بعد سحب “فاغنر”.. هل تسعى روسيا لتنظيم وجودها العسكري في مالي؟

"تريد روسيا أن يكون لها سيطرة مشتركة مع الجيش المالي"
تعمل روسيا التي تخوض صراعا كبيرا مع الغرب بسبب حرب أوكرانيا، إلى تعزيز علاقاتها العسكرية في القارة الإفريقية، وهذه المرة عبر إعادة هيكلة وجودها العسكري في دولة مالي الواقعة غرب القارة السمراء.
وفي خطوة إستراتيجية اتجهت إليها موسكو، وفق المراقبين، فقد أعلنت شركة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة في 8 يونيو/حزيران 2025 انسحابها من مالي، منهية بذلك أكثر من ثلاث سنوات من العمليات المساندة للجيش المالي ضد جماعات مسلحة متعددة الولاءات والطموحات.

فاغنر تغادر مالي
وقالت شركة فاغنر في بيان على تلغرام: إن "المهمة اكتملت"، مضيفة أن "شركة فاغنر العسكرية الخاصة تعود إلى الوطن".
وقال البيان: "ساعدْنا الوطنيين المحليين على بناء جيش قوي ومنضبط قادر على الدفاع عن أرضهم. عادت جميع عواصم المناطق إلى سيطرة السلطات الشرعية".
وتخوض مالي، إلى جانب جارتيها بوركينا فاسو والنيجر، منذ أكثر من عقد من الزمان حربا ضد تمرد تشنه جماعات مسلحة، بما في ذلك بعض الجماعات المتحالفة مع تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة.
كذلك تواجه مالي منذ سنوات فصائل عسكرية تحت اسم "الإطار الإستراتيجي الدائم للدفاع عن شعب أزواد"، وهو تحالف جماعات مسلحة يهيمن عليها الطوارق.
والطوارق قبائل تسكن منطقة الصحراء الكبرى، ومنها أجزاء من شمال مالي، ويشعر العديد منهم بالتهميش من جانب الحكومة المالية، ويطالبون بالاستقلال.
وعقب انقلابين في 2020 و2021 وتولي المجلس العسكري بقيادة الجنرال أسيمي غويتا الحكم، فكّت مالي تحالفها مع القوة المستعمرة السابقة فرنسا، واتجهت سياسيا وعسكريا نحو روسيا، لا سيما عبر اللجوء إلى خدمات منظمة فاغنر.
وقد شرعت الدولة الإفريقية خلال السنوات الأخيرة في عملية تقارب بطيئة ولكنها مستمرة مع روسيا، منذ أن بدأت المشاعر القوية المعادية للفرنسيين تتصاعد داخل الرأي العام وأوساط الجيش، قبل أن تعلن فرنسا منتصف أغسطس 2022 انسحاب آخر جنودها من مالي، لتنهي بذلك مهمة جيشها في البلد الإفريقي بعد وجود دام تسعة أعوام في إطار قوة برخان العسكرية التي كانت موجودة على الحدود بين مالي والنيجر.
وبمغادرة "فاغنر" بعد أكثر من ثلاث سنوات من القتال إلى جانب الجيش المالي، جرى الاستيلاء على وحداتها هناك من قبل فيلق إفريقيا الذي تديره موسكو، حسبما قالت مصادر دبلوماسية وأمنية للصحفيين في 9 يونيو/حزيران 2025.
وحسب صحيفة "فيدوموستي" الروسية، فإنه في ديسمبر/كانون الأول 2023، بدأت موسكو تشكيل "الفيلق الإفريقي" ليحل محل قوات مرتزقة "فاغنر"، وهو ينشط في ليبيا وبوركينا فاسو ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى والنيجر.
ويتبع هذا الهيكل الجديد مباشرة للإدارة العسكرية الروسية، والفيلق الإفريقي موجودة في مالي منذ فترة بناء على طلب رسمي من الحكومة الانقلابية (المجلس العسكري) لتعويض انسحاب القوات الفرنسية والأوروبية التي كانت موجودة في إطار مهمات مكافحة الجماعات المتطرفة والمتمردة.
