وباء "الانتحار" يتفشى في السعودية.. ومحاربوه خلف القضبان

شدوى الصلاح | منذ ٦ أعوام

12

طباعة

مشاركة

تطالعنا الصحف السعودية بين الحين والآخر، بأنباء تؤكد تنامي حالات الانتحار وتزايد الاضطرابات النفسية في المملكة، دون أن تفنّد الأسباب الحقيقة وراء تزايد هذه الظاهرة التي باتت تهدد فئات عمرية مختلفة داخل البلد، ليس لأن الحقيقة الكاملة تختفي مع المنتحر، وإنما يأتي التكتم في إطار توجه عام وسياسة متبعة من السلطات السعودية.

إحصائيات قديمة أفادت بارتفاع معدلات الانتحار في السعودية إلى الضعف خلال 10 سنوات، حيث شهد عام 2010 حوالي 787 حالة انتحار، وفقا لبيانات وزارة الداخلية، وأشارت دراسة سعودية بعنوان "ظاهرة الانتحار من وجهة نظر محاولي الانتحار والأطباء والأخصائيين النفسيين والأخصائيين الاجتماعيين وضباط الشرطة والتمريض النفسي"، إلى أن 58 بالمئة من المنتحرين أو محاولي الانتحار هم من الذكور.

ورغم أن السعودية تحتل آخر ترتيب دول العالم من ناحية معدلات الانتحار، في حين تبوأت غويانا المركز الأول بدون منازع، وجاءت نسبة التفاوت بين الرقمين صارخة: أربع حالات انتحار لكل مائة ألف نسمة في السعودية، و44.2 حالة لكل مائة ألف نسمة في غويانا، وذلك ضمن بيان لمنظمة الصحة العالمية أصدرته من مقرها في جنيف في سبتمبر/أيلول 2018 بمناسبة اليوم العالمي لمنع الانتحار الذي أطلقته المنظمة قبل سنوات قليلة، إلا أن تزايد الحالات منذ مطلع العام الجاري لا يبشر بأن المملكة ستحافظ على ترتيبها هذا العام.

حالات انتحار

فمنذ مطلع العام الجاري، توالت حالات الانتحار واحدة تلو الأخرى، كان أبرزها توثيق سعوديين، الأسبوع الماضي، محاولة شاب القفز من أعلى جسر ميدان القاهرة في تقاطع طريقي مكة و"الملك فهد" في الرياض، قرب المستشفى العسكري، حيث أظهرت مقاطع الفيديو محاولات رجال الأمن إقناع الشاب بالعدول عن الانتحار، وبعد عدة محاولات، أشغل أحد رجال الأمن الشاب، فباغته آخر من الجهة الأخرى ليمسك به، لكنه تمكن من الإفلات من رجال الأمن وسقط من أعلى الجسر.

ورغم أن هذا الحادث ليس الأول، إلا أنه أثار ردود فعل واسعة عبر موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، ربما لأنه موثق بالفيدو، وأن طريقة طرح الخبر في وسائل الإعلام استفزت الناشطين؛ لأنها حاولت التركيز على مهام رجال الأمن رغم أنها باءت بالفشل.

وكان الحال نفسه مع محاولة انتحار موظفة بإحدى مستوصفات الأسنان في حي المطار بمدينة حائل ظهر الخميس 11 أبريل/نيسان الجاري، وخروجها من نافذة في الدور الثالث للمبنى، حيث أبرز الخبر "تمكن الدفاع المدني بحائل" من إحباط انتحار الموظفة، واتخاذهم للاحتياطات اللازمة ومباشرة عملهم في وقت قياسي وغيرها من الاستطرادت التي تمجد دورهم، دون أي إشارة إلى الأسباب التي دفعت الموظفة للانتحار.

وفي مارس/آذار الماضي، عثرت الشرطة المحلية في مدينة جدة بالمملكة السعودية، على جثة شاب سعودي في العقد الثالث من العمر، منتحرا شنقا في منزله، بحي الكندرة، من دون الإعلان أيضا عن الأسباب التي دفعت الشاب للانتحار.

الفقر والبطالة

وقال ناشطون، إن البطالة وارتفاع الأسعار وانعدام فرص العيش باستقرار، تدفع بعض المواطنين السعوديين ممن ينفد صبرهم، إلى الانتحار، كما توجد حالات تقدم على الانتحار لخلافات عائلية وزوجية وقضايا شخصية، وغيرها من المشاكل الأخرى.

