أجهزة الأمن السودانية.. هل تعود "بيوت الأشباح" من جديد؟

"عطبرة" كانت البداية، وفي العاصمة الخرطوم، وبقية المدن السودانية من الاتجاهات الأربع اجتمعت حشود لمواطنين غاضبين في الشوارع، مطالبين بإسقاط نظام الرئيس، عمر البشير، الذي حكم البلاد قرابة ثلاثة عقود بقبضة حديدية، وبأذرع أمنية نافذة ومهيمنة على أنماط الحياة الاجتماعية والسياسية داخل المجتمع، ما يمثل جدارا قويا وفاصلا بين السلطة والشعب من الصعب كسره وتجاوزه.
خاصة مع وجود جهاز الأمن الوطني والمخابرات السوداني، المشكل عام 2004، من خلال توحيد جهازي الأمن الوطني، والمخابرات، ويتجاوز دوره جمع المعلومات، وإعطاء التقارير للأجهزة والمؤسسات، بل هو كيان محكم واسع الصلاحية بمثابة الحارس الأساسي لنظام البشير، وقاعدة درعه الأمني الواقي، من خلال امتلاكه لجهاز شرطة سري تتوغل عناصره في مفاصل الدولة،لإضافة إلى وكلاء وعملاء يقومون بعمليات داخل وخارج الحدود، وتحاط مهامه بسياج محكم من السرية.
تجديد عهود الردع
يقع على رأس جهاز الأمن الوطني والمخابرات، الفريق أول صلاح قوش، الأمني المخضرم المتسمة مسيرته بجدليات لا تنتهي، فعلى يديه ولد الجهاز بهيئته الجديدة، وأصبح رئيسه لمدة 5 سنوات بحكم قربه من الرئيس البشير وثقته المطلقة فيه ونجاحه في إضعاف حزب غريمه حسن الترابي، وكشفه للعديد من المخططات المحيطة بقصر الحكم، لكن سرعان ما انقلب البشير عليه وأطاح به في العام 2009 بتهمة التخطيط للانقلاب العسكري، بل ووضعه في السجن، قبل أن يعفو عنه فيما بعد، لكن قوش المتناقض الحاد العارف بطبيعة ومتناقضات المسرح السياسي السوداني عاد لتوه مرة أخرى على رأس الجهاز في ديسمبر/ كانون الأول 2018.
وهنا برز السؤال لماذا استعان البشير بقوش مرة أخرى؟
لم يكن صلاح قوش مجرد رجل أمن حديدي، وهو من النوع الذي يجيد فن السياسة والتحالفات وترتيب الأدوار بما يناسب المراحل الآنية، وقد ذكرت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" في تقرير لها عام 2005 أن قوش وفر لجهاز المخابرات الأمريكية "سي.أي.أيه" معلومات غاية في الأهمية، خاصة المتعلقة بزوار "الخرطوم" في التسعينيات، كما تعهد بمحاربة تنظيم القاعدة وتوفير معلومات عن أنشطته المتشابكة بين العراق والسودان، وهو ما أكده جون برنبيرغ، المستشار السابق في البيت الأبيض، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق، بيل كلينتون: "نحن نعرف أن قوش هو المرافق اللصيق لأسامة بن لادن خلال وجوده في الخرطوم منذ 1990".
ويأتي اسم قوش ضمن أبرز الشخصيات المتهمة بارتكاب جرائم إبادة جماعية في إقليم دارفور من قبل محكمة العدل الدولية، وظهرت مدى قوته وأسبقيته عن بقية الأجهزة الأمنية عندما نجح في التصدي للمحاولة الانقلابية الأشهر لحركة العدل والمساواة المتمردة في دارفور، في 10 مايو/أيار 2008، بعد أن استطاعت الوصول إلى مدينة أم درمان المركزية داخل العاصمة السودانية، وقد فشل الجيش السوداني في رصد قوافل السيارات العسكرية للحركة التي انطلقت من الحدود السودانية التشادية، وتجاوزت صحاري غرب السودان حتى أم درمان وقامت بالسيطرة على بعض المواقع.
بيد أن قوات الأمن تمكنت من مواجهتها وهزيمتها، فيما يعرف بعملية "الذراع الطويل"، وقد استخدم جهاز المخابرات والأمن أساليب غاية في العنف طالت المدنيين لقمع الحركات المسلحة في دارفور بعد ذلك، وقام بحملات اعتقال موسعة وإنفاذ اغتيالات وتصفيات جسدية، وأصدر قوش قرار مباشر باستبعاد وإخراج كل المنظمات الحقوقية العاملة في إقليم دارفور.
وبعد 10 سنوات من الإقالة، يعود صلاح قوش من جديد ويبرز على الساحة السياسية، مع ثمة تخوفات من استخدام أعمال وحشية تنكيلية، وعودة ظاهرة "بيوت الأشباح" التي كانت تشتهر بها أجهزة الأمن السودانية ضد معارضيها.
