النفوذ الإيراني السعودي بمنطقة القرن الإفريقي.. الدوافع وأدوات الصراع

12

طباعة

مشاركة

تشكل منطقة القرن الأفريقي، مركز اهتمام لكثير من القوى الإقليمية والدولية، تستمد هذه الأهمية من موقعها الإستراتيجي، المسيطر على عبور التجارة الدولية من باب المندب والبحر الأحمر، والذي يمثل شريانا حيويا لتجارة الشرق والغرب، وممر عبور ما يقارب من 70 بالمئة من نفط الخليج العربي إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

وفي السنوات الأخيرة شهدت منطقة القرن الأفريقي تكالبًا شديدًا من قِبل القوى الكبرى للتموضع فيها، على رأسها الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، والهند واليابان، فضلًا‏ عن الدول الإقليمية الطامحة لأداء أدوار إقليمية، والحصول على مواقع للنفوذ هناك، مثل تركيا وإيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي.

وفي سياق الصراع بين القوى الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي، يأتي الصراع بين إيران والسعودية، والتي أبدت كلاً منهما اهتماماً متزايداً بتكثيف علاقاتها بدول الإقليم في الآونة الأخيرة، فإيران تسعى لزيادة تمددها وبسط نفوذها الإقليمي، كما تسعى السعودية لمواجهة التغلغل الإيراني فى المنطقة، باعتبار القرب الجغرافي والأهمية الإستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي بالنسبة للسعودية.

وفي هذا الإطار تسعى الدراسة، إلى التعرف على أهمية منطقة القرن الأفريقي لدى كل من إيران والسعودية، ورصد وتحليل دوافع وأسباب الاهتمام بهذه المنطقة، وأهم عوامل الصراع حولها، والوسائل والأدوات التي تستخدمها كل من إيران والسعودية في النفاذ إلى منطقة القرن الأفريقي، وحدود نفوذ كل منها، ومستقبل الصراع بين إيران والسعودية حول تلك المنطقة الإستراتيجية.

وقد جاءت الدراسة في 3 محاور على النحو التالي: يتناول المحور الأول، عوامل وأسباب الاهتمام الإيراني السعودي بمنطقة القرن الأفريقي، ويسعى المحور الثاني إلى تحديد أهداف كل من إيران والسعودية في منطقة القرن الأفريقي، أما المحور الثالث فيرصد الوسائل والأدوات التي تستخدمها لتعزيز نفوذها في المنطقة، وخاتمة تتضمن حدود النفوذ الإيراني والسعودي في منطقة القرن الأفريقي، ومستقبله.


المحور الأول: أسباب الاهتمام الإيراني السعودي بمنطقة القرن الإفريقي

بداية يقصد بمنطقة القرن الأفريقي -جغرافيا- ذلك الجزء الممتد على اليابسة الواقع غرب البحر الأحمر وخليج عدن على شكل قرن، ويعد مصطلح القرن الأفريقي في جوهره مصطلحاً سياسياً، لذلك لا يوجد تعريف موحّد "للقرن الأفريقي الكبير" حتى الآن، وإنما تستعمل التعريفات السائدة حسب مصالح الدول الكبرى ومدى رغبتها في الانخراط في قضايا الإقليم، فتارة يُقال القرن الأفريقي فقط، وتارة "القرن الأفريقي الكبير" والذي يشمل دول: إثيوبيا والصومال وجيبوتي وإريتريا وكينيا وأوغندا والسودان وجنوب السودان، ولدى البعض يمتد إلى ما وراء ذلك[1].

وتتأثر منطقة القرن الأفريقي بالمتغيرات الجيوسياسية الطارئة على سياقات النظام الدولي وديناميكيات الصراع خارج نطاقاتها الجغرافية، وتنظر القوى الإقليمية والدولية إليها، بصفتها نطاقاً جغرافياً للتنافس، وسوقاً سياسيةً للمساومة والتفاوض على تقاسم النفوذ[2]، وذلك في ظل استمرار الأوضاع التي تعانيها دول القرن الأفريقي، والتي تشهد الكثير من الاضطرابات وحالة من عدم الاستقرار، حيث تنقسم إلى هويات ومناطق معسكرة، مشحونة بثقافة العنف[3].

ويأتي من أهم أسباب الاهتمام بمنطقة القرن الأفريقي أنها تطل على المحيط الهندي من ناحية، وتتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، حيث مضيق باب المندب من ناحية ثانية، ومن ثم فإن دول القرن الأفريقي تتحكم في طريق التجارة العالمي، خاصة تجارة النفط القادمة من دول الخليج، والمتوجهة إلى أوروبا، والولايات المتحدة، كما أنها تعد ممرا مهما لأي تحركات عسكرية، قادمة من أوروبا، أو الولايات المتحدة، في اتجاه منطقة الخليج العربي[4].

هذا إلى جانب أهميتها الاقتصادية، حيث يتوافر بمنطقة القرن الإفريقي موارد طبيعية، مثل: النفط والذَّهب والغاز الطبيعي، وتوافر احتياطات كبيرة من المعادن التي تستخدم في الصناعات الثقيلة والنووية، مثل: الكوبالت واليورانيوم، هذا فضلا عن قربها من الجزيرة العربية بكل خصائصها الثقافية، ومكوناتها الاقتصادية، علاوة على ما فيها من جزر عديدة، ذات أهمية استراتيجية، من الناحية العسكرية والأمنية، مثل جزيرتي حنيش، ودهلك.

وتأتي أهمية منطقة القرن الإفريقي لكل من إيران والسعودية على النحو التالي:

أولاً: أهمية منطقة القرن الأفريقي لإيران:

تعد منطقة القرن الأفريقي من المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية البالغة بالنسبة لإيران، كونها تمثل إحدى أبرز نقاط التماس الرئيسية التي تعول عليها الإستراتيجية الإيرانية الرامية إلى التمدد وبسط النفوذ الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، فالمنطقة التي تعد بؤرة تنافسية لقوى إقليمية ودولية عدة، باتت محل اهتمام متزايد لدى صانع القرار الإيراني، بالنظر إلى كونها الخاصرة الرخوة بين عدد من دوائر الاهتمام والحركة للسياسة الإيرانية، عربيًا وأفريقيًا وشرق أوسطيًا[5].