وتجدر الإشارة إلى أن نسبة البطالة حاليا في السعودية تقف عند 12.9 بالمئة، وهي نسبة لها تأثيرات سلبية على عملية إعادة هيكلة الاقتصاد، التي أعلنها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لرؤية 2030، إلا أن السنوات الأخيرة أظهرت عجز السلطات السعودية عن معالجة ظاهرة البطالة في المجتمع، في حين دعا مراقبون لغربلة وزارة العمل وإعادة هيكلتها، لأنها معول هدم، وتسير في الاتجاه المعاكس لرؤية المملكة.

وفي وقت قدّرت تقارير غير رسمية نسبة الفقر في السعودية ما بين 15 و25 بالمئة، فقد أكدت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، في تقرير سابق، تزايد معدلات البطالة والفقر، مشيرة إلى أن "مليونين إلى أربعة ملايين سعودي يعيشون على أقل من 530 دولارا شهريا أي (17 دولارا يوميا)، وأن الدولة تخفي نسب الفقر".

ويتوزع ملايين الفقراء السعوديين في العديد من المناطق، لاسيما التي تقع في الأطراف وتعاني من إهمال على مدار الحكومات المتعاقبة، وحذّر البنك الدولي المملكة من خطورة ارتفاع نسب الفقر في السنوات المقبلة، وذلك في تقريره "الآفاق الاقتصادية للسعودية" الصادر في 16 أبريل/نيسان 2018.

وحول معدلات الدخل التي تضع صاحبها في دائرة الفقر بالسعودية، حدّد تقرير اقتصادي لجمعية الملك خالد الخيرية، خط الكفاية في السعودية للأسرة المكونة من سبعة أفراد، بنحو 12486 ريالا (نحو 3323 دولارا أمريكيا) في الشهر، معتبرا أن ما دون ذلك يدخل تحت خط الفقر.

ولأن الفقر والبطالة وضيق اليد قد تكون أسبابا أساسية تدفع إلى الانتحار، فالدولة تساهم بشكل كبير في تنامي هذه الظاهرة، خاصة في ظل إخراسها لكل الأصوات التي تتحدث عن معاناة المجتمع السعودي، آخرهم اعتقال الصحفي السعودي يزيد الفقي، بعدما انتقد تفشي الفقر والفساد في المملكة وتحدث عن "عمل استخباراتي".

مسؤولية السلطات

وبدوره، قال المعارض السعودي سلطان العبدلي، إن السلطة السعودية مسؤولة مسئولية مباشرة عن ظهور حالات الانتحار بالأساس؛ لأنها تسببت في انتشار اليأس بين الشباب وتفشي البطالة بشكل غير مسبوق، مؤكدا أن أغلب خريجي الجامعات لا يجدون وظائف، فماذا عن أصحاب الشهادة الثانوية والإعدادية ومن هم بدون شهادات؟.

وأضاف في حديثه مع "الاستقلال"، أن الوضع متأزم مع السلطة الحالية خاصة في ظل صعوبة الحصول على القروض وحياة كريمة تعيش من خلالها الأسرة والفرد، فضلا عن أن الديون تضرب بخناق الشعب.

وتابع العبدلي: "نحن أمام إشكالية كبرى في بلد ليس به خطط اقتصادية، وإنما به سرقة ونهب ورواتب عالية مخصصة لرموز النظام، وسلب منذ زمن طويل أوصلنا إلى هذه الحالة".

وخلص إلى أنه لا يجوز الحديث عن غياب دور الدولة في مواجهة تزايد الحالات، بل يجب أن نقول أن "النظام والسلطة هما السبب في تزايد هذه الحالات، خاصة في ظل ملاحقة الناس في أرزاقها ومحاولة إقناع الناس ومحاربتهم نفسيا بأنهم هم الكسالى ورواتب زهيدة جدا".

التفكك الأسري

ومن الفقر والبطالة إلى التفكك الأسري الذي قد يكون أحد أسباب الانتحار، حيث أكدت الاحصاءات وجود خلل كبير على صعيد العلاقات الأسرية داخل المملكة، وله تداعيات سلبية وخطيرة على الصعيد الاجتماعي والأمني والاقتصادي، فقد سجلت معدلات الطلاق في المملكة ارتفاعا مطردا للعام الخامس على التوالي، فيما انخفضت معدلات الإقبال على الزواج بشكل مطرد أيضا في الفترة ذاتها.

