روسيا وقاعدة بورتسودان.. الأبعاد الإستراتيجية والحسابات الإقليمية
المحتويات
مقدمة
أولا: تطورات قضية قاعدة بورتسودان وأبعادها الإستراتيجية
ثانيا: روسيا وإعادة طرح القاعدة السودانية
ثالثا: حسابات السودان وراء إعادة الطرح
رابعا: الحسابات المصرية وما خلفها
خاتمة
المقدمة
سجالات كثيرة تدور رحاها حول قاعدة روسية على البحر الأحمر فوق الأراضي السودانية طفت على السطح مجددا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022 والتوترات بين مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة.
كانت الولايات المتحدة تنفي أي مساع جادة لتدشين القاعدة، وفي ذات الوقت انشغلت روسيا ببنائها ونفت وجود عراقيل أمامها.
ولم ينقطع الجدل في أعقاب تصريحات الفريق أول "محمد حمدان دقلو" (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة، بأنه من حق روسيا إقامة قاعدة عسكرية في السودان طالما أن ذلك لم يتعارض مع الأمن القومي السوداني.
تداعيات كثيرة سبقت هذا التصريح وأعقبته، بعضها يشير إلى دلالات أمنية وجيوسياسية، وبعضها يحمل خلفيات سياسية واقتصادية.
فما حقيقة هذه القاعدة؟ وما موقعها ضمن الإستراتيجية الروسية نحو إفريقيا؟ وما ملامح هذه الإستراتيجية؟ وما حسابات السودان حيال هكذا قاعدة؟ وما هي ردود الفعل الإقليمية والدولية حيالها؟ هذه الدراسة تقدم اجتهادا في الإجابة على هذه التساؤلات.
أولا: تطورات قضية قاعدة بورتسودان وأبعادها الإستراتيجية
كان نوفمبر/تشرين الثاني 2017 شهر اهتمام عمر البشير بأبرز المدن الساحلية الواقعة في شمال شرق السودان، وهي مدينة بورتسودان، التي تعد أكبر ميناء بحري سوداني، علاوة على كونها عاصمة ولاية البحر الأحمر.
شهد ذاك الشهر حدثين كبيرين بخصوص المدينة الساحلية السودانية البارزة. الأول تمثل فيما سبق وأعلنه وزير النقل السوداني "مكاوي عوض" أمام البرلمان السوداني في 15 نوفمبر من أن بلاده اتفقت مع قطر على إنشاء أكبر ميناء على ساحل البحر الأحمر، ليكون أكبر ميناء للحاويات بما يخدم السودان وجيرانه[1].
ومن جانب آخر، وخلال لقاء "البشير" مع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في منتجع "سوتشي" في 22 من نفس الشهر، طرح الأول فكرة القاعدة البحرية.
كانت الزيارة التي أجراها البشير إلى روسيا ذات طبيعة إستراتيجية بالأساس. واتفق البلدان على رفع التمثيل العسكري في البعثات الدبلوماسية إلى رتبة المستشارين.
كما اتفق وزيرا الدفاع في البلدين على مشاركة موسكو في تحديث القوات المسلحة السودانية، والتي يتشكل معظمها من قطع عسكرية وتقنية روسيتين.
غير أن الأخطر تمثل في تأكيد "البشير" أن بلاده بحاجة للحماية من التصرفات العدائية الأميركية، بما فيها منطقة البحر الأحمر، وأنه يريد بحث هذه المسألة مع الجانب الروسي[2].
ولعل هذا المطلب هو ما أدى إلى رفع مستوى الزيارة؛ لتتجاوز لقاء البشير مع رئيس الوزراء الروسي "دميتري مدفيديف"[3] إلى مقابلة الرئيس نفسه في سوتشي، ليجرى توقيع الاتفاقية، والتي صدق عليها بوتين في 16 نوفمبر 2020.
ونشرت الجريدة الرسمية الروسية التصديق في 9 ديسمبر/كانون أول 2020. وتطور التعاون الأمني ووصل إلى حد ما رصدته عدة تقارير أمنية لاحقا، عن تقديم عناصر من الشركة الأمنية الروسية الخاصة "فاغنر" المشورة لقوات الأمن السودانية خلال الاحتجاجات ضد حكم البشير أواخر عام 2018.
وأكد ذلك مسؤولون روس وجود عسكريين روس في السودان لكنهم نفوا تورطهم في قمع المظاهرات المناوئة للبشير[4].
ويمكن القول إن التقارب بين موسكو والخرطوم كان وراء تعجيل ربيع السودان، بما حمل من ضغوط أميركية[5]، ما أدى لتوفير قاعدة تأييد دولية للحراك الاحتجاجي الذي شهدته في 19 ديسمبر 2018.
وإثر هذا الحراك شهد السودان تغييرا سياسيا أتى بقائد الجيش على رأس السلطة ضمن ترتيبات عسكرية – مدنية، ليعيد النظام الجديد النظر في الاتفاق عبر إعادة طرحه أمام "المجلس التشريعي الانتقالي السوداني" (النيابي) في 12 يوليو/تموز 2021[6].