حيث ترى إيران منطقة القرن الأفريقي، مدخلاً استراتيجياً للدائرة الأفريقية، ذات الأهمية الكبرى على الصعيد الدولي على كافة الصعد، وباعتبارها الفناء الخلفي للدائرتين الخليجية والشرق أوسطية اللتين تعدان نطاق عمل المشروع الإيراني الطموح الرامي إلى توسيع سياقات نفوذها في المنطقة، الأمر الذي يعني كليًا أن منطقة القرن الأفريقي هي نقطة ارتكاز للتمدد الإيراني في أفريقيا من جهة، وتطويق الحزام العربي الخليجي المناوئ للإستراتيجية الإيرانية من جهة أخرى[6].

وتسعى طهران إلى إيجاد موطئ قدم في تلك المنطقة، والتي تضاعفت أهميتها، وفق مدركات القيادة الإيرانية، إثر الحملة العسكرية العربية-الإسلامية التي تقودها المملكة العربية السعودية ضد ميليشيا الحوثي[7].

ثانياً: أهمية منطقة القرن الأفريقي للسعودية:

رغم أن للمملكة العربية السعودية علاقات تاريخية مع الدول الأفريقية، إلا أن تلك العلاقة لم تحظَ بالأهمية الكافية من قِبل متخذي القرار الخارجي السعودي، إلا في الفترة الأخيرة[8]، حيث تبرز الأهمية الإستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي، وما تمثله من حزام للأمن القومي والأمن الغذائي السعودي، في ظل التهديدات المتنامية في تلك المنطقة، وتصاعد الدور الإيراني إلى جانب زيادة الفواعل الدولية والإقليمي الأخرى.

  الأمر الذي دفع السعودية نحو تطوير علاقاتها مع دول القرن الأفريقي في سبيل تعزيز أمنها الإقليمي والبحري عند مضيق باب المندب، والحد من عمليات القرصنة وتحرك وتنقل المجموعات الإرهابية عبر البحار، وأيضاً السيطرة على عمليات تهريب السلاح إلى جماعة الحوثيين في اليمن بعد سيطرتهم على صنعاء في عام 2014.

فقد أدركت السعودية أهمية منطقة القرن الأفريقي أكثر، وما تمثله من منطقة انطلاق للتهديدات الإرهابية، لمصالحها ولحرية الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر، وكذلك منطقة إمداد وتمويل للحوثيين، حيث بدأت السعودية في 16 ديسمبر/كانون الأول 2014 عملياتها العسكرية (في إطار عاصفة الحزم) ضد المساعي الحوثية للسيطرة على اليمن، حيث تشير بعض التقارير الدولية إلى استعمال إيران لإريتريا لإيصال المؤن للحوثيين[9].

وبالتالي يأتي تزايد الاهتمام السعودي بمنطقة القرن الأفريقي، مدفوعا بالتحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجه السعودية، خاصة ما يتعلق بتهديد الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر، وتمدد النفوذ الإيراني، إضافة إلى البحث عن فرص اقتصادية جديدة في أفريقيا، وكان من أهم مؤشرات هذا الاهتمام هو تعيين السفير "أحمد القطان"، وزير دولة للشؤون الأفريقية بداية من عام (2018).


المحور الثاني: أهداف إيران  والسعودية في منطقة القرن الأفريقي

تسعى كل من إيران والسعودية نحو تمديد نفوذهما في منطقة القرن الأفريقي، لما لهذه المنطقة من أهمية سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية، في ضوء موقعها الإستراتيجي وما يتوافر بها من موارد طبيعية متاحة، وفرص استثمارية، وفتح أسواق قريبة لتصريف إنتاجهما، وأوضاع مناسبة لتهيئة المناخ الداعم للتعاون التجاري والاستثماري بين دول القرن الأفريقي، والدول الأخرى.

وفي هذا الإطار تسعى الدولتان إلى تحقيق عدد من الأهداف، التي يمكن رصدها على النحو التالي.

أولاً: أهداف إيران في منطقة القرن الأفريقي.

يتمثل الهدف الإستراتيجي لإيران منذ الثورة الإيرانية عام 1979 إلى السيطرة على الممرات البحرية في المنطقة، ومن ثم السيطرة على المجال الإقليمي، وتبحث إيران عن توسيع مجال تأثيرها في المواقع الإستراتيجية المحيطة بالعالم العربي، ولذلك تعد منطقة القرن الأفريقي من المناطق الهامة في الإستراتيجية الإيرانية، وانطلاقاً من تلك الإستراتيجية، تسعى إيران إلى تحقيق عدد من الأهداف في منطقة القرن الأفريقي، يأتي من أهمها:

  • الأهداف السياسية والإستراتيجية:

تتمثل في البحث عن أدوات جديدة لإحياء وتدعيم أدوارها الإقليمية، واستعادة أمجادها الإمبراطورية، القائمة على اعتبارات تاريخية أو أيدلوجية[10]، حيث ينطلق المشروع الإيراني على خلفية المصالح السياسية والإستراتيجية المتنامية، وطبيعة الدور الإقليمي، فضلًا عن طبيعة التوجّه العقائدي والديني، كما تسعى إيران إلى تطويق الدول العربية، خاصة الأفريقية من الجنوب بنظم حكم موالية لسياستها تحقيقاً لطموحاتها في فرض الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة ومنطقة الخليج العربي بصفة خاصة [11].

إلى جانب ترسيخ النفوذ السياسي الإيراني، كجزء من محور مناوئ للغرب، ينتمي إلى دول العالم الثالث، تحاول إيران تثبيته مع القيام بمحاولة الحد من نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، فضلاً عن كسر العزلة الدولية التي تواجهها، وتأمين المنظمات والمحافل الدولية من جانب، وتأمين موقف سياسي داعم لتوجهات طهران في صراعها مع الولايات المتحدة والأطراف الغربية بشأن برنامجها النووي[12].

  • الأهداف العسكرية والأمنية:

تتبنى إيران ما يسمى بالجهاد البحري، وهو استراتيجية إيرانية، تعني انتهاج سياسات تمكن الدولة من السيطرة أو الوجود القوي بالقرب من الممرات الملاحية، تحسباً لأي مواجهة عسكرية تهدد مصالحها، وتسهل وصول إيران إلى مناطق الأزمات في المنطقة، عبر تأمين وجود إيراني في منطقة شرق أفريقيا، باعتبارها إحدى المحطات الإستراتيجية المهمة لها في مواجهتها للقوى الغربية، وخاصة إسرائيل، وهو ما يعطيها نقطة ارتكاز تمكنها من القيام بمهام جهادية وقتالية ضد القوى الغربية إذا ما قررت الأخيرة تدمير قدرات إيران النووية[13].