وبينت نتائج الكتاب الإحصائي السنوي لعام 2018 الذي صدر عن مصلحة الإحصاءات العامة الأسبوع الماضي، أن عدد صكوك الطلاق الصادرة عن وزارة العدل خلال العام الماضي بلغ أكثر من 58 ألف صك بنسبة 28 بالمئة من إجمالي الصكوك وعقود الزواج في 2018 والبالغة نحو 150 ألف عقد.

وأوضحت، أن متوسط معدلات الطلاق بات يرتفع سنويا بنسبة 2 بالمئة يقابلها انخفاض بذات النسبة في معدلات الزواج، وبلغت حالات الطلاق خلال السنوات الخمس الماضية أكثر من 260 ألف حالة

دور الأسرة

وأكد الباحث الأكاديمي المتخصص في القضايا الاجتماعية خالد الدوس، أن "الاهتمام بالنسيج الأسري يحد من انتشار فكرة الانتحار"، مطالبا المؤسسات التعليمية والدينية، بحماية عقول الشباب من العديد من الأفكار الهدامة والآراء المنحرفة التي تهدد الفرد والأسرة والمجتمع.

وطالب بالحد من انتشار السلوك الانتحاري في المجتمع السعود، من خلال الاهتمام بالنسيج الأسري وتعميق دوره الوظيفي والبنائي، خاصة أن الأسرة تعد من أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تقع على عاتقها مسؤولية تربية الأبناء، وتنشئتهم التنشئة الروحية والسلوكية والفكرية والأخلاقية والنفسية والدينية السليمة.

وعلق على محاولة انتحار شاب في الرياض، قائلا: إن المجتمع السعودي كسائر المجتمعات الأخرى، يشهد في واقعه المعاصر محاولات للانتحار، إذ لا يكاد يمر شهر من دون أن نسمع خبرا هنا أوهناك عن محاولة انتحار، وهذه لا شك لها دوافع ومسببات قد تكون اجتماعية أو نفسية أو اقتصادية، أو بسبب تعاطي المخدرات وإدمانها، أو نتيجة لضعف الوازع الديني والفراغ الروحي.

غياب الوعّاظ

وفيما يتعلق بالوازع الديني والفراغ الروحي، وفي بلد ينظر فيها للانتحار على أنه فعل مجرم دينيا واجتماعيا، فقد غيّبت السلطات السعودية الوعّاظ والدعاة وقلصت أصوات الاعتدال التي قاومت الأفكار المتطرفة، ووضعت أصحاب الأدوار المجتمعية ممن كان لهم دورا بارزا في هذا الأمر خلف القضبان.

ومن أبرز الدعاة المغيبين، هم الداعي الإسلامي سلمان العودة، الذي اعتقلته تعسفيا منذ 10 سبتمبر/كانون الأول 2017، ووضع في زنزانة انفرادية، ضمن حملة توقيفات شملت عددا من العلماء والكتّاب، وطالبت النيابة العامة السعودية في 6 مارس/آذار 2019 القضاء بإعدامه (القتل تعزيرا)

ودليل على دور العودة اجتماعيا وحضوره بين الشباب السعودي والعربية، فقد دافع العديد من المتابعين وطالبوا بالإفراج عنه، نافين التهم المنسوبة له، في تغريدات عبر وسم "العودة في خطر". كما انتشرت العديد من الوسوم المساندة له منذ اعتقاله.

وكان العودة، قد تحدث عن ظاهرة الانتحار في السعودية، ووصفها بأنها "خطيرة"، لكنه رفض نسبها للأمراض النفسية، ووصف ذلك بأنه "خداع"، مشيرا إلى أن الانتحار جريمة في حق النفس، وهو تعبير صادم عن أزمة عميقة خاصة حين يتكرر من شباب يستقبل الحياة.

وأوضح في تغريدات له بحسابه في "تويتر"، والذي يتابعه أكثر من 13 مليون شخص، أن ضعف الإيمان من أهم أسباب الانتحار وهذا لا ينفي وجود أسباب أخرى، منها الغضب والقمع وقهر الرجال والغبن، والمجتمع أيضا له أدوار في الانتحار.