وبعدها خرج رئيس المجلس الانتقالي السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان (رأس السلطة التنفيذية) مطلع نوفمبر، ليطلق تصريحات تبدو وكأنها إمساك للعصا من منتصفها.
وأعلن أن بلاده لديها "ملاحظات" على الاتفاق مع روسيا حول إنشاء قاعدة بحرية روسية في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، مضيفا أنه يجب معالجتها قبل المضي قدما في تنفيذ الاتفاق[7].
ويمكن إيجاز الملاحظات التي ركز عليها "البرهان" في عدم وجود ولاية قضائية للبلاد في هذه المنطقة، وعدم السماح بإنشاء أي قاعدة أخرى لأي دولة خلال 25 عاما، وهي فترة طويلة جدا لمثل هذه القواعد. ويمكن تجديد الاتفاقية لمدة 10 سنوات أخرى في حال عدم اعتراض أي من الجانبين.
تتضمن الاتفاقية إمكانية استيعاب المركز اللوجستي المزمع لنحو 300 ألف جندي وموظف، واتساع التجديدات لتستوعب 4 سفن في نفس الوقت، فضلا عن إتاحة الفرصة لدخول سفن ذات قدرات نووية، وتضمين تجهيز المركز أجهزة استخبارات وتنصت وحرب إلكترونية[8].
هذه الترتيبات تعني أن القاعدة تستخدم لأغراض تهدد الجوار الإقليمي والانتشار الجيوسياسي الأميركي عبر بوابة حضور القيادة العسكرية الأميركية لإفريقيا "أفريكوم".
حديث "البرهان عن المراجعة أعقبه تصريح لـ"سيندي كينج" المتحدثة باسم "أفريكوم"، مفاده أنه لا وجود لاتفاق بين الخرطوم وموسكو على إنشاء قاعدة عسكرية روسية في السودان على البحر الأحمر، وأنه لا يمكن التعليق على أمر لم يحصل بعد[9].
تصريحات المتحدثة باسم "أفريكوم" جاءت في إطار تواصل مع السودان؛ بدأ بعد نحو 4 أشهر[10] من توقيع الأخير اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني[11].
إذ بدأ التواصل في يناير/كانون الثاني 2021، ما يشير للأجواء التي أتت فيها عملية تجميد الاتفاقية الروسية السودانية.
وبعد أيام من المحادثات الأميركية السودانية، وفي 8 فبراير 2021، وصلت إلى الميناء السوداني سفينتان أميركيتان ما بدا وكأنه إعلان النهاية عمليا للاتفاقية.
ورغم ذلك أصرت روسيا على مزاحمة السفن الحربية الأميركية في بورتسودان، حيث زارت الفرقاطة الروسية "أدميرال جريجوروفيتش" الميناء أثناء تواجد الأولى.[12]
ومع تردد معالجات إعلامية حول وقف بناء المركز اللوجستي العسكري الروسي بحلول نهاية أبريل/نيسان 2021، أقدمت السفارة الروسية في الخرطوم، في 29 من نفس الشهر، على نفي ما تردد عن توقف أعمال البناء في هذا المركز.
وأضافت أنها لم تتلق أي إخطارات من الجانب السوداني في هذا الصدد[13]، ثم عادت الحكومة الروسية في 14 سبتمبر/أيلول من نفس العام لتنفي وجود أي صعوبات لإنشاء قاعدة عسكرية في بورتسودان[14].
التوافق مع الولايات المتحدة، أدى لفتح الباب لحضور عسكري مصري في بورتسودان. وتأسس هذا الحضور عبر توقيع مصر والسودان اتفاق تعاون عسكري في 4 مارس/آذار 2021، يغطي مجالات التدريب وتأمين الحدود.
ووقع الطرفان الاتفاق على هامش زيارة الرئيس السابق لأركان الجيش المصري الفريق محمد فريد حجازي للعاصمة الخرطوم للمشاركة في الاجتماع السابع للجنة العسكرية السودانية المصرية المشتركة.
وهو ما فتح الباب لتكهنات بخصوص ضربة موجهة إلى "سد النهضة" الإثيوبي، والتحضير للمواجهة السودانية الإثيوبية، والتي ارتفعت احتماليتها مع خلافهما على ترسيم الحدود[15].
وما أعقب ذلك من إرسال القوات المسلحة المصرية لوحدات وآليات ومعدات إلى السودان في 21 مارس 2021[16].
ومع إجهاض مشروع الضربة العسكرية، ربما بإيعاز من وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون"[17]، بدأ السودان في معاودة التفكير ببناء قوته الذاتية لتحقيق التوازن العسكري مع الجار الإثيوبي، ما فتح الباب مجددا لتوافق سوداني- روسي على إمضاء الاتفاقية التي سبق تعليقها.