أيضاً تسعى إيران إلى امتلاك أوراق نفوذ اقتصادية وعسكرية في القرن الأفريقي، بما يمكنها من الحضور التفاوضي لدى القوى الدولية النافذة في شرق القارة الأفريقية، لا سيما الولايات المتحدة والصين، إضافة إلى تعزيز دور إيران كقوة إقليمية ذات وزن لا يمكن تجاهله في أي ترتيبات إقليمية بين الدول الكبرى بالمنطقة، وخاصة في ظل الأهمية المتزايدة للقرن الأفريقي في الأمن العالمي[14] فضلاً عن تعزيز تواجدها بمناطق وجود خام اليورانيوم أو بالقرب منها، حيث تهدف إلى الحصول على اليورانيوم لتمويل برنامجها النووي.

  • الأهداف الدينية والأيدلوجية:

يأتي من أهم تلك الأهداف تصدير الثورة الإسلامية من خلال المؤسسات الإيرانية أو المراكز الثقافية التي تنشر الفكر الشيعي، وتعزيز فرص نشر التشيع بين شعوب دول منطقة القرن الأفريقي، ودعم وتحريك الشيعة في تلك المنطقة، بهدف خلق قواعد محلية موالية لإيران باعتبارها مرجعية حوزتها الدينية، من أجل الضغط على الحكومات الوطنية والعمل في مواجهة المصالح السعودية.

  • الأهداف الاقتصادية:

  يثير امتلاك منطقة القرن الأفريقي، وأفريقيا عامة، للكثير من المواد الخام شهية القوى الدولية والإقليمية – وإيران بالطبع- للحصول على نصيب من تلك المواد، خاصة المخزونات القابلة للاستخراج، من النفط الخام والغاز والفحم واليورانيوم، والتي تقدَّر بنحو 13 - 14.5 تريليون دولار، و1.7 تريليون دولار من الثروة الكامنة والإنتاج في قطاعات مثل: الزراعة والسياحة والمياه، هي موارد مثيرة لشهية أي دولة لديها نية في لعب دور إقليمي ودولي، وهو ما لخصه ستيفن هانسن المحلل الاقتصادي الأمريكي الشهير بقوله: "إن هذا العقد هو عقد أفريقيا بامتياز"[15].

  وقد اتجهت إيران إلى تدعيم العلاقات التجارية والاقتصادية مع دول منطقة القرن الأفريقي، وفي هذا السياق وقّعت إيران العديد من الاتفاقات التجارية والصناعية وإطلاق المشروعات الاستثمارية مع دول عديدة، مثل كينيا وإريتريا وأوغندا وغيرها، وذلك في إطار سعي إيران للاستفادة من الميزة النسبية التي يمكن أن تقدمها دول القارة إليها، مقابل مساعداتها، أو بمعنى آخر القيمة المضافة التي يمكن أن تحصل عليها طهران مقابل هذه المساعدات[16].

ثانياً: أهداف السعودية في منطقة القرن الأفريقي:

تستهدف المملكة العربية السعودية الحفاظ على أمنها واستقرارها بالدرجة الأولى، وبالتالي يأتي أمن واستقرار المملكة على رأس أهدافها في منطقة القرن الأفريقي، حيث تسعى لمنع المجموعات التي لديها أجندات عابرة للحدود من زعزعة نظام حكمها، إضافة إلى محاصرة وتحجيم انتشار التشيع الإيراني في أفريقيا.

ومن أهم الأهداف التي يمكن رصدها للسعودية في أفريقيا، ما يلي.

  • الأهداف السياسية:

اتجهت السعودية في الفترة الأخيرة إلى توطيد علاقاتها السياسية مع دول القرن الأفريقي، لتكوين علاقات صداقة وتعاون مع أنظمتها السياسية من ناحية، وضمان التضامن معها في مواقفها وسياساتها، إزاء القضايا الإقليمية والدولية من ناحية أخرى، وفي سبيل ذلك طرحت السعودية عقد قمة سعودية أفريقية عام 2019، والاتجاه نحو تأسيس منتدى للتعاون السعودي الأفريقي، وهو ما لقي ترحيبـاً من جانب عدد من الدول الأفريقية، هذا إلى جانب حرصها على دعم ومساندة الأنظمة الصديقة التي تستطيع التعامل معها في المنطقة.

  • الأهداف العسكرية والأمنية:

  تسعى المملكة لضمان أمنها واستقرارها، وحماية الثروة البترولية، وطرق تصديرها خاصة عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر وحمايته من القرصنة[17]، بما يمثله من مصلحة استراتيجية للسعودية في الحفاظ على أمن البحر الأحمر وحمايته بما يمكنها من الوصول الآمن جنوبا إلى خليج عدن والمحيط الهندي عبر مضيق باب المندب، وشمالا إلى البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس، حيث يتوجب على السعودية نقل مخزوناتها النفطية من شرق المملكة على الخليج إلى غربها، على البحر الأحمر، لتفادي التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز[18].

كما تستهدف المملكة التعاون مع الدول الأفريقية في مجال "مكافحة الإرهاب"، في ظل استمرار التهديدات الأمنية والإرهابية التي تتعرض لها المملكة، وفي إطار مواجهة التهديدات الأمنية في باب المندب، أعلنت المملكة عن اتفاق لتأسيس كيان للدول العربية والأفريقية المطلةعلى البحر الأحمر وخليج عدن[19].

  • الأهداف الاقتصادية والاستثمارية:

وضعت السعودية سياسة اقتصادية استراتيجية عميقة الأبعاد والدلالات، من خلال عدة محاور، من بينها توسيع دائرة اهتماماتها بالقارة الأفريقية، والدخول معها في شراكات اقتصادية وتجارية واستثمارية على أوسع نطاق؛ لما لذلك من بعد استراتيجي، أثمر ولا يزال يثمر عن نتائج مهمة تنعكس إيجابا على الدور الكبير الذي تلعبه المملكة كأكبر اقتصاد في المنطقة[20].

كما تسعى المملكة لخلق مناطق نفوذ ذات تأثير في المنظمات الإقليمية والدولية، وتحقيق مصالح اقتصادية يتوفر من خلالها الأمن الغذائي السعودي[21]، حيث أدى تزايد حاجة السعودية للمواد الغذائية في عام 2008، إلى شراء الأراضي الزراعية في السودان وإثيوبيا كوسيلة للتحوط ضد انعدام الأمن الغذائي، وبين عامي 2000 و2017 استثمرت دول الخليج 13 مليار دولار في القرن الأفريقي، خاصة في السودان وإثيوبيا.