ومع تراجع النفوذ الغربي في المنطقة، سعت روسيا إلى ملء الفراغ، مقدمة عروضا للمساعدة؛ حيث وسعت موسكو في البداية تعاونها العسكري مع الدول الأفريقية باستخدام مجموعة فاغنر للمرتزقة.
ولكن منذ مقتل زعيم المجموعة، يفغيني بريغوزين، في حادث تحطم طائرة عام 2023، بعد تصعيد تمرد مسلح قصير في روسيا تحدى حكم الرئيس فلاديمير بوتين، طورت موسكو فيلق أفريقيا كقوة منافسة لفاغنر.
ووفقا لمسؤولين أميركيين، يوجد حوالي 2000 مرتزق في مالي. ومن غير الواضح عدد المنضمين إلى فاغنر وعدد المنضمين إلى فيلق إفريقيا.
وحسب وكالة رويترز فإن ما بين 70 و80 بالمئة تقريبا من فيلق إفريقيا أعضاء سابقون في مجموعة فاغنر.
ووفق مصدر دبلوماسي في منطقة الساحل الإفريقي لوكالة الصحافة الفرنسية، فإن عناصر فاغنر سيدمجون في فيلق إفريقيا.
لكن ما هو واضح أن روسيا في الوقت الراهن تسعى لتطوير علاقات عسكرية وإنمائية مع نظام عسكري أتى إلى مالي عبر انقلابين متتاليين، وشهد في دورته الانقلابية الثانية رفضا شعبيا وسياسيا للوجود الفرنسي.
إذ تحولت روسيا بشكل جذري نحو شركائها في آسيا وإفريقيا منذ بدء هجومها على أوكرانيا في عام 2022 الذي تسبب في فرض عقوبات غربية شديدة على اقتصادها.

"مكاسب سياسية"
ومنذ سنوات تعمل روسيا، اللاعب الرئيس في إفريقيا إبان الحقبة السوفيتية، على تكريس وجودها لا سيما في الدول الإفريقية؛ حيث يلقى خطابها المناهض "للاستعمار الجديد" والداعي إلى "نظام عالمي أكثر انصافا" قبولا واسعا لدى القادة الأفارقة.
وفي أول تعليق للرئاسة الروسية "الكرملين" عقب انسحاب "فاغنر" من مالي حيث كانت تنشط منذ العام 2021، كشفت موسكو عن رغبتها في تعزيز علاقاتها العسكرية مع إفريقيا.
وقال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف خلال إيجازه اليومي: "يواصل الوجود الروسي في إفريقيا نموه، وننوي تعزيز تعاوننا في كل المجالات مع الدول الإفريقية".
وفي معرض رده على سؤال حول ما إذا كان الوجود الروسي في إفريقيا سيبقى على حاله بعد انسحاب مجموعة فاغنر من مالي، أجاب "لو كان التركيز منصبا على الاستثمارات"، فإن هذا التعاون يتضمن أيضا "مجالات حساسة تتعلق بالدفاع والأمن".
ولعل حديث موسكو عن التعاون في مجال "الدفاع والأمن"، يشي وفق الخبراء إلى وجود سعي لتنظيم الوجود العسكري الروسي في مالي.
وضمن هذا السياق، قال المحلل والخبير العسكري والإستراتيجي أحمد حمادة، لـ "الاستقلال" إن "روسيا تسعى لأن تحل محل القوات الفرنسية التي انسحبت من مالي، وذلك من خلال الفيلق الإفريقي وهو لا يشبه الفيالق التي أسستها روسيا في دول أخرى، بل تهدف موسكو لأن تكون هناك سيطرة مشتركة مع الجيش المالي في بعض المواقع الحساسة".
ورأى الحمادة أن "توجه روسيا نحو إفريقيا في الوقت الراهن يعود لكونها مأزومة في أوكرانيا وانتهاء نفوذها في سوريا عبر سواحل البحر الأبيض المتوسط".
واستدرك الحمادة قائلا: "وما توجه روسيا نحو مالي إلا لكون القيادة الروسية تتعامل مع الأنظمة الدكتاتورية والانقلابية لتحقيق مكاسب عسكرية وسياسة وربما اقتصادية عبر كثير من العقود التجارية والأسلحة بما يضمن في نهاية المطاف تدعيم وجودها أكثر في القارة السمراء".