ثانيا: روسيا وإعادة طرح القاعدة السودانية
في مطلع مارس 2022، زار "حميدتي"، العاصمة الروسية موسكو، لمدة أسبوع. وفي أعقاب ذلك، أعلن أن الخرطوم لا تزال منفتحة على احتمال المضي قدما في الاتفاقية التي جرى التوصل إليها خلال حكم عمر البشير.
وأضاف أن السودان ليس لديه مشكلة في أن تقيم روسيا أو أي دولة أخرى قاعدة بحرية على ساحلها على البحر الأحمر بشرط ألا تشكل أي تهديد على أمنها القومي.
وذكر في تصريحات أدلى بها فور عودته من موسكو: "إذا كانت هناك مصلحة للسودان وشعبه بإقامة القاعدة، وفائدة لإقليم شرق البلاد، فلا توجد موانع"[18].
ويرتبط تطوير روسيا لعلاقتها مع السودان بتصورها لتمديد نفوذها في إفريقيا، وهو النفوذ الذي تمدد ليشمل دولا مثل مالي وليبيا وإفريقيا الوسطى وموزمبيق، إلى جانب الخرطوم.
وتمكنت دوائر القرار الروسية من بناء تصور عن تمديد النفوذ من خلال تطوير علاقة ذات شقين؛ أولهما أمني يرتبط بتأمين شخصيات من الحكام الأفارقة. والشق الثاني يتمثل في استغلالهم لبناء نمط مصالح روسي.
وكانت صحيفة "لوموند" الفرنسية قد نشرت تحقيقا مفصلا أعده عدد من مراسليها، يوضح أن شركة "فاغنر" الروسية، والتي يديرها رجل الأعمال والعسكري الروسي السابق "يفجيني بريجوزين"، وهو شخصية مقربة من بوتين باتت أداة التأثير الأساسية لموسكو في إفريقيا وخارجها (سوريا على سبيل المثال)[19].
ويحل العسكريون التابعون لهذه الشركة محل القوات الفرنسية في "مكافحة الإرهاب" في مالي، وربما تمكنوا من تعويض فرنسا سحب جنودها وإنهاء مشاركتها في عملية "برخان"[20].
وفي السودان، أخذ اتفاق "البشير" مع موسكو صبغة أمنية في البداية، تمثلت ملامحها في تسليح وتدريب القوات السودانية، ولم يلبث أن تطور فيما بعد مع منح شركة يملكها مالك شركة "فاجنر" امتيازات للتنقيب عن الذهب.
هذه الامتيازات منحتها الخرطوم وقتها لشركة "إم إينفست M Invest"، المرتبطة برجل الأعمال "بريجوزين".
وتعتمد "إم إينفست" على فرع محلي لها في السودان يدعى "مروي جولد Meroe Gold"[21]، وهو ما دفع خبراء لجعل الجريمة المنظمة جزءا من أدوات السياسة الخارجية الروسية[22].
ويمثل الذهب عنصرا مهما في إستراتيجية "بوتين" للتخلص من الضغوط والعقوبات الغربية المفروضة على بلاده.
وكان البنك المركزي الروسي قد أعلن عن شرائه الذهب من البنوك التجارية المحلية خلال الفترة من 28 مارس وحتى 30 يونيو/حزيران 2022، بسعر ثابت وقدره 5000 روبل للغرام الواحد، وهو ما يعني ربط الروبل الروسي بالذهب[23].
وهي خطوة لا تتعلق فقط بحماية العملة الروسية، بل تلعب دورا في إعادة تعريف النظام المالي العالمي. وتحتل روسيا المرتبة الخامسة عالميا من حيث احتياطي الذهب، وتمتلك 2292.2 طنا من المعدن النفيس[24].
ومن جهة ثالثة، فإن اتفاقيات السلاح مثلت أحد أهم مداخل روسيا للقارة السمراء. فخلال الفترة ما بين عامي 2015 و2021، وقعت روسيا اتفاقيات مبيعات أسلحة مع 21 دولة إفريقية، بعد أن كانت لديها اتفاقيات تعاون مع أربع فقط قبل ذلك.
ولا يقف التعاون العسكري الرسمي عند حدود مبيعات الأسلحة، فإلى جانب حضور شركة "فاغنر"، وفرت روسيا مستشارين لتدريب قوات الدول الإفريقية.
ويشير تقرير لوزارة الخارجية الألمانية إلى أن التدريب كان يجرى على السواء في أراض إفريقية أو حتى بالحضور إلى روسيا كذلك[25].
غير أن الوضع في السودان بالنسبة لروسيا لا يقتصر على المنافع الاقتصادية. فالحصول على هذه القاعدة يمثل قمة التحرك الإستراتيجي الروسي في القرن الإفريقي.
وكانت روسيا تسعى خلال العقد الماضي للحصول على إذن لإنشاء قواعد عسكرية في مصر أو جمهورية إفريقيا الوسطى أو إريتريا أو مدغشقر أو موزمبيق أو السودان.
وهذا المركز اللوجيستي الروسي في بورتسودان منح روسيا حضورا قويا لأول مرة أسفل المدخل الجنوبي لقناة السويس، وفي منتصف الطريق إلى خليج عدن والمحيط الهندي[26].
