صراع صامت بين السعودية والإمارات داخل أوبك.. كيف يهدد مستقبل المنظمة؟

المخاوف تزداد من أن تصل الخلافات يوما إلى نقطة الانفجار العلني
بينما لا تزال منظمتا أوبك وأوبك بلس للنفط تحاولان تثبيت توازنهما في مواجهة تقلبات سوق النفط العالمي، يزداد التوتر الصامت بين شريكين لطالما قدما نفسيهما بصفتهما العمود الفقري لتحالف المنتجين، السعودية والإمارات.
ومنذ سنوات، تتراكم الخلافات الفنية والتجارية خلف الكواليس، لكن وتيرتها أخذت منحى أكثر حدة مع تفجر خلافات الحصص الإنتاجية، وتباين الرؤى حول سقف الإنتاج وسعر برميل النفط ومصير السوق خلال العقد المقبل.
ورغم محاولات الطرفين تغليف الأزمة بغلاف "التفاهم الخليجي"، فإن واقع الأرقام والسياسات يكشف عن صراع نفوذ أعمق من مجرد جدل حول بضع مئات الآلاف من البراميل يوميا.
وتسعى السعودية، القوة المهيمنة داخل أوبك (منظمة الدول المصدرة للنفط)، لضبط المعروض النفطي لدعم الأسعار بما يتماشى مع طموحاتها التنموية الضخمة، وبرنامج ولي العهد محمد بن سلمان، نحو ما يروج له أنه حلم 2030.
وفي ذات الوقت، تواصل الإمارات الدفع باتجاه توسيع حصتها الإنتاجية بما يعكس استثماراتها الهائلة في رفع قدراتها النفطية، ورغبتها في إعادة رسم قواعد اللعبة داخل المنظمة، ولو وصل الأمر إلى أن تهدد بالانسحاب الكامل من أوبك.
وفي خلفية هذا المشهد النفطي، تتحرك حسابات أكثر تعقيدا، تتمثل في تقديرات اقتصادية محلية متباينة، ورهانات جيوسياسية متشابكة، وصراع صامت على صياغة موازين القوة في الخليج فيما يعرف بإرهاصات فترة ما بعد النفط.
فإلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا التوتر الصامت دون أن يتحول إلى مواجهة معلنة؟ وما حدود قدرة الرياض على ضبط طموحات أبوظبي المتزايدة دون تفجر تحالف دول أوبك من الداخل؟ وكيف يمكن أن ينعكس هذا الصراع على مستقبل المنظمة وسوق الطاقة العالمي ككل؟
خلاف صامت
ورأت مجلة "الإيكونوميست" البريطانية أن أوبك تعيش واحدة من أكثر المراحل توترا داخل المنظمة، بسبب تزايد حدة الصراع غير المعلن بين الرياض وأبوظبي.
وتساءلت المجلة مطلع يونيو/ حزيران 2025، عما إذا كانت الإمارات ستنسحب من أوبك بسبب الخلافات حول حصص الإنتاج والإستراتيجيات النفطية التي تهدد وحدة الكارتل النفطي الأكثر أهمية في العالم، وسط تحولات كبرى في سوق الطاقة العالمي.
وأضافت أنه في 31 مايو، أعلنت أوبك بلس (التي تضم الدول الأعضاء في أوبك وحلفاءها من كبار المنتجين) عن زيادة إنتاج النفط بمقدار 411 ألف برميل يوميا بدءا من يوليو/ تموز 2025.
وهي ثالث زيادة شهرية متتالية في غضون ثلاثة أشهر، تمثل معا نحو 1.2 بالمئة من الطلب العالمي على النفط.
لكن ورغم هذا التسارع في قرارات ضخ النفط، لا تزال الزيادات قاصرة عن تحقيق هدف كبح جماح أسعار النفط المتقلبة.
ورغم الصورة العامة بأن أوبك لا تزال ممسكة بزمام السوق، تبدو الحقيقة أكثر تعقيدا، إذ باتت المنظمة تواجه أزمة عميقة قد تفتح الباب أمام تحولات جذرية في مستقبلها.
وقد نجحت أوبك خلال 65 عاما من تاريخها في تجاوز العديد من الأزمات الكبرى، بدءا من حروب الخليج وطفرة النفط الصخري في الولايات المتحدة، وصولا إلى الانهيار التاريخي للأسعار خلال جائحة كورونا.
لكن الأزمة الحالية بين الإمارات والسعودية مختلفة من حيث طبيعتها وتوقيتها، مع بروز مخاوف حقيقية لدى الدول الأعضاء من أن يقترب الطلب العالمي على النفط من ذروته خلال العقد المقبل، بفعل التحولات المتسارعة نحو الطاقة النظيفة.