ونوه الحمادة إلى أن "روسيا يمكنها تقديم دعم لمالي بالأسلحة والمعدات وخدمات التدريب والتأهيل للجيش المالي بما يضمن في نهاية المطاف تثبيت الوجود الروسي ضمن إطار اتفاقات معينة، خاصة أن فيلق إفريقيا يركز أكثر على التدريب وتوفير المعدات وخدمات الحماية".
ومنذ عام 2010، باتت روسيا المورد الرئيس للتكنولوجيا العسكرية للدول الإفريقية، بل أصبحت فيما بعد أكبر مورد للأسلحة للقارة برمتها، متجاوزة حتى الولايات المتحدة.
ولفت الحمادة إلى "أن دعم روسيا لمالي له أهمية سياسية من ناحية التأكيد على التفوق الروسي على الغرب في إفريقيا وابتعاد دول في الجنوب الإفريقي عن النموذج الأوروبي، خاصة بلدا مثل مالي فيه موارد متنوعة ويمثل بوابة منطقة الساحل الإفريقي".

"تنظيم الوجود الروسي"
إن قرار انسحاب فاغنر من مالي في الوقت نفسه قد يشير وفق المراقبين إلى رغبة موسكو في تأسيس إطار عمل جديد للوجود الروسي في البلاد تقلص فيها الخسائر لأفراد المرتزقة في المعارك.
إذ يأتي إعلان انسحاب فاغنر في الوقت الذي تكبد فيه الجيش المالي والمرتزقة الروس خسائر فادحة خلال الهجمات التي شنتها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بتنظيم القاعدة في الأسابيع الأخيرة.
فقد تمكن مقاتلو جماعة نصرة الإسلام والمسلمين من قتل العشرات من الجنود في هجوم على قاعدة عسكرية في وسط مالي في 5 يونيو/حزيران 2025.
كذلك، في مطلع أغسطس/آب 2024 أعلن مسلحو الطوارق في شمال مالي أنهم قتلوا في المعارك التي دارت بين 25 و27 يوليو/ تموز 2024، في تين زواتين قرب الحدود الجزائرية 84 مرتزقا من مجموعة فاغنر الروسية و47 عسكريا ماليا.
وضمن هذا الإطار، رأى رضا ليموري، خبير الساحل في مركز سياسات الجنوب الجديد ومقره المغرب، أن "الخسائر الكبيرة ربما تسببت في النهاية المحتملة لمهمة فاغنر في مالي".
وقال ليموري في تصريحات صحفية في 9 يونيو/حزيران 2025: "إن عدم وجود إعلان رسمي ومتبادل من كل من السلطات المالية وفاغنر يشير إلى نزاع داخلي محتمل أدى إلى هذا القرار المفاجئ. في الوقت نفسه قد يشير هذا إلى إطار عمل جديد للوجود الروسي في البلاد".
يشار إلى أن روسيا وعلى لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، سبق أن تنصلت من وقوفها خلف دعم مالي عبر مجموعات "فاغنر".
وقد قال لافروف في مؤتمر صحفي في مقر الأمم المتحدة في نيويورك في 25 سبتمبر /أيلول 2021، إن الحكومة المالية تتوجه إلى "شركات روسية خاصة"، مضيفا حينها "ليس لنا أي علاقة بذلك".
ورأى لافروف أن أنشطة (الشركات الأمنية الروسية) تنفذ على أساس شرعي، حسب تعبيره.
وجاءت تصريحات لافروف تعقيبا فيما يبدو على تعالي التحذيرات الأوروبية للحكومة المالية على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة آنذاك، من التعاقد مع عناصر مسلحة من مجموعة فاغنر، بالتزامن مع قرار فرنسا خفض وجودها العسكري في مالي.
ومنذ تدخل فاغنر في مالي، تكررت اتهامات الأمم المتحدة لفاغنر بارتكاب انتهاكات.
وقد حث خبراء الأمم المتحدة في مايو/أيار 2025 السلطات المالية على التحقيق في تقارير عن عمليات إعدام بإجراءات موجزة واختفاء قسري مزعومة من قبل مرتزقة فاغنر والجيش.