كما أن هذا الحضور يعني شراكة روسيا في السيطرة على تأمين الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس، وحماية مرور سفنها وسفن حلفائها.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحضور الروسي في البحر الأحمر قد يغري عددا من الدول الإفريقية بالتعاطي مع الإستراتيجية الروسية في القارة.
وهو ما أشار إليه تحقيق لمجلة "تايم" البريطانية بأنه أحد أهم وسائل "بوتين" في الإفلات من تأثير العقوبات الغربية، عبر تحميل فاتورة هذه العقوبات على عاتق الأنظمة العسكرية في إفريقيا[27].
وربما لا يقتصر الأمر على الحكام الأفارقة، بل قد يمتد الأمر إلى القيادات العسكرية الراغبة في الوصول إلى السلطة كذلك.
وفي هذا الإطار يرجح خبراء أن السياسة الروسية ستمثل تجسيدا معاصرا لدبلوماسية الزوارق الحربية الكلاسيكية، حيث تساعد موسكو في إدارة انقلاب من أجل الحصول على قاعدة بحرية وامتيازات اقتصادية وسياسية أخرى في دول إفريقية[28].
وكان قائد "أفريكوم" الجنرال "ستيفن تاونسند" قد صرح في فبراير 2022؛ بأنه يعتقد أن موسكو قد يكون لها صلة بانقلاب 25 أكتوبر/ تشرين أول[29].
وفي ذلك التاريخ، أعلن قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين وأعفى الولاة، عقب اعتقال قيادات حزبية ووزراء ومسؤولين، وخرجت احتجاجات رافضة لهذه الإجراءات، بوصفها "انقلابا عسكريا".
ومقابل اتهامه بتنفيذ "انقلاب عسكري"، يقول البرهان إن الجيش ملتزم باستكمال عملية الانتقالي الديمقراطي، وإنه اتخذ هذه الإجراءات "لحماية البلاد من خطر حقيقي"، متهما قوى سياسية بـ"التحريض على الفوضى"، وفق زعمه.
ولهذا التوافق السريع بين روسيا والسودان دوافع أخرى مرتبطة بالمواجهة الروسية الغربية، ومن ذلك ما رصده مراقبون من رحلات جوية للطائرة "إليوشن رامستار 76" طارت بين بيلاروسيا وبورتسودان.
وأشاروا إلى أنها تولت نقل منظومات الدفاع الجوي "إس 300" البيلاروسية إلى بورتسودان من أجل تأمين المركز اللوجيستي قيد الإنشاء فيها[30].
وتذهب التحليلات في هذا الصدد إلى تأطير هذا النقل في ضوء المواجهة الروسية الغربية على الخرائط الجيوسياسية، حيث تربط روسيا بين المزاحمة في تأمين بحر البلطيق بالمزاحمة في تأمين البحر الأحمر.
وتواجه روسيا عملية إعادة نشر منظومات الدفاع الجوي الروسية المباعة لأوروبا "إس 300" بإعادة نشر نفس المنظومة من جانب موسكو وتدويرها بين حلفائها.
ثالثا: حسابات السودان وراء إعادة الطرح
ثمة حسابات سودانية عدة فيما يتعلق بتمكين روسيا من قاعدة بورتسودان، بعضها عسكرية، وأخرى أمنية، وثالثة اقتصادية. ويمكن تفصيل القول في هذا الإطار فيما يلي:
على الصعيد العسكري، فإن تراجع مصر عن مساندة السودان في مواجهتها مع إثيوبيا فيما يخص سد النهضة وملف الخلافات الحدودية، استتبعه اتخاذ الخرطوم قرارا إستراتيجيا بتحقيق الاستقلال العسكري السوداني، وتوفير الإمكانية الدفاعية السودانية المستقلة غير المعتمدة على الشريك المصري.
وتبدو موسكو القوة الأوفر حظا في تقديم المعدات التي يحتاجها السودان، خاصة مع وجود تاريخ من الواردات العسكرية الروسية لدى الخرطوم.
ويحمل ملف المركز اللوجيستي الروسي وتأمينه اتجاها أوليا يتعلق بالبحرية السودانية، حيث تتجه علاقات التعاون الدفاعي بين السودان وروسيا نحو تأهيل تلك القوات، بحيث تتولى تأمين السواحل والمركز اللوجيستي الروسي.
ومن جهة أخرى، وفي نفس ملف القدرة الدفاعية السودانية، فإن نقل منظومات الدفاع الجوي "إس 300" إلى قاعدة بورتسودان يفتح الباب أمام التفاوض حول شراء السودان هذه المنظومة.
وتأتي هذه الخطوة في إطار تحقيق التوازن مع التطور الذي شهده سلاح الجو الإثيوبي خاصة عبر المسيرات الصينية والتركية، والتي مكنت الحكومة المركزية الإثيوبية من تحقيق انتصار حاسم على قوات "جبهة تحرير تيغراي" بحلول منتصف ديسمبر 2021[31].