المحور الثالث: وسائل وأدوات إيران والسعودية في منطقة القرن الأفريقي

تعتمد كل من إيران والسعودية في علاقاتها بدول القرن الأفريقي، على عدة وسائل تساهم في تمدد نفوذهما في تلك المنطقة، تتضمن وسائل وأدوات دبلوماسية، واقتصادية وثقافية ودينية، فضلاً عن أدواتها العسكرية، وهو ما يمكن تناولها على النحو التالي.

أولاً: وسائل إيران في تمدد نفوذها في منطقة القرن الأفريقي

تستند إيران على تحقيق أهدافها ومصالحها في القارة الإفريقية عامة، وفي منطقة القرن الأفريقي خاصة، إلى عدة محاور، منها ما يعتمد على الأدوات السياسية والدبلوماسية، والثقافية والدينية، والتي تأتي في إطار أدوات القوة الناعمة، وأخرى تعتمد على المساعدات الاقتصادية والعسكرية، في إطار القوة الصلبة.

 وتأتي تلك الوسائل والأدوات التي تمكن إيران من التحرك نحو تحقيق أهدافها في منطقة القرن الأفريقي، كما يلي:

  • الأدوات السياسية والدبلوماسية:

تسعى إيران لإقامة علاقات دبلوماسية ثنائية ومتعددة الأطراف مع دول هذه المنطقة، حيث تستفيد من تبادل التمثيل الدبلوماسي، في التقرب إلى قادة دول شرق أفريقيا بشكل فاعل، وتنشط الزيارات الرسمية بين المسؤولين الإيرانيين، ومسؤولي دول المنطقة، وتشير تقارير دولية إلى أن إيران تستغل سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا في جمع المعلومات عن الدول الأفريقية ومتابعة الموقف السياسي بكافة جوانبه الداخلية والخارجية، والقيام بالنشاط الإعلامي والدعائي للأفكار والمبادئ الإيرانية[22].

  • الأدوات العسكرية والأمنية:

يأتي ذلك من خلال بتصدير الأسلحة والذخيرة وقطع الغيار الإيرانية إلى الدول الأفريقية، وتقديم خدمات التدريب العسكري وغير ذلك، وإن كان يغلب عليها الطابع السري، بسبب ما تثيره من حساسيات، خصوصاً بالنسبة لدول الخليج العربي، وتأتي السودان من أهم الدول التي استفادت في مرحلة معينة من هذا الجانب.

وتشير بعض الوسائل الإعلامية إلى قيام إيران بتهريب السلاح وعناصر من "تنظيم القاعدة" من أفغانستان إلى جنوبي اليمن، إلى جانب تدريب عناصر التمرد الحوثي بمعسكر "دنقللو" (شرق مدينة قندع وسط إريتريا)، مع قيام إيران بتزويد العناصر العسكرية البحرية التابعة لها في خليج عدن قبالة السواحل الصومالية، ذلك تحت ذريعة محاربة القرصنة، وخير مثال على ذلك هو: القاعدة الإيرانية في ميناء عصب الإريتري[23].

  كما يوفر ارتباط إيران ببعض فئات الشيعة بمنطقة حوض النيل، قواعد ارتكاز مؤثرة بالإضافة إلى أنشطة عناصر الحرس الثوري الإيراني[24]، كما تنشط أجهزة الاستخبارات الإيرانية لصالح تنفيذ استراتيجية الحركة الإيرانية بأفريقيا ودول العالم من خلال استثمار كافة الإمكانيات المادية والمعنوية المتاحة.

  • الأدوات الدينية:

تتبنى إيران مقاربات تستهدف العمل على استغلال البعد الديني في تشكيل أطر سياساتها حيال عديد من الدول الأفريقية، كما تعمد طهران إلى نشر المذهب الشيعي، ومِن ثَمّ تشكيل جماعات مذهبية متمايزة عن محيطها[25]، وذلك من خلال استثمار وجود أقليات شيعية في عدد من الدول الأفريقية باعتبارها تمثل ركائز أساسية يمكن الاعتماد عليها في نشر أفكار ومعتقدات الثورة، مع إقامة قنوات اتصالية لربطها بطهران بهدف سرعة تنفيذ مخططاتها الرامية لتوسيع نطاق نشر الفكر الثوري باعتباره يمثل أهم وسائل التغلغل في دول العالم الإسلامي[26].

إلى جانب الاستفادة من البعثات الدينية الإيرانية، ورجال الطوائف الدينية والقيادات الأفريقية التي يتم استقطابها لصالح نشر العقائد الإيرانية من خلال تقديم الدعوات لهم الزيارة إيران، فضلا عن تقديم المنح التعليمية لهم بإيران وإعادتهم لنشر الأفكار الشيعية بدولهم.

وفي ظل انتشار الفقر والجهل اللذين تعاني منهما القارة الأفريقية عامة، ومنطقة القرن الأفريقي خاصة، حيث يفسحان المجال للنشاط الدعوي الشيعي القائم على منظومة متكاملة من العمل الخيري والطبي، والتعليمي، في بيئة تسمح بتمرير معتقدات شيعية خالصة باسم الإسلام لدى البسطاء ومحدودي الثقافة الدينية، وتشترك كل الأنشطة الدعوية الإيرانية في إغراء السكان بالمال في قِطاع التعليم والصحة وغيره، كما تعتمد آليةَ الابتعاث إلى إيران وسوريا للنابغين من طلاب المعتقَد الشيعي[27].

  • الأدوات الاقتصادية:

تستغل إيران حالات الفقر والجوع والمرض التي تعاني منها أغلب بلدان هذه المنطقة، مقدمة لها العون والمساعدة لتوطيد علاقتها بهدف نشر التشيع، حيث تهتم إيران باستخدام المساعدات الاقتصادية والإنسانية باعتبارها أداة من أدوات السياسة الخارجية، في توطيد علاقاتها بدول القرن الأفريقي، وتقوم بتمويل مؤسسات بحثية، وتمويل الجامعات الأفريقية، وإقامة المراكز والمستشفيات ودور الرعاية الاجتماعية، وشبكة إعلامية ضخمة، تضم صحفاً ومجلات ومحطات فضائية وإذاعية، وإقامة الاحتفالات الطائفية (الدينية) المتعددة بشكل علني والتسويق للمذهب عبر الاحتفاء بآل البيت، والتواصل الجيد مع المسؤولين في الدولة[28].

