مقال للريسوني يجدد السجال.. هل إقامة الخلافة فرض على المسلمين؟

أحمد مدكور | 6 years ago

12

طباعة

مشاركة

"مستقبل الإسلام بين الشعوب والحكام"، عنوان مقال للشيخ أحمد الريسوني، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، نشر في 2001، وأعيد نشره مجددا في مارس/ آذار 2019، ما أثار حالة من السجال فيما يخص مسألة (الدين والدولة).

الريسوني علق في مقاله على التحولات الفكرية لحركة "التوحيد والإصلاح" المغربية الحاملة لفكر جماعة الإخوان المسلمين، محاولا تقديم موازنة بين مفهومي الدولة والأمة في الفكر السياسي الإسلامي، بينما اهتم آخرون بمناقشته بشأن مفهوم الخلافة في فكر الحركة الإسلامية، وعلقوا على "إهماله لشأن الدولة"، حسب وصفهم.

الريسوني أكّد في مقالته أنّ "بث الدين في الأمة هو الغاية، وليست الغاية السعي لإقامة الدولة"، وهي الفكرة التي تخالف معظم ما قامت عليه أغلب الحركات الإسلامية المعاصرة.

مقال قديم

في 28 مارس/ آذار 2019، كتب الشيخ الريسوني، على موقعه الإلكتروني قائلا: "قبل أيام تقاطرت على هاتفي موجة من الرسائل، هي خليط من الانتقادات والإشادات، وبعضها يستفسر أو يستغرب.. والموضوع – كما تبينتُ – هو مقال نشر لي في بعض المواقع بعنوان: (مستقبل الإسلام بين الشعوب والحكام).

مضيفا: "وبما أنني كنت مستغرقا في أشغال مجلس الأمناء للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، المنعقد بمدينة إسطنبول، وبعدها في التزامات مع معهد التفكر الإسلامي بمدينة أنقرة، فكل ما تذكرته من أمر هذا المقال هو أنه قديم جدا".

"ولكني لم أتمكن من الرجوع إلى أصله، ولا من التأكد من تاريخه، ولا من معرفة أين أعيد نشره اليوم؟ وكيف نشر؟ ولكن مع ذلك قلت في نفسي ولبعض المتصلين بي: على كل حال لم آمُـرْ بها ولم تسؤني".

سقوط الخلافة

في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1922، قام مصطفى كمال أتاتورك وحزب الاتحاد والترقي، بخلع آخر خليفة للمسلمين، السلطان العثماني محمد السادس وحيد الدين، وفي العام 1924، ألغى أتاتورك الخلافة رسميا، وأسس الجمهورية التركية الحديثة.

بين السقوط المأساوي للدولة التي حكمت العالم الإسلامي لقرون، وبين عالم إسلامي متشرذم، تقبع جميع ولاياته وأركانه في قبضة الاحتلال البريطاني والفرنسي والإسباني، بدأت تظهر حركات تحرر تحمل الصبغة الإسلامية، مع التأثر بزوال الخلافة.

كانت جماعة الإخوان المسلمين، التي أعلن حسن البنا عن تأسيسها في 22 مارس/ آذار 1928 على رأس هذه الحركات، التي نشأت كرد فعل على إلغاء الخلافة.

فكرة ارتباط الإسلام بالدولة حسب تصور البنا، أوردها في أول ركن من الأصول العشرين لفهم الإسلام، "الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء".

ومن البداية عمل الإخوان المسلمين في مصر، ومختلف دول العالم التي انتشروا فيها، على تعضيد الفكرة، والدعوة والعمل لتحقيقها على أرض الواقع، ودخلوا في خضم معارك طاحنة، وضربات قاصمة من قبل الأنظمة والحكومات القائمة.

بينما يرى الريسوني أن "الدولة عروة من عرى الإسلام، لكنها العروة الأضعف، ولهذا كان قدرها أن تنفصم وتنحل سريعا، بينما عروة الصلاة تظل أقوى عرى الدين، ونبه إلى أن الدين انتشر وسيق للعالمين هدية وهداية حتى مع ضعف الدول الإسلامية وانحلالها، وأن السبب في اتساع انتشار الدين لم يكن الدولة – كعامل أساسي – بل كان الدعاة الذين حملوا الدين للعالمين".