وفي نفس الملف العسكري، يشير الخبراء إلى أن السودان يسعى لتحديث سلاح الطيران الخاص به، وتجاوز طائرات "ميج 29"، والتي تملك الخرطوم منها سربين.
وكان الجناح العسكري في الحكومة الانتقالية قد أعرب للجانب الروسي عن رغبته في شراء صفقة أسلحة ضخمة تتكون من مقاتلات "سوخوي 30" و"سوخوي 35" ونظام الدفاع "إس 300".
وبالتالي فهنالك مصالح عسكرية كبيرة لدى موسكو في الحفاظ على هذا السوق المهم لتجارة الأسلحة.
والسودان كان من أهم مستوردي السلاح الروسي خلال العقدين الأخيرين، حيث بلغت قيمة صادرات موسكو خلال حكم "البشير" بين أعوام 1997 و2017 نحو 997 مليون دولار.
كما استورد السودان أسلحة بقيمة 575 مليون دولار من الصين وأسلحة بقيمة 297 مليون دولار من بيلاروسيا[32].
أما على الصعيد الأمني، فقد استعان البشير بالخبرة الأمنية الروسية في مواجهة المحاولات الانفصالية التي كانت تضغط على السودان.
هذا علاوة على رغبته في الاستعانة بهذه الخبرة في مواجهة الاضطرابات التي كان يتوقع مواجهتها من القوى المدنية، والتي دعمتها الولايات المتحدة نتيجة الخلافات الواسعة لها مع نظام "البشير"[33].
وفيما أعقب خلع "البشير"، واجهت الحكومة الانتقالية نفس ما رآه من تحديات أمنية، وهو ما استدعى استمرار نهج التعاطي مع روسيا، والتي تتحرك عكس اتجاه الولايات المتحدة المساندة للقوى المدنية.
ورغب نظام البرهان في الاستفادة من تكتيكات الشركات الأمنية الروسية في التعاطي مع المعارضة المدنية، والتي بلغت مرحلة متقدمة في صناعة التلاعب السياسي، وسبق أن استخدمتها الشركات الأمنية الروسية في دول مثل جنوب إفريقيا وليبيا ونيجيريا وموزمبيق.
ففي نيجيريا، رجح الخبراء تآمر قراصنة روس مع "حزب الشعب الديمقراطي" ومرشحه الرئاسي "الحاج أتيكو أبو بكر" لتزوير الانتخابات الرئاسية.
كما شارك مقاتلو "فاغنر" في ليبيا بتزوير الانتخابات نيابة عن اللواء العسكري المتقاعد "خليفة حفتر".
وفي مدغشقر، اتبعت هذه الشركة تكتيكا مختلفا تمثل في اختيار المرشحين الذين يمكنهم الانسحاب؛ ما سمح لمرشحهم المفضل بالفوز.
أما في جنوب إفريقيا، فقد أنشأ عملاء روس مركزا فكريا عمل على تشويه سمعة زعيم التحالف الديمقراطي "مموسي ميمان"، وسيرة الزعيم الشعبوي لمقاتلي الحرية الاقتصادية اليساريين المتطرفين "جوليوس ماليما"[34].
هذه الخبرات حفزت النخبة العسكرية السودانية لمعاودة الاستعانة بالخبرة الروسية في هذا الصدد، بالإضافة للدور التدريبي، سواء لخبراء "فاغنر" أو المستشارين العسكريين الرسميين.
وعلى الصعيد الاقتصادي، وبعيدا عن الإفادة المشتركة بين النخبة العسكرية والشركات الروسية، فإن التحدي الاقتصادي الاجتماعي الأساسي الذي يواجه السودان، والمتمثل في الاحتياجات الغذائية، على وشك التأثر السلبي البالغ نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا.
التداعيات السلبية لهذه الحرب على هذا الملف دفعت النخبة العسكرية وحتى المدنية المتحالفة معها للتوجه نحو روسيا، لتجنب شح الحبوب والزيوت، وتفادي الارتفاع المبالغ فيه في أسعار المنتجات الغذائية؛ بالنظر للتخفيضات التي درجت روسيا على تقديمها لحلفائها، والتي زادت بعد الحرب على أوكرانيا، سعيا من موسكو لكسر الحصار المفروض عليها.
وكفاتحة للتعاون في هذا الإطار، تلقت الحكومة السودانية منحة روسية من القمح في 6 مارس، بلغت 20 ألف طن من القمح ولم يكن من قبيل الصدفة أن السفينة التي حوت هذه الشحنة رست في ميناء بورتسودان الجنوبي[35].
ويبدو السودان، بعد انقلاب 25 أكتوبر في حاجة لهذا الدعم، وبخاصة بعد تراجع الدعم الدولي لحكومة الخرطوم وتعطل كثير من المساعدات التي وعدت بها البلاد إثر تدهور العلاقة بين النظام الانتقالي السوداني وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية "يونيتامس".