ثانياً: وسائل السعودية في تمدد نفوذها في منطقة القرن الأفريقي

ترتكز الإستراتيجية السعودية لتحقيق أهدافها في منطقة القرن الأفريقي على استخدام الوسائل والأدوات التي تساهم في تنفيذ أنشطتها في تلك المنطقة.

  • الوسائل الدبلوماسية:

اتجهت السعودية مؤخراً إلى توظيف كافة أدوات السياسة الخارجية، لتحقيق مصالحها الوطنية في القرن الأفريقي، ومن أهمها، تبادل التمثيل الدبلوماسي والزيارات مع معظم دول المنطقة، حيث تحاول الدبلوماسية السعودية، جذب دول تحتفظ بعلاقات وثيقة مع إيران، مثل الصومال وجيبوتي والسودان، إلى الكيان الجديد عبر تقديم مساعدات اقتصادية واستثمارات لهذه الدول الفقيرة، ضمن هذا الكيان، بما يدفع للتأثير سلبا على علاقاتها مع إيران[29].

وفي إطار مواجهة التهديدات الأمنية والإرهابية في منطقة البحر الأحمر، اتجهت المملكة إلى تدشين تحالف بين الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، ومن المحتمل أن يضمها مستقبلا إلى جانب دول عربية وأفريقية أخرى. ومن المرجح أن تكون مواجهة "الكيان الجديد" للتهديدات الإيرانية "المفترضة" على قائمة الأولويات السعودية في منطقة القرن الأفريقي[30].

  • الأدوات الدينية والثقافية:

تستند السعودية في تحركاتها السياسية على البعد الديني بشكل أساسي، فهو القوة الدافعة الرئيسية في سياستها الخارجية، حيث كان الإسلام ولا يزال أهم العوامل المؤثرة في عملية تحديد أولوياتها[31]، كما يمثل التوجه الديني السعودي أهم التوجهات السعودية نحو أفريقيا؛ باعتباره ركيزة أساسية في السياسة الخارجية السعودية، حيث استهدفت في الفترة الأخيرة الترويج لأنشطتها الدينية والدعوية، والوقوف ضد المساعي الإيرانية لنشر المذهب الشيعي في أفريقيا.

  هذا إلى جانب الأدوات الدينية، مثل المراكز الإسلامية والمدارس والمعاهد الدينية والجامعات، الملحقيات الدينية ومراكز الدعوة، فضلاً عن إرسال الدعاة والعلماء إلى دول شرق أفريقيا؛ نظراً لحاجة تلك الدول إليهم، كما تقوم باستقبال الطلاب الأفارقة للدراسة في الجامعات السعودية، وتقديم الدعم المادي والمعنوي للمدارس والمراكز الأفريقية التي تعنى بتدريس العلوم الإسلامية واللغة العربية.

  • الأدوات الاقتصادية:

إلى جانب السعي لإيجاد سوق جديدة في أفريقيا للمنتجات السعودية، في إطار إعادة هيكلة اقتصادها، والتقليل من الاعتماد على النفط، وذلك وفق رؤية (2030)، الهادفة إلى دعم رؤية اقتصاد المملكة العربية السعودية في المستقبل على أساس التجارة والصناعات المختلفة والخدمات المالية[32]، اتجهت السعودية إلى زيادة الاستثمار والتبادل التجاري مع دول القرن الأفريقي، حيث تعد السعودية أكبر مستثمر خليجي في معظم دول المنطقة، مثل السودان وإثيوبيا، وتقديم المساعدات الإنسانية والتنموية، والتعاون العسكري، والذي برز تناميه بصفة خاصة مع جيبوتي[33].

كما تقدم السعودية مساعدات اقتصادية وإنسانية، من خلال الصندوق السعودي للتنمية، ومركز الملك سلمان للمساعدات الإنسانية والإغاثة، وهو ما ساهم في تحقيق السعودية لنفوذ اقتصادي متنامي في دول القرن الأفريقي، والذي ساهم في تعزيز علاقاتها بدول الإقليم، ظهرت فاعليتها من خلال قيام كل من السودان وجيبوتي والصومال وإريتريا، بقطع علاقاتها مع إيران.

  • الأدوات العسكرية:

إدراكا من السعودية لتزايد المخاطر الأمنية في منطقة باب المندب والبحر الأحمر، إضافة إلى تزايد النفوذ الإيراني في أفريقيا اتجهت السعودية لمواجهة ذلك، من خلال سعيها لبناء قاعدة عسكرية لها في جيبوتي، الدولة المطلة على الجانب الغربي من مضيق باب المندب، لتأمين حماية للمضيق الذي يوصل نفطها إلى العالم، إلى جانب توثيق علاقاتها الأمنية والاستخباراتية بدول القرن الأفريقي، والاتجاه إلى تأسيس "كيان البحر الأحمر"، بهدف تعزيز الأمن والاستثمار والتنمية بالدول المطلة للبحر الأحمر، وإن هذا الكيان يستهدف مواجهة التهديدات الأمنية، ووقف التوسع الإيراني والتركي والقطري بالبحر الأحمر، وصف هذا الكيان الجديد بـ"الضربة الثانية من المملكة لإيران" بعد الضربة الأولى عبر استهداف حلفائها في اليمن، وأنها صفعة مؤلمة للإيرانيين الساعين منذ سنوات إلى إحكام السيطرة على البحر الأحمر[34].

ومن خلال المحاور السابقة، يتبين أن النفوذ الإيراني في منطقة القرن الإفريقي جاء نتيجة التراجع العربي عامة والسعودي خاصة في تلك المنطقة خلال الفترات السابقة، حيث جاء ذلك النفوذ خصمًا موضوعيًا من الوجود والمصالح العربية.

ومع إدراك السعودية لخطورة هذه المنطقة، بعد  الحرب مع الحوثيين، والتهديدات الأمنية التي صاحبتها، اتجهت السعودية إلى الاهتمام بالتواجد في منطقة القرن الإفريقي، مستخدمة وسائل عدة، ما بين سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية، استطاعت من خلالها الحد من تمدد النفوذ الإيراني في منطقة القرن الأفريقي إلى حد كبير، خاصة مع إدراك دول الإقليم هي الأخرى لخطورة النفوذ والتدخلات الإيرانية في المنطقة، انعكس ذلك في قطع كل من السودان، والصومال، وجيبوتي، وجزر القُمر، وموريتانيا، عَلاقاتها تمامًا مع طهران وطردت سفراء إيران لديها، معلنة تضامنها مع الرياض في 2016[35].