الحليف المتمرد
في هذا السياق، بدأت عدة دول أعضاء في أوبك بالسعي لبيع أكبر قدر ممكن من احتياطاتها النفطية خلال فترة قصيرة.
وهو ما دفع بعضها إلى كسر القواعد الصارمة الخاصة بالتزام سقف الإنتاج المحدد، وذلك من أجل تمويل مشروعات تنويع اقتصاداتها وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيس للدخل.
وأوردت "الإيكونوميست" أنه في خضم هذه المعادلة المعقدة، تبرز الإمارات كأكثر الأعضاء تمردا داخل الكارتل، رغم المعاملة الخاصة التي تحظى بها من الرياض حتى الآن.
وتعد الإمارات ثالث أكبر مصدر للنفط داخل أوبك، وأحد أبرز اللاعبين الطامحين لزيادة حصتها الإنتاجية بشكل دائم، بما يتجاوز سقف الحصص التقليدية.
وعلى الرغم من التبرير الرسمي لأوبك بأن "قوة أساسيات السوق" تفرض زيادة المعروض، فإن هذا التفسير بات محل تشكيك واسع بين المحللين، الذين أشاروا إلى تراجع توقعات الطلب في ظل الحرب التجارية ووفرة المعروض خارج أوبك.
وتتعدد التفسيرات الفعلية وراء هذه الزيادات، بين من يرى أنها محاولة لإرضاء الإدارة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب من خلال خفض أسعار الوقود محليا.
وبين من يراها وسيلة لاستعادة حصص سوقية مفقودة، أو حتى أداة سعودية لمعاقبة الدول غير الملتزمة بحصص الإنتاج، وفي مقدمتها الإمارات.
حروب الأرقام
في قلب هذا الجدل، تبرز مشكلة الأرقام المتضاربة حول حجم إنتاج الإمارات الفعلي.
فبينما تؤكد أبوظبي التزامها بسقف 2.9 مليون برميل يوميا، تشير بيانات تتبع شحنات النفط إلى أن صادراتها من الخام وحدها تقترب من 2.8 مليون برميل يوميا، دون احتساب الإنتاج المكرر أو المخزون المحلي.
أما التقديرات غير الرسمية فتذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يرى محللون وخبراء يعملون مع شركات استشارية دولية أن الإنتاج الفعلي يتراوح بين 3.3 إلى 3.4 مليون برميل يوميا.
وقد توقفت الإمارات منذ سنوات عن نشر بيانات إنتاجها الرسمية، ما يزيد من صعوبة التحقق المستقل من صحة الأرقام المقدمة لأوبك.
ورغم علمها بهذا التجاوز، تواصل السعودية التزام الهدوء وعدم التصعيد العلني مع أبوظبي، خشية أن تدفعها المواجهة المباشرة نحو الانسحاب من أوبك، وهو سيناريو سيشكل ضربة قاصمة للكارتل بأكمله في توقيت حساس.
ويفسر مراقبون هذا التسامح السعودي بالحساسية الخاصة التي تحكم العلاقة مع الإمارات.
وتمتلك الأخيرة منذ فترة طويلة طاقة إنتاجية معطلة تفوق سقف حصتها الرسمية، مما ولد لديها شعورا متناميا بالغبن والرغبة في تعديل الحصص لصالحها بشكل دائم.

جوهر الخلاف
ويتجلى جوهر الخلاف بين الرياض وأبوظبي أيضا في طبيعة احتياجاتهما المالية المختلفة.
وتحتاج فيه المملكة سعر نفط لا يقل عن 90 دولارا للبرميل لتمويل مشاريعها العملاقة ضمن رؤية 2030 التي أطلقها ولي العهد محمد بن سلمان.
ويأتي ذلك في وقت تكتفي فيه الإمارات بسعر 50 دولارا للبرميل لتحقيق التوازن المالي في موازنتها العامة، ما يمنحها هامش مرونة أوسع في قبول انخفاض الأسعار مقابل توسيع حصتها السوقية.
وتعمل أبوظبي بالفعل على تنفيذ خطة توسعية طموحة لزيادة طاقتها الإنتاجية إلى 5 ملايين برميل يوميا بحلول 2027، باستثمارات تصل إلى 62 مليار دولار.
وتؤكد أدنوك الإماراتية (شركة بترول أبوظبي الوطنية) أنها اقتربت من تحقيق هذا الهدف قبل الموعد المحدد، في وقت لا تزال حصتها في أوبك مقيدة بزيادة تدريجية متواضعة قدرها 300 ألف برميل فقط خلال 18 شهرا.