وجاء ذلك إثر إعلان وزارة الخارجية الشروع في سلسلة إجراءات لضبط عمل البعثة، ومطالبتها بعدم تجاوز التفويض الأممي لها؛ وبعدم التدخل السافر في الشأن السوداني، وتهديد رئيس البعثة الأممية "فولكر بيرتس" بالطرد.
وحدثت هذه التطورات على خلفية إحاطة كان قد قدمها "بيرتس" لمجلس الأمن الدولي؛ حمّل فيها السلطة القائمة المسؤولية عن قمع التظاهرات، وحذر فيها من أن "السودان مهدد بالانزلاق نحو الصراع المسلح ما لم يَستعِد المسار الدستوري"[36].
وفي هذا الإطار، فإن مدخل السودان لتخفيف حدة الاحتقان مع الولايات المتحدة يتمثل في ترطيب "حميدتي" الأجواء مع الكيان الصهيوني وجهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد"، ما يكبح – نسبيا - انسحاب تداعيات الانحياز السوداني نحو روسيا على الترتيبات الأمنية الإقليمية.
رابعا: الحسابات المصرية وما خلفها
خلال فترة عودة الحوار بين الخرطوم وواشنطن، والتي قادت لرفع اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، كانت قيادة "أفريكوم" قد طلبت من الدولة الإفريقية السماح بتواجد مصري متقدم في بورتسودان.
وهو ما تحقق بالفعل في 21 مارس 2021، مع إرسال مصر قوات وعتاد وآليات عسكرية إلى الميناء[37]. غير أن الخلاف بين رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي وجيش بلاده حول الضربة العسكرية، ورفض الأول استخدام القوة العسكرية، أثار التساؤل حول مردود وجود قوات مصرية في السودان.
نوايا "حميدتي"، الطامح للبقاء للسلطة، وربما الصعود فيها قدما، أدت إلى إرسال مكتب "عبد الفتاح السيسي" خطاب احتجاج رسمي إليه في بادرة غير معتادة[38].
وهو ما لفت إلى أن القاهرة ينتابها القلق جراء التقارب الروسي السوداني، ومساعي إنشاء قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر، الأمر الذي تعده القاهرة خطرا على أمن الجبهة المصرية الجنوبية، والبحر الأحمر، ويهدد أمن الملاحة في تلك المنطقة؛ ما يؤثر بشكل كبير على قناة السويس[39].
ومع درجة من التكتم الإعلامي على هذه الخطوات، لفت مراقبون كذلك إلى حدوث تلاسن بين كل من "السيسي" و"حميدتي" حول وجود ورحيل القوات المصرية في بورتسودان[40].
ورغم مساعي مصر للإبقاء على قواتها في بورتسودان، وتوقيع الاتفاق الأمني بين "البرهان" و"السيسي" أثناء زيارة الأول إلى مصر في 30 مارس 2022[41]، ورغبة الجيش المصري في البقاء في الميناء ومعارضته وجود قاعدة روسية فيها، فإن استمرار وجود القوات المصرية ما زال غير محسوما.
وسر تأخر الحسم أن روسيا ترفض الوجود المصري بجوارها، خاصة بعد رفض مصر المعلن وجود قاعدة روسية في بورتسودان، وإدانتها للغزو الروسي لأوكرانيا، وتجميدها صفقات سلاح موقعة مع موسكو، ومشاركة القوات المصرية في المناورات الغربية في البحر الأسود.
ليست روسيا وحدها من يعارض الوجود المصري في بورتسودان، ولكن يشاطرها ذات الرأي كل من الإمارات وإسرائيل وإثيوبيا.
فإثيوبيا التي تبحث عن تعزيز التعاون مع الصين، ولا تمانع وجود قاعدة روسية في السودان، ترفض الاقتراب المصري من حدودها؛ حتى لا يشكل الأمر خطرا على "سد النهضة".
كما ترفض الإمارات في نفس إطار المخاوف الإثيوبية؛ مفضلة الحوار بين البلدين. هذا بالإضافة إلى موقف الإمارات المنحاز للجانب الروسي في الأزمة الراهنة[42].
أما عن الكيان الصهيوني، فإنه يرغب في التمتع بنفوذ أكبر في السودان، وهو ما يقيده وجود عسكري مصري هناك.
هذا عن البيئتين الإقليمية والدولية، أما عن النخبة العسكرية، صاحبة القرار السيادي في السودان، فيمكن في إطارها الحديث عن شقين.
الشق الأول يمثله موقف "حميدتي"، الذي يعد مهندس مشروع الاتفاق حول المركز اللوجيستي الروسي.
ويرجح مراقبون أن اللجوء إلى روسيا كان بمشورة من جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد"، والذي لجأ إليه "حميدتي" لمواجهة محاولات تهميش دوره السياسي[43].
والعلاقة الوطيدة بين "حميدتي" والموساد، بالإضافة لتبعات التطبيع المتسارع، تثير قلق الدولة المصرية التي تخشى من أن تدفع الأزمة السياسية والاقتصادية في السودان المسؤولين هناك إلى تقديم تنازلات لإسرائيل قد تؤثر على الأمن القومي المصري.