لكن وبحسب مجلة "فورين أفيرز" (مقال للمحلل زاك فيرتين)، تظل فاعلية النفوذ الإيراني أو السعودي في منطقة القرن الأفريقي، تتوقف على إمكانية مساعدة أو إعاقة التغيير على المدى الطويل في القرن الأفريقي، والذي سيعتمد على براعة تلك الدول في إدارة العلاقات غير المتكافئة مع شركائها في الخليج، فيجب على هذه الدول الضعيفة -التي تعاني أصلا من التقلبات الداخلية- أن تجد طريقة للاستفادة من الاستثمارات دون التخلي عن سيادتها، أو الانجرار لتنافسات سياسية لا تنطوي على كثير من الفائدة"[36].


الخاتمة

من خلال المحاور السابقة، تتضح مدى الأهمية الإستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي في السياسات الدولية والإقليمية، وهو ما جعل كلا من السعودية وإيران تسعيان إلى النفاذ إلى تلك المنطقة، سواء بوجودها المباشر، أو من خلال تمكين حلفائها هناك، وقد تم الكشف عن عدد من المؤشرات التي تعكس مدى نفوذ كل من إيران والسعودية في منطقة القرن الأفريقي، والتي ما يمكن رصدها على النحو التالي:

أولا: المؤشرات التي تعكس نفوذ البلدين:

  • كشف التمدد الإيراني في منطقة القرن الأفريقي والقارة الأفريقية عموماً، عن وجود خلل استراتيجي في النظام العربي الإقليمي، بدا ملموساً على الأصعدة كافة، بل إن غياب النظام العربي الإقليمي وضعف استراتيجيته أفقدت العرب دعم أدواره الإقليمية.
  • تتمتع المملكة برصيد كبير لدى دول القرن الأفريقي؛ نظراً لأبعاد مختلفة ثقافية واجتماعية ودينية تجعلها نقطة ارتكاز يمكن الاعتماد والبناء عليها من أجل إقامة وتطوير العلاقات، وبناء شراكة أمنية واستراتيجية واقتصادية قوية[37].
  • تنامي الاستثمارات السعودية في منطقة القرن الأفريقي، والتي ساهمت في إخراج نظامه من حالة العزلة التي كان يعيشها، وكانت السعودية والإمارات بحاجة لقاعدة على البحر الأحمر، تشن منها غاراتها عندما بدأت حربها في اليمن عام 2015، فوقع الاختيار على مدينة عصب (إريترية على ساحل البحر الأحمر)، وحولتها إلى قاعدة جوية، بالإضافة إلى أن الإمارات أرادت تطوير الميناء في عصب بعد خلافها مع جيبوتي"[38]، كما ساهمت العلاقات السعودية الجديدة مع إريتريا في رفع العقوبات الأممية عنها، وساعد ذلك على بدء المصالحة بين أسمرة وأديس أبابا، وإن كانت المصالحة تسير بخطى ثقيلة، خاصة أن هناك العديد من القضايا الشائكة بين البلدين"[39].
  • استطاعت المملكة العربية السعودية من خلال علاقاتها بنظام عمر البشير أن تؤثر على الحكومة السودانية في 2014 مما أدى إلى طرد السودان لمسئولين إيرانيين؛ متهمة إياهم بنشر الإسلام الشيعي عبر المراكز الثقافية الخاصة بها وإعلان الخرطوم تحالفها مع معسكر السعودية، وذلك في محاولة من النظام السوداني تخطي حكم المحكمة الجنائية الدولية التي اتهمت الرئيس السوداني "عمر البشير" في وقت سابق بارتكابه جرائم إبادة في دارفور، ونتيجة هذا الموقف السوداني قامت السعودية بإيداع مليون دولار في البنك المركزي السوداني[40].
  • مساندة عدد من دول الإقليم للسعودية في مواقفها السياسية، فقد وقفت كل من إريتريا وموريتانيا وموريشيوس والسنغال إلى جانب جزر القمر مع اللجنة الرباعية وقطع العلاقات مع قطر، وخفضت  كل من تشاد وجيبوتي والنيجر السودان من علاقاتها مع قطر[41].
  • تأييد السعودية نحو إنشاء تحالف عربي عسكري لاستعادة الشرعية في اليمن، بعد استيلاء الحوثيون على العاصمة اليمنية صنعاء، أبدت عدد من الدول الإفريقية تأييدها لهذا التحالف، ومنهم من شارك بقوات عسكرية ضمن قواته، كالسودان والسنغال.
  • توقيع اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا 2018: تمكنت السعودية من التوسط بين إثيوبيا وإريتريا، لإنهاء حالة العداء المستمرة منذ أكثر من 10 عاما، فقد تم توقيع اتفاق سلام عرف باسم "اتفاق السلام بجدة، في 16 سبتمبر/أيلول 2018[42].

وقد عكست هذه المؤشرات تنامي النفوذ السعودي في منطقة القرن الأفريقي، مقابل تضاؤل النفوذ الإيراني، ولكن يظل المستقبل يحمل في جعبته الكثير من التغيرات، خاصة في ضوء ما تشهده المنطقة من أحداث متجددة ومتطورة من وقت لآخر.

ثانياً: مستقبل التحركات الإيرانية والسعودية في القرن الأفريقي:

تشير الدلائل إلى زيادة قوة علاقات دول القرن الأفريقي مع دول الخليج العربي عامة ومع السعودية خاصة، لا سيما مع إعلان الرياض عن إنشاء تحالف جديد للأمن على البحر الأحمر يضم كلاً من جيبوتي والسودان والصومال، وما سبق ذلك من توقيع إثيوبيا وإريتريا على اتفاق سلام ساعدت السعودية والإمارات للتوسط فيه، واستمرار الإمارات في بناء مشاريع عقارية في أديس أبابا هي الأكبر من نوعها في تاريخ المدينة[43].

أما إيران فتواجه الكثير من التحديات في ظل ما تتعرض له من أزمات دبلوماسية متعددة؛ نتيجة لأنشطتها التي أثرت سلباً على علاقاتها بالدول الأفريقية، ففي عام 2010، قطعت نيجيريا والسنغال وجامبيا علاقاتها الدبلوماسية بإيران، وفي عام 2016، قطعت كل من السودان والصومال وجيبوتي وجزر القمر وموريتانيا علاقاتهم تماما بطهران، وفي عام 2018، قامت المغرب بقطع علاقاتها مع إيران، كما وجهت الجزائر اتهامات لإيران بمحاولة إنشاء حركة شيعية في شمال أفريقيا، تؤجج النزاعات الطائفية، مما زاد من المشاعر المعادية للإيرانيين في الجزائر.