الريسوني أضاف أن "هداية الأمة تدخل في باب المقاصد التي سنها الشارع جل وعلا، بينما كانت الدولة دوما في الفقه الإسلامي ضمن (باب الوسائل)، أي أن هداية الأمة واجب لذاته بينما إقامة الدولة واجب لغيره".

الحركة المعاصرة

الريسوني أكد "أن الحركة الإسلامية استهدفت إقامة الدولة برغم ما يكتنف هذا الهدف من صعوبات، بينما أمامها سبل الجهاد كثيرة في مجال رد الأمة لدين الله وإصلاح شأنها ورعاية أهلها وإعلاء قدرها، وهو الأهم طالما أن أبواب إقامة الدولة موصدة ومنالها عسير".

بعض أعضاء الجماعات الإسلامية خالفوا الريسوني، وأكدوا أن الدولة مفتاح كل تسوية اجتماعية تحدث، وأنها ما لم تكن إسلامية فإنها تهدم ما يبنى، وأن الوصول لمركز الدولة فيه مصلحة للمسلمين.

من بين من قرأوا المقال هذه القراءة عاصم عبد الماجد القيادي السابق بالجماعة الإسلامية، والذي كتب منتقدا الريسوني على صفحته بـ "فيسبوك" قائلا: "لو لم يكن من مصلحة في إقامة الدولة المسلمة سوى الإفراج عن البنات المعتقلات.. لكانت من أوجب الواجبات.. فلا تلتفتوا لما قاله الريسوني".

وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ عصام تليمة، قال لصحيفة "الاستقلال": "الدكتور الريسوني لم ينف فكرة الدولة، والذين تداولوا المقال فهموا بشكل خاطىء، بل الرجل يقيم الأولويات في الحقبة المعاصرة، والأولوية لإقامة الدعوة والدين في نفوس الناس، ومن ثم تأتي الدولة في مرحلة لاحقة، خاصة وأن الدولة في الأساس وسيلة لإقامة الدين".

وعقّب تليمة مؤكدا: "فكرة الريسوني لا تختلف مع طرح الإمام البنا في رسالة التعاليم، ولكن الدولة الآن صعبة المنال، وهناك أولوية دينية في إصلاح البشر وهدايتهم، نافذة قبل إقامة الدولة. مضيفا "إقامة دولة إسلامية تهتم برعاية الناس، وإرساء قيم العدالة والحرية والمساواة، أمر لا يمكن الاختلاف عليه".

الدولة المستحيلة

الجدل الذي أثاره مقال الريسوني، هو جدل قديم متجدد، ولعل أبرز وأقرب الجدليات المشابهة في الآونة الاخيرة، هو ما حدث بشأن كتاب الدكتور وائل حلاق الذي صدر عام 2014 بعنوان (الدولة المستحيلة.. الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي)، وتناول الكاتب طبيعة الحكم الإسلامي ومعالمه كنموذج، ومخالفته بالكلية للدولة الحديثة.

الكاتب وصف فكرة مؤلفه، بأنها "بالغة البساطة، فهي تقول إن مفهوم الدولة الإسلامية، مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة".

واعتبر حلاق أن شكل الدولة "ليس فقط عنصرا جوهريا لوجود الدولة، بل هو الذي يكوّن ماهيتها كدولة"، مشيرا إلى أن "المضمون هو المتغير أو القابل للتغيير، فعلى سبيل المثال، قد يسيطر على الدولة ليبراليون أو اشتراكيون أو ماركسيون أو قلة، أو أي من تلك التسميات، لكن هؤلاء رغم تأثيراتهم المتنوعة على الدولة ومجتمعها لا يستطعيون تغيير أشكال الدولة..".

وقطع في معرض كتابه جازما "بأن التجربة الإسلامية لم تعرف من قبل شيئا اسمه الدولة بهذه السمات والصفات، وإنما حكم المسلمون أنفسهم طوال الاثني عشر قرنا السابقة، ما قبل المرحلة الاستعمارية بنظام آخر مختلف، ألا وهو نظام الحكم الإسلامي، فما هي طبيعة ذلك النظام؟ وما الذي جعله يفترق افتراقا جوهريا عن الدولة الحديثة، فتغدو كل المساعي التي تروم إقامة حكم إسلامي متوسلة في ذلك بالدولة الحديثة تقع في دائرة المستحيل الذي لا يمكن تحققه أبدا؟".

النقد العدمي

أطروحة وائل حلاق، وجدت الكثير من النقد والرد، وفي يونيو/ حزيران 2015 انبرى الدكتور محمد مختار الشنقيطي أستاذ الأخلاق السياسية بكلية الدراسات الإسلامية في قطر، وقال عن الكتاب: "ينقصه التماسك المنطقي، ووضوح الأطروحة، وفيه الكثير من النقد السلبي للغرب، دون تقديم بديل إسلامي، فالكتاب يفتقر إلى عمق الفكرة، وتماسك الأطروحة، وفاعلية البدائل المطروحة".

وعقب بأن "الكتاب ينطلق من بعض المصادرات والمسلمات، منها أن الحداثة الغربية فاشلة، وأن البديل الإسلامي مستحيل، ما يعني أنك أمام لون من النقد السلبي العدمي إلى حد كبير".

وعن معالجة وائل حلاق  لنموذج الحكم الإسلامي، فوصفها الشنقيطي بأنها "جاءت بلغة وعظية أخلاقية، أكثر من أن تكون لغة علمية مدروسة وملموسة".

الإسلام وأصول الحكم

لعل أول المعارك الفكرية التي تم خوضها فيما يخص الدولة والدعوة، ما حدث عام 1925، مع إصدار الشيخ الأزهري علي عبد الرزاق كتاب "الإسلام وأصول الحكم" الذي أحدث ضجة كبرى في مصر والعالم الإسلامي.

الكتاب يعد أول أطروحة ترفض فكرة الخلافة، وتدعو إلى الدولة المدنية، ووصل الأمر إلى قيام هيئة كبار العلماء في الأزهر بمحاكمة علي عبد الرازق، وأخرجته بإجماع الآراء من زمرة العلماء الأزهريين، وفصلته من العمل كقاض شرعي.

الخلاف في المسألة انتقل من ساحة الأزهر الشريف إلى الساحات الفكرية والسياسية، وأكد ذلك الكاتب المصري أنور حجازي في كتابه "عمالقة ورواد"، عندما قال "إن عبد العزيز باشا فهمي، قدم استقالته من وزارة الحقانية في عهد رئيس الوزراء زيور باشا، يوم 13 مارس/ آذار 1925، احتجاجا على الظلم الذي وقع بحق الشيخ علي عبد الرزاق".

وتبنى رؤية الشيخ علي عبد الرزاق، بعض المفكرين على رأسهم عباس محمود العقاد، الذي كتب مقالا على صفحات جريدة البلاغ يدافع عن فكرة عبد الرزاق.

بينما تصدر الفريق المعارض، شيخ الأزهر الإمام الأكبر محمد الخضر حسين، الذي أصدر كتابا عام 1926 بعنوان "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، كما أصدر مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت الشيخ محمد بخيت المطيعي، كتاب "حقيقة الإسلام وأصول الحكم" الذي فند فيه القواعد الأساسية التي بنى عليها الشيخ عبد الرازق موقفه، وقام بنقدها.

ثم جاء القاضي عبد الرزاق السنهوري، أحد أعلام الفقه والقانون في مصر والعالم العربي، بإصدار كتاب "أصول الحكم في الإسلام" الذي تضمن تفصيلات واسعة عن الدولة الإسلامية، وقواعد وأساسيات الشريعة في زمامها، ورد الشبهات التي أثارها علي عبد الرزاق في كتابه "نقض الإسلام وأصول الحكم" في أبريل/ نيسان 1998، وقد ذكر المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة، أن أبناء الشيخ علي عبد الرزاق أكدوا تراجع والدهم في آخر أيام حياته عما جاء في كتابه المثير للجدل.