أما عن رئيس المجلس الانتقالي السوداني "عبد الفتاح البرهان"، فقد أتى إلى القاهرة قادما من الإمارات[44]، ووقع معها الاتفاق الأمني الذي لم تعلن مضامينه.
وهو ما يعني أنه أتى إلى مصر تحت سقف رؤية الإمارات التي تشدد على الحوار مع الجانب الإثيوبي. ورغم مخاوف "البرهان" من طموحات "حميدتي"، فإن اللجوء للقاهرة من أجل لعب دور في إدارة الخلاف الداخلي السوداني، وبخاصة مع القوى المدنية، يبدو متأخرا.
ونظرا لانتمائه للمؤسسة العسكرية السودانية، فإن نظرة "البرهان" للدور المصري تحمل شكوكا واسعة؛ بالنظر لكون الملف السوداني في أيدي المخابرات المصرية وليس في يد وزارة الخارجية منذ وقت طويل، علاوة على الخلاف بين البلدين حول "مثلث حلايب وشلاتين"[45]، وهو ما يعني أن الحديث عن تعاون إستراتيجي بين الرجلين مثار شكوك.
ولكن ينبغي النظر إلى عارضين مهمين حول زيارة "البرهان" لمصر، أولهما أن روسيا تحركت مبكرا لترجيح كفة "حميدتي" في حال وجود خلاف مع رأس العسكر في السودان حول القاعدة، وذلك عبر منحة القمح التي وصلت البلاد أخيرا.
وهو ما يعني أن مفتاح إغاثة السودان من الأزمة الغذائية المحتملة في يد روسيا، ومن ثم فعلى البرهان أن يدعم خيار القاعدة الروسية خاصة مع حاجته لتحديث سلاح طيران بلاده وتأهيل سلاح بحريتها.
أما العارض الثاني فيتمثل في تناول إخباري خرج عن سياق معالجات وكالات الأنباء وصيغها البروتوكولية الجامدة، وكشفته صحيفة "الأخبار" اللبنانية، نقلا عن مصادر مصرية مسؤولة.
وقالت إن التنسيق الأمني بين البلدين كان إشارة إلى اتفاق مصري- سوداني يتضمّن تسلّم القاهرة عددا من عناصر جماعة الإخوان المسلمين المتواجدين على الأراضي السودانية.
وتحدثت عن تأكيد "البرهان" على عدم تجديد إقامة أي من أعضاء الجماعة خلال الفترة المقبلة، والعمل بين الخرطوم والقاهرة من أجل الكشف عن ما أسماه المصدر بـ"مصير العناصر المتوارين حتى عن أنظار الأمن السوداني"[46].
ورغم أن الدولة المصرية لن تقنع بمثل هذه الاستجابة السودانية بالنظر لجسامة الخطر الذي تتوقعه جراء استكمال بناء المركز اللوجيستي الروسي، فإن هوس "السيسي" بـ"خطر الجماعة"، ورغبته في تقديم "أي نصر" للمصريين، هو أمر من شأنه أن يمثل قيمة بالنسبة لنظام لا يملك ما يمكن فعله في مواجهة السودان حال إقدامه على اتخاذ قرار سيادي بهذا الحجم.
الخاتمة
على الرغم من تقديم البشير تسهيلات أمنية للولايات المتحدة في السودان، فإن أنماط علاقات الولايات المتحدة داخل الخرطوم دفعته للتشكك في نواياها.
وهو ما أدى به إلى الاتفاق مع روسيا حول حزمة من أوجه التعاون الدفاعي والأمني، كانت القاعدة البحرية الروسية في بورتسودان أحد مساراتها.
صدق الرئيس الروسي على الاتفاقية التي وقعها مع "البشير"، وبدأ في بناء القاعدة البحرية، فيما كانت الولايات المتحدة تنكر وجود اتفاقية.
ومع حدوث التغيير السياسي الذي أعقب حراك السودان عام 2019، تدخلت روسيا لتسهيل انقلاب عسكري على الترتيبات الانتقالية التي أدت لتدشين نظام مدني– عسكري سوداني مشترك.
وبدا أن طرفا سودانيا يريد استكمال هذه القاعدة، فيما يتحفظ طرف آخر على بعض بنودها، لينتهي الأمر بزيارة "حميدتي" لروسيا، والتحدث إثر ذلك عن حق روسي في إقامة قاعدة ما دامت لا تهدد الأمن القومي السوداني.
كانت القاعدة تتويجا لجهود روسية دامت عقدا كاملا محاولة تدشين قاعدة روسية في القرن الإفريقي. وبدا أن المدخل لها ينبع من بناء منظومة تعاون ملائمة لطبيعة النظم الاستبدادية والعسكرية الموجودة في القارة.
وهو ما يسمح لروسيا باختراق الأطراف الأربعة للقارة السمراء، شرقا في السودان وغربا في مالي ونيجيريا وجنوبا في جنوب إفريقيا وشمالا في الجزائر وليبيا وحتى وسط القارة متمثلا في جمهورية إفريقيا الوسطى.