هذا إلى جانب اتجاه مصر زيادة وجودها العسكري في هذه المنطقة الحيوية، وهو ما وضح في تدشين الأسطول الجنوبي في مدينة سفاجا بمحافظة البحر الأحمر في يناير/كانون الثاني 2017.

كما تشكل الضغوط الدولية الرامية إلى تحجيم النفوذ الإيراني في أفريقيا تحدياً جديداً في مواجهة التوغل الإيراني في منطقة القرن الأفريقي، التي عادت مجددًا لتكون مسرحًا للتنافس والصراع بين القوى الأجنبية وتوازنات القوى الكبرى اليوم، كما جرى خلال حقبة الحرب الباردة، غير أن هذه المرّة تسارعت بشكل كبير وتيرة "العسكرة"، وذلك من خلال إنشاء القواعد والاتفاقيات العسكرية وعقود التسليح...إلخ.

وبالتالي هناك الكثير من العوامل التي ترجح تنامي النفوذ السعودي في منطقة القرن الأفريقي على حساب إيران، لكن لا تزال ثمة تحديات تجابه الإستراتيجية السعودية في منطقة القرن الأفريقي، يأتي من أهمها:

  • غياب أي تحالفات عربية مؤثرة في منطقة القرن الأفريقي، خاصة بين السعودية ومصر والسودان على سبيل المثال، فكل دولة تعمل منفردة لتحقيق مصالحها، دون الاتجاه إلى تشكيل تحالف عربي بالمعنى الحقيقي، على غرار التحالف في اليمن، وإن كان هناك تنسيق من نوع ما بين الدول العربية هناك، لكنه لا يرقى إلى صيغة "التحالف الكامل".
  • القلق الذي تبديه دول الإقليم من تمدد النفوذ السعودي في بلادها، خشية أن يحمل توجهات طائفية، تؤثر على أوضاعها الداخلية، في ظل ما تعانيه من حالة عدم استقرار.
  • الهيمنة الواضحة للسعودية في شرق أفريقيا، تنافسها إيران بفعالية على الجبهة غرب أفريقيا؛ الأمر الذي يؤثر بصورة سلبية على مصالح السعودية، نتيجة هذا التنافس لا سيما وهو يعمق التعصب الديني والتطرف الإسلامي في منطقة غرب أفريقيا[44]، فهناك من يرى أن تمويل المساجد والمدارس الإسلامية، الذي يؤدي إلى ارتفاع الطائفية بين السنة والشيعة، والذي بدوره يسمح للجانبين بالتدخل، بزعم دعم كل منهما للطائفة الخاصة به [45].

ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن الوجود السعودي في القرن الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر، يعزّز نفوذها بوصفها قوة إقليمية مؤثرة لمواجهة إيران من ناحية، ومدعاة لمدّ نفوذها إلى مناطق أخرى في أفريقيا.

أيضاً في ضوء بحثها عن بدائل تمددية أو توسعية في ظل التجاذبات والتحديات التي تواجهها في منطقة القرن الأفريقي، فإن الاحتمالات تتزايد بأن تحول إيران جهودها لتحقيق تواجد ونفوذ أكبر في غرب أفريقيا، التي تسعى إلى زيادة حضورها هناك، مدعومة من الجماعات الشيعية الناشطة في دول غرب أفريقيا.

وبالتالي يصبح مستقبل الدور الإيراني في القرن الأفريقي اختبارًا حقيقيًا لقدرتها الدبلوماسية؛ لترسيخ نفوذها في إقليم يعج بالإستراتيجيات المتناقضة والمتضادة، التي قد تفضي حال الوصول إلى أفق مسدود بين أصحابها إلى صراعات قوى قد تصل إلى حد المواجهات العسكرية.

كما أن تمكن السعودية من تعزيز نفوذها في منطقة القرن الأفريقي، يعطيها ميزة إمكانية بناء نفوذ أكبر، وإعادة تشكيل تحالفاتها الأفريقية، بالنظر إلى أهمية هذه المنطقة كمنطقة أمن قومي للسعودية خاصة والأمن العربي بشكل عام، وفوق ذلك ما تمثله تلك المنطقة من أهمية لمصالح الدول الكبرى في مجالَي أمن الطاقة وطرق التجارة.


المصادر: 

[1] - أنس القصاص، "أمن القرن الإفريقي في الإستراتيجية العسكرية الأمريكية 2015"، مجلة (رؤية تركية)، العدد (4)، السنة الرابعة (4)، (شتاء 2015)، ص66
[2] - سهام الدريسي، صراع النفوذ في شرق أفريقيا، مركز الفكر الإستراتيجي للدراسات،10 مايو 2018: https:// fikercenter.com/political-analysis/
[3] - Redie Bereketeab (ed), Intra-State and Inter-State Conflicts and Security, Pluto Press and Nordiska Afrikainstitutet, 2013. P 20.
[4] - Jeffrey A. Lefebvre: Iran in the Horn of Africa: Outflanking U.S. Allies، Middle East Policy Council، Volume XIX، Number 2، Summer 2012.
[5] - مصطفى شفيق علام، تمدد محسوب: كيف تنظر إيران إلي منطقة القرن الأفريقي؟ 15/1/2017.
[6] - المرجع السابق.
[7] - أيمن شـبانة، أبعاد الدور: دوافع تأسيس تركيا قاعدة عسكرية في الصومال، مركز المستقبل للدراسات المستقبلية والمتقدمة، 6 أبريل 2017.
[8] - ماجد ضيف الله العتيبي، تصور استراتيجي للسياسة الخارجية السعودية تجاه القرن الأفريقي، رسالة ماجستير منشورة، (الرياض: قسم الدراسات الإقليمية والدولية، كلية العلوم الإستراتيجية، جامعة نايف للعلوم الأمنية، 2015)
[9] - أحمد غريب، “النشاط العسكري الإيراني في القرن الأفريقي وحقيقة المخاوف الإسرائيلية”، مركز قاوم، انظر الرابط:
http://ar.qawim.net/index.php?option=com_content&task=view&id=4864
[10] - سلطان محمد النعيمي، سياسة إيران الخارجية ومرتكزات التقارب مع الشيطان الأكبر، السياسة الدولية، ملحق التحولات الإستراتيجية، عدد (199)، يناير 2015، ص ص 16-17.
[11] - محمود ضياء الدين عيسى، السياسة الإيرانية الراهنة تجاه دول حوض النيل، آفاق أفريقية، المجلد الثالث عشر، العدد(46)، 2017، ص140.
[12] - محمود ضياء الدين عيسى، المرجع السابق، ص141.
[13] - نسرين قصاب: القرن الأفريقي والإستراتيجية الإيرانية،العرب اللندنية، العدد 9559، 15/5/2014، ص 7
[14] - مصطفى شفيق علام، تمدد محسوب: كيف تنظر إيران إلي منطقة القرن الأفريقي؟، 15/1/2017.
[15] - ستيفن هانسن، الأموال تتجه إلى أفريقيا، موقع الرؤية الاقتصادية المتخصص: 10 / 7 / 2010م.
[16] - مبارك مبارك أحمد: البعد الاقتصادي في العلاقات الإيرانية – الأفريقية، آراء حول الخليجhttp://araa.sa/index .php? view= article&id=1079:2014-07-02-23-43
[17] - عبدالله درامي، نشأة وتطور العلاقات العربية الأفريقية ونموذج العلاقة بين السنغال والمملكة العربية السعودية، (الرياض: المكتبة المكية، 2000)، ص ص 207- 247.
[18] - إحسان الفقيه، لماذا تسعى السعودية لتأسيس كيان البحر الأحمر؟، الأناضول ، 16/12/.2018
[19] - اتفاق لتأسيس كيان لدول البحر الأحمر وخليج عدن: العربية نت،12-12- 2018: https://www.alarabiya .net
[20] - فتح الرحمن يوسف، الانفتاح السعودي على أفريقيا.. إستراتيجية عميقة الأبعاد، السبت - 23 جمادى الآخرة 1437 هـ - 02 أبريل 2016 مـ
[21] - سالي محمد فريد: نموذجان لمستقبل العلاقات السعودية الأفريقية، آراء حول الخليج، ع 109، يوليو2016، ص 60.
[22] - سامي السلامي، “تعارض الأجندات: مسارات الصعود والهبوط في العلاقات الإيرانية – المغاربية”، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 4/1/2016 http://rawabetcenter.com/archives/19037
[23] - شعبان مبروك، السياسة الخارجية الإيرانية في إفريقيا.. دراسات إستراتيجية، مركز الأمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، العدد (166) 2015، ص 70.
[24] - عبد المنعم سعيد، التقرير الإستراتيجي العربي، 2007-2008، التفاعلات الإقليمية، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، 2008، ص128.
[25] - السودانيون ينتفضون: تسليم «سواكن» لأردوغان يهدد الأمن القومي العربي، مبتدا (مصر)، 26 ديسمبر 2017، على الرابط التالي:https://www.mobtada.com/details/682865
[26] - سويدان حسن أحمد، أثر تنامي الدور الإقليمي لإيران على الأمن القومي المصري والعربي ومقترحات المواجهة، أكاديمية ناصر العسكرية، القاهرة، 2008، ص28.
[27] - أمير سعيد، إيران المتجهة إلى أفريقيا تبشيراً واستثماراً، مجلة البيان، العدد (281)،15/12/2010.    
[28] - في أفريقيا الآن رئيس أفريقي شيعي هو رئيس جمهورية جُزُر القُمُر، وثلاثة وزراء في غينيا، إلى جانب عدد من المسؤولين في دول أفريقية أخرى، وآخرين من السُّنة تقيم معهم علاقات متميزة، انظر: أمير سعيد: إيران المتجهة إلى أفريقيا تبشيراً واستثماراً، مجلة البيان، العدد (281)،15/12/2010.
[29] - إحسان الفقيه، لماذا تسعى السعودية لتأسيس كيان البحر الأحمر؟، الأناضول ، 16/12/.2018
[30] - المرجع السابق.
[31] - محمد صادق إسماعيل، دور المملكة العربية السعودية في العالم الإسلامي، (القاهرة: دار العلوم للنشر والتوزيع، 2010)، ص7.
[32] - Radelet, Steven. ‘Emerging Africa: How 17 Countries Are Leading the Way’. CGD Brief. Washington, DC: Center for Global Development, September 2010. https://www .cgdev.org/files/1424419_file_EmergingAfrica_FINAL.pdf.
[33] - محمود ضياء الدين: الدور السعودى فى القرن الأفريقى وأثره على الأمن القومى المصرى 11 مايو، 2018
[34] - تركي الفهيد، مقال له بصحيفة "عاجل" السعودية الإلكترونية،
[35] - 5 دول تقطع علاقاتها مع إيران.. والعالم يندد بانتهاكاتها بعد اعتداء طهران على البعثات الدبلوماسية السعودية، جريدة الشرق الأوسط (لندن)، 08 يناير 2016.
[36] - Zach Vertin , Red Sea Rivalries, The Gulf States Are Playing a Dangerous Game in the Horn of Africa, Published by the Council on Foreign Relations, January 15, 2019, see: http://www.emasc-uae.com/news/view/13797.
[37] - ماجد ضيف الله العتيبي، تصور استراتيجي للسياسة الخارجية السعودية تجاه القرن الأفريقي، رسالة ماجستير منشورة، (الرياض: قسم الدراسات الإقليمية والدولية، كلية العلوم الإستراتيجية، جامعة نايف للعلوم الأمنية، 2015)
[38] - Zach Vertin , , 2019,op cit.
[39] -I bid.
[40] - Kenneth Katzman, “Iran’s Foreign and Defense Policies”, Congressional Research Service, July 18, 2018.
[41] - Will Todman :The Gulf Scramble for Africa: GCC states’ foreign policy laboratory, November 20, 2018. https://www.csis.org/analysis /gulf -scramble-africa-gcc-states-foreign-policy-laboratory.
[42] - King Salman Sponsors the Jeddah Peace Agreement between Ethiopia and Eritrea” Al Hayat, September 18, 2018,https://bit.ly/2Nmo5Tp.
[43] - Zach Vertin , Red Sea Rivalries, The Gulf States Are Playing a Dangerous Game in the Horn of Africa, Published by the Council on Foreign Relations, January 15, 2019, see: http://www.emasc-uae.com/news/view/13797.
[44] - Gerald Feierstein, Craig Greathead, The Fight for Africa The New Focus of the Saudi-Iranian Rivalry,Middle East Institute, September 2017, https://www.mei.edu/sites/default /files/publications /PF2_Feierstein_AfricaSaudiIran_web_4.pdf
[45] - I bid.