وقد تقرر تأجيل مراجعة شاملة للحصص الإنتاجية إلى عام 2027، وهو ما ترفضه الإمارات ضمنا، وتعده تجميدا لطموحاتها الإنتاجية مقابل استحواذ السعودية على سقف إنتاجي مريح يلائم احتياجاتها الاقتصادية.
انفجار مؤجل
ولم تكن الأزمة الحالية أكبر الخلافات أو أولها بين الجارتين والحليفين الخليجيين.
ففي 6 يوليو 2023، نشر "المركز العربي واشنطن دي سي" ومقره العاصمة الأميركية، تقريرا ذكر فيه أن انفجارا مؤجلا يحدث داخل أوبك مع تصاعد التوترات المستترة بين الرياض وأبوظبي.
وأورد أن المخاوف تزداد من أن تصل الخلافات يوما إلى نقطة الانفجار العلني، ما قد ينسف وحدة أوبك ويعيد رسم خريطة النفوذ في سوق النفط العالمي بأكمله.
وبين أنه رغم صعوبة التكهن بمآل الأزمة الراهنة، فإن المؤشرات الحالية ترجح أن الخلاف السعودي الإماراتي لم يعد مجرد تباين فني حول الحصص الإنتاجية.
بل تحول إلى تنافس اقتصادي وإستراتيجي أعمق بين مشروعين متباينين في إدارة الثروة النفطية في منطقة الخليج.
وبدأت ملامح الخلاف بين السعودية والإمارات داخل منظمة أوبك في التشكل منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 مع إطلاق تحالف "أوبك بلس" بين الدول الأعضاء وروسيا.
ورغم موافقة أبوظبي على اتفاق خفض الإنتاج حينها، فقد شعرت مبكرا بأن الحصص الإنتاجية المخصصة لها لا تعكس طموحها المتسارع في توسيع قدراتها النفطية، ما زرع أولى بذور التحفظ غير المعلن.

محطات الخلاف
وجاءت جائحة كورونا عام 2020 لتعمق الهوة، مع اندلاع حرب أسعار بين الرياض وموسكو أدت لانهيار الأسعار بشكل غير مسبوق.
وبينما سارعت السعودية لاحقا لقيادة تخفيضات حادة لإنقاذ السوق، رأت الإمارات أن هذه التخفيضات فرضت عليها عبئا غير متناسب مع طاقتها الإنتاجية المتنامية.
لكن الانفجار العلني الأول للخلاف لم يتأخر كثيرا، ففي يوليو 2021 رفضت أبوظبي تمديد اتفاق خفض الإنتاج وفق الصيغة السعودية، مطالبة بزيادة حصتها قبل الموافقة على أي تمديد جديد.
وهدد هذا الموقف بانهيار اتفاق أوبك بلس بالكامل، قبل التوصل إلى تسوية منحت الإمارات زيادة مؤقتة بواقع 500 ألف برميل يوميا.
وخلال عام 2022 بقي التوتر تحت السطح، مع بروز خلافات جديدة حول وتيرة إعادة ضخ النفط للسوق مع تعافي الأسعار، حيث واصلت الإمارات ضغطها باتجاه رفع سقف حصتها الرسمية بما يتناسب مع طاقتها التوسعية.
وبحلول مايو/أيار 2023 بدأت التقارير الغربية تشير إلى تصاعد التوتر داخل اجتماعات أوبك بلس، وذلك مع تمسك السعودية بإجراءات خفض طوعي للإنتاج بهدف دعم الأسعار، في مقابل إصرار الإمارات على توسيع إنتاجها حتى خارج حدود الحصص المعلنة.
وفي فبراير/ شباط 2024 اقترب الخلاف من حافة انفجار جديد، بعدما واصلت أبوظبي تجاوز السقف الرسمي للإنتاج حسب بيانات تتبع الشحنات، وهو ما زاد من حدة الاستياء السعودي رغم استمرار ضبط النفس في التصريحات العلنية.
ومع حلول مايو 2025 وهي المرحلة الحالية، دخل الخلاف في الجزء الأكثر تعقيدا مع استغلال الإمارات للزيادات الإنتاجية الطفيفة التي أقرتها أوبك بلس.
وارتفعت في هذه المرحلة مخاوف الرياض من أن تستخدم أبوظبي ورقة الانسحاب من أوبك كورقة ضغط تفاوضي، وهو ما عد بمثابة قنبلة مؤجلة في قلب الكارتل، لا يعرف إلى أين سينتهي مآلها.