وتقوم هذه الإستراتيجية على استثمار التحديات الأمنية لتسويق الحلول الأمنية التي تقدمها شركات الأمن الخاصة الروسية، وعلى رأسها مجموعة "فاغنر"، مقرونة بمجموعة من الشركات الاقتصادية المرتبطة بهذه الشركة الأمنية.
إذ تسهم الشركة الأمنية في دعم استقرار الأنظمة الاستبدادية والعسكرية في مقابل امتيازات اقتصادية للشركات الاقتصادية النفطية والتعدينية وشركات المقاولات المرتبطة بها، والمملوكة جميعها لشخصيات مقربة من الرئيس الروسي، لكنها لا تمثله بصورة رسمية.
ونجحت هذه الحزمة في توفير الحضور الروسي بنحو 21 دولة إفريقية، وتعميقه في 7 دول منها، وكانت الجريمة المنظمة والسلاح والاستشارات الأمنية والتقنية وشركات التعدين والتنقيب أبرز أدوات السياسة الخارجية.
هدفت روسيا لتعميق نشاطها الاقتصادي في هذه الدول، بما يهون من وقع العقوبات الاقتصادية والمالية الغربية عليها، والتي بدأ فرضها منذ العام 2014، علاوة على توفير دعم سياسي ودبلوماسي واقتصادي لموسكو.
وفي المقابل، كان السودان يطمح في المساندة العسكرية الروسية عبر تأهيل سلاحه البحري، وتحديث سلاحه الجوي، بالإضافة إلى منظومات الدفاع الجوي وغيرها، على نحو يحقق له الكفاية العسكرية عوضا عن الاعتماد على شراكات إقليمية ودولية لم تثبت في مواجهة المتغيرات السياسية؛ فضلا عن التحديات الإستراتيجية.
كما رغب السودان في الاستعانة بالخبرات الأمنية السياسية لشركات الأمن الخاص الروسية، والتي سبق أن أثبتت نجاعتها في عدد من الدول الإفريقية، منها ليبيا وجنوب إفريقيا ونيجيريا ومالي وإفريقيا الوسطى، لتحقيق الاستقرار السياسي الذي تحتاجه النخبة العسكرية في الخرطوم بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021.
ويضاف لذلك- بطبيعة الحال- حاجة السودان لضبط ميزان أمنها الغذائي في توقيت يتهدد العالم مجاعة إثر الحرب الروسية على أوكرانيا، وهو ما بدا أن روسيا قادرة على المساهمة فيه بفاعلية بعد منحة القمح الروسي التي أعقبت زيارة "حميدتي".
ومع الإطاحة بنظام "البشير" بدا أن الولايات المتحدة قادرة على تعويض الحضور الروسي في السودان، وهو ما دفعها لتجاهل واقع استمرار أعمال البناء في القاعدة البحرية الروسية.
وأدت سياسات النظام المدني الذي أعقب الإطاحة بالبشير في تعبيد الطريق أمام الحضور الأميركي والمصري، وهو ما أقلق روسيا وإثيوبيا وإسرائيل والإمارات.
وفيما اتجهت روسيا وإسرائيل نحو دعم اتجاه السودان نحو انقلاب جديد، ومرحلة انتقالية ثانية، توجهت هذه القوى لتأييد استمرار العمل على تدشين القاعدة البحرية، وسط مخاوف مصرية من تهديد أمنها الجنوبي.
فضلا عن تهديد أمن البحر الأحمر وقناة السويس التي تعاني متاعب بسبب البدائل التي تتنامى لتحاصرها.
ورغبت القوات المسلحة المصرية في الانخراط ضمن رؤية القيادة المركزية الأميركية "سنتكوم"، والعمل تحت سقفها، ورفضت القاعدة البحرية الروسية، واجتهدت للحفاظ على موطئ قدمها في السودان، والذي اكتسبته في إطار التخطيط لعملية كانت القوات المسلحة المصرية على وشك تنفيذها ضد إثيوبيا.
وهنا بدأت الأطراف داخل الخرطوم بالانقسام إلى فريقين، أحدهما بقيادة "حميدتي" رافض للوجود المصري في السودان، وآخر يقوده "البرهان" يرغب في حضور مصري برغم تشككه في النوايا المصرية.
وحملت زيارة البرهان لمصر في نهاية مارس 2022 تأويلات عدة، لكنها جوبهت بمنحة روسية للسودان، وخلاف عميق بين "السيسي" و"حميدتي"، وحصار إقليمي على حضور القاهرة في الخرطوم، لتحدد التفاعلات المقبلة المسار الجيوسياسي الذي ستسلكه المنطقة في ضوء ما رصده مراقبون من نقل روسيا راجمات صواريخ "إس 300" البيلاروسية إلى الدولة الإفريقية لتأمين القاعدة التي يبدو أنها أوشكت على التمام.
المصادر: