاريع نقل المياه، يقف اليوم على رأس منظومة مائية منهارة، فالأنهار جفّت، والبحيرات اختفت، وطبقات المياه الجوفية تضمحل.

وقد اعترف الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في يوليو/تموز، قائلا: إن "أزمة المياه أخطر مما يجري الحديث عنه اليوم". مضيفا: "طهران توشك على نفاد المياه، وإذا استمرّ الوضع، فلن نتمكن من تزويد المدينة بها".
وشوهد بعض السكان وهم يحملون عبوات مياه إلى منازل أقاربهم لتعبئتها، فيما ارتفع الطلب على المضخات المنزلية وخزانات التخزين بشكل كبير، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار.
وآخرون توجهوا إلى المحافظات الشمالية هربا من هذا النقص. وحتى الآن، يتعامل سكان طهران مع الأزمة ببراغماتية ممزوجة بالخوف والإحباط، من دون أن تتحول إلى احتجاجات في شوارع العاصمة، بحسب المقال.
لكن في أنحاء البلاد، يواجه المواطنون موجات حر لا تطاق ومخاوف متزايدة من نقص المياه لفترات طويلة، وخارج طهران، في مدن مثل نسيم شهر وسبزوار وخمام، اندلعت احتجاجات في الشوارع أخيرا.
وعلى مدى السنوات العشر الماضية، شهدت مناطق من خوزستان إلى أصفهان تظاهرات مرتبطة بالمياه، حيث خرج المزارعون والعمال والأسر يتساءلون عن سبب جفاف أنهارهم وخواء آبارهم.
ومع تعثر الإمدادات العامة، لجأت بعض العائلات إلى شراء المياه من صهاريج خاصة لمجرد البقاء.
حلول ترقيعية
وهنا قال الكاتبان: "فكيف ردّ النظام على الاحتجاجات؟ الغاز المسيل للدموع والرصاص".
وأضافا: "على الرغم من سنوات الجفاف، لم تقدّم الحكومة سوى حلول ترقيعية قصيرة الأمد، مثل حفر آبار أعمق. وفي يوليو/تموز، أقرّ بزشكيان نفسه بأن "الأزمة لا يمكن حلها عبر مشاريع مجزأة"، داعيا إلى حلول مخصّصة لكل منطقة، قائمة على الهندسة والتطبيق الصارم للقوانين والتوعية.
لكن هذه الحلول ما زالت حبيسة الورق، فيما تواصل الخزانات المائية الانحدار إلى مستويات تاريخية منخفضة.
وعلى الرغم من إعلان الحكومة في 21 يوليو أن أيام الأربعاء ستكون عطلة رسمية في طهران والمناطق المحيطة لتقليل استهلاك المياه والطاقة، رفض بزشكيان القرار في نهاية الشهر، ويرى أنه إجراء شكلي.
وأمر بدلا من ذلك بقطع المياه 12 ساعة عن المنازل التي تسجّل معدلات استهلاك مرتفعة للغاية. وشدّد على الحاجة إلى تحرّك مستدام طويل الأمد قائم على خمسة أعمدة رئيسة: هندسة متكاملة للمياه والتربة والمحاصيل، وتثقيف فعّال، وسياسات تحفيزية، وتطبيق صارم للقانون، وتقييم ومراقبة مستمرة.
لقد استُنزفت الاحتياطيات الجوفية في إيران -التي كانت شريان حياة للمزارعين والمدن- بشكل متهوّر. وفي كثير من المناطق، لم تعد الآبار تعطي سوى الغبار، والأرض تهبط، والمحاصيل تتلف، وقرى بأكملها تُهجر، وما يحدث ليس مجرد جفاف طبيعي. بحسب وصف المقال.
وذكر المقال أن "بعض ما يُسمّى بـ"مشاريع التنمية" لم يكن مجرّد سياسات خاطئة، بل كان واجهات لجني الأموال.
فقد أشرف "خاتم الأنبياء" -الذراع الإنشائية الضخمة للحرس الثوري الإيراني- على عدد لا يُحصى من مشاريع السدود وخطط نقل المياه، بالتعاون مع شركات مرتبطة بمقربين من النظام.
لكن وراء الخرسانة والقنوات، كان هناك ما هو أكثر خطورة. فبحسب خبراء اطّلعوا على ملفات سرّية -من بينها تقرير صادر عام 2006 عن مكتب محافظ أصفهان- جرى تحويل ما لا يقل عن 6.5 ملايين متر مكعّب من المياه إلى "مركز نووي" سرّي. بحسب زعم المقال.
ورغم شح التفاصيل بسبب الغطاء الأمني على المشاريع النووية، فإن أنظمة التخصيب والتبريد النووي معروفة باستهلاكها الهائل للمياه. تلك الكميات من المياه كان يمكن أن تُنعش "مستنقع غافكوني" الذي تحوّل اليوم إلى أرض متشققة بلا حياة.
وزاد اندلاع الحرب مع إسرائيل في يونيو/حزيران 2025 الطين بلة -بحسب المقال- فبينما تجاهلت طهران أزمتها المائية المتفاقمة، أنفقت المليارات على الصواريخ وقمع المعارضين.
واليوم، يسأل المزارعون الذين اضطروا لهجر أراضيهم بعد جفاف آبارهم: لماذا تُموَّل الحروب والعنف بينما كان يمكن توجيه تلك الأموال لإنعاش خزانات المياه الجوفية تحت أقدامنا؟
وأوضح المقال أن "الأزمة لن تتوقف عند حدود إيران، فمع ذبول الأراضي الزراعية وتناقص المياه، سترتفع وتيرة الهجرة، وتتزايد النزاعات على الأنهار المشتركة، مثل نهر هلمند مع أفغانستان وروافد دجلة مع العراق، فشح المياه أصبح اليوم محفزا لعدم الاستقرار، بينما يضاعف تغيّر المناخ كل هذه المخاطر".
وحتى إذا انهار النظام الإيراني فإن الحكومة التي ستخلفه سترث أرضا منهكة وبيئة مدمّرة، ولن يكون إصلاحها سهلا؛ إذ سيتطلب الأمر أكثر بكثير من مجرد أنابيب جديدة أو محطات لتحلية المياه، وفق المقال.