كما اعتقلت السلطات السعودية الدكتور وليد فتيحي - طبيب أمريكي سعودي ومدير مستشفى المركز الطبي الدولي في مدينة جدة، دون محاكمة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وتشير تقارير إلى تعرضه للتعذيب، وغياب الإجراءات القانونية في السجون السعودية.

ويمثل فتيحي، شخصية لها ثقلها علميا وشعبيا وعرف من خلال تقديمه للبرنامج التلفزيوني الاجتماعي "ومحياي" على قناة "أم بي سي"، وتحدث عبر حسابه بتويتر، وفي مقالات له على موقعه الخاص عن وجود 80 دراسة تشير إلى أن زيادة الإيمان تؤدي إلى خفض نسبة الانتحار، مؤكدا أن الفقر أشد فتكا من الأمراض ويسبب الانتحار.

وتحدث عن أن الشرع الإسلامي غلّظ في سرقة المال العام وجعلها من صور الفساد في الأرض، ورخّص للحاكم المسلم بالتعزير في الأحكام إلى حد القتل والصلب ليكون السارق من المال العام عبرة لغيره؛ لأن المال المسروق يسرق معه أجيالا وأجيالا.

دعوة للدراسة

بدوره، دعا الكاتب السعودي سعد الدوسري إلى دراسة أحداث الانتحار وقراءة كل محاولة انتحار، قراءة جادة وموضوعية، لكي تتشكل رؤية واضحة، نستطيع من خلالها أن نتلمس الأسباب الحقيقية الكامنة وراءها، حتى وأن علمنا مسبقا بأن مَنْ ينتحر أو يحاول الانتحار، هو في النهاية مريض نفسي.

وأكد في مقال له بصحيفة "الجزيرة"، الخميس الماضي، أن الأمراض النفسية لا تقود كلها لليأس المطلق من الحياة، واختيار الموت، مشيرا إلى أن مثل هذه الدراسات، ستنقذ شبابا قد يختارون نفس المصير.

وأكد الكاتب السعودي عبد الله بن بخيت، أن النظر إلى أن الأسباب التي تؤدي إلى الانتحار تقع ضمن الأمراض والعادات التي نعرفها ويعاني منها عدد من الناس، هذا يعني أننا في انتظار عمليات مشابهة سواء ظهرت بالصدفة على الملأ أو أنجزت في الخفاء.

وأشار خلال مقال له الخميس الماضي، في صحيفة "الرياض"، إلى الانتحار كحالة دينية ثم إدانة المنتحر لا يكفي، قائلا: "حان الوقت أن نؤسس جمعية لمساعدة من يتهددهم الانتحار أو مرشحين أن تدهمهم يوما من الأيام هذه المأساة".

علامات الانتحار

ونظرا لازدياد عدد الأشخاص الذي يقدمون على الانتحار أو حتى يفكرون فيه، وانطلاقا من هذا الواقع وانتشار هذه الأفكار لاسيما بين المراهقين، عمّم اختصاصيو الصحة العقلية أبرز العلامات التحذيرية التي تدل على أن الشخص الذي أمامك يفكر، أو يخطط، أو على وشك القيام بالانتحار.واشاروا إلى وجود علامات تحذيرية عاطفية منها "الشعور بالاكتئاب، وقلة الاهتمام بالأنشطة التي كان يستمتع بها في السابق، والتهيج، الغضب، القلق، الشعور بالعار أو الإذلال، تقلب المزاج".

وأكد الاختصاصيون، وجود علامات تحذيرية عاطفية لفظية، وتكون عبر حديث الشخص عن "قتل نفسه، حياته ليس لها أي هدف أو معنى، الحياة ستكون أفضل بالنسبة لعائلتي لو لم أكن موجودا، أنا عبء عليكم، أشعر بعدم الرغبة في الوجود"، لافتين إلى أن التعبير قد يكون غير مباشر، مثل "أتمنى أن أذهب للنوم ولا أستيقظ".

وأوضحوا، أن هناك علامات تحذيرية سلوكية منها "العزلة عن الآخرين، عدم التواصل مع الأصدقاء أو العائلة، التخلي عن الممتلكات، كتابة وصية، القيادة بتهور، زيادة السلوك العدواني، زيادة تعاطي المخدرات والكحول، البحث عن معلومات عن الانتحار على شبكة الإنترنت، تحضير مستلزمات الانتحار، مثل سلاح ناري، أو أدوية، التوقف عن الاهتمام بالنظافة الشخصية".