جيش الظل
على غرار قوات الحرس الوطني في المملكة العربية السعودية، أو قوات الباسيج الإيرانية، تأتي قوات الدعم السريع السودانية التابعة للجيش، وهي وحدات تعتمد في التجنيد على العناصر العربية ورجال القبائل، خاصة قبائل "الجنجويد" في إقليم دارفور التي تقوم بمهمة محاربة المتمردين هناك، وأنشئت في العام ٢٠١١، بهدف محاربة أعداء النظام في دارفور والمناطق الحدودية، ويقوم بقيادتها الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي" وهو رجل مثير للجدل من دارفور، ومقرب من الرئيس عمر البشير، وتوجه لتلك الوحدات العديد من الاتهامات بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات بحق المدنيين، ورغم تأكيدات المسؤولين الحكوميين أنها قوة قومية تسعى إلى حماية البلاد.
وسرعان ما توسعت مهام هذه القوات داخل وخارج الأراضي السودانية، فمن جهة قاموا بضبط الهجرة غير النظامية على الحدود السودانية الليبية، ومن جهة أخرى شاركوا ميدانيا في حرب اليمن، ولكن الأهم هو الدور الذي تقوم به داخل المدن من مواجهة المعارضة والمظاهرات.
وبحسب إحصائيات غير رسمية، نظرا لسياج السرية الذي يحيط بطريقة عمل وتجنيد تلك الوحدات، بحسب "وكالة الأناضول"، تتألف قوات الدعم السريع من ٤٠ ألف عنصر معظمهم أبناء القبائل، ويتسلحون بأسلحة خفيفة ومتوسطة مثل المدافع الصغيرة، والبنادق، إضافة إلى سيارات الدفع الرباعي التي تسهل من عمليات انتشارهم داخل القرى والمناطق البعيدة.
صقور الجديان
في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2018، أصدرت القوات المسلحة السودانية بيانا رسميا بعد اجتماعات أمنية تؤكد من خلاله التفافها حول القيادة السياسية، وحرصها على أمن وسلامة الشعب، وهو ما اعتبر ضمنيا تجديد الولاءات للبشير القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وتتكون البنية التحتية للجيش السوداني أو صقور الجديان من قوة عسكرية تتجاوز مائة ألف مجند بالإضافة إلى الآليات الثقيلة، ومصانع المدرعات، والأسلحة والذخائر، مع وجود القوات الجوية السودانية كفرع من فروع الجيش بجانب القوات البرية والبحرية. وبحسب موقع "جلوبال فاير باور" الأمريكي المتخصص في ترتيب الجيوش، يأتي الجيش السوداني في المرتبة السبعين عالميا.
ورغم الولاء المطلق من قبل الجيش للرئيس عمر البشير، إلا أنه لم يكن غائبا عن مسرح الحياة السياسية كسائر جيوش الشرق، وقام بأربع انقلابات عسكرية ناجحة استولى من خلالها على السلطة، منها انقلاب 30يونيو/حزيران 1989 بقيادة الرئيس الحالي.
الشرطة السودانية
لا تلعب الشرطة السودانية ذلك الدور الأمني المعقد الذي تقوم به قوات الشرطة في مصر على سبيل المثال، ولكنها حاضرة عند اشتداد الأزمات، ففي العام 1990 تمت إعادة هيكلة الشرطة حيث دمجت وحدات وزارة الداخلية وتكونت الشرطة الموحدة، بالإضافة إلى تأسيس الشرطة الشعبية، وفي الاحتجاجات الأخيرة التي شهدها السودان، شاركت فرق من الشرطة في إخماد التظاهرات واستخدمت قنابل الغاز والفرق الخاصة، ويأتي على رأسها مدير عام قوات الشرطة الفريق أول هاشم عثمان الحسين.
لم يقف دور الأجهزة الأمنية في السودان على حماية النظام من الهبات الشعبية، والقبائل المتمردة، بل من المعارك الداخلية ومحاولات الانقلاب العسكري، كما حدث في مايو/ أيار 2008 عندما اعتقل جهاز الأمن الوطني والمخابرات السوداني بقيادة صلاح قوش، الراحل حسن الترابي، وقيادات حزبه المؤتمر الشعبي بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري.
وقوش نفسه اعتقل بشكل مفاجئ في العام ٢٠١٢ مع مجموعة من ضباط الجيش وجهاز الأمن وعناصر مدنية ، إضافة لقائد الحرس الرئاسي، بتهمة الضلوع في انقلاب عسكري.
ثم المهمة الصعبة التي قامت بها تلك الأذرع في عمليات نزع السلاح، خاصة من القبائل والأجنحة المسلحة للأحزاب، والعمل على تصفية تلك الأحزاب، وتقليم أظافرها، ومن ثم إضعافها لصالح الحزب الحاكم، عن طريق عمليات التجسس والاندساس بداخلها، وأحيانا من خلال القبضة الأمنية بالاعتقال المباشر لكوادرها.
تلك الأجهزة تمثل قلعة النظام الحصينة، ويصعب معها تحقيق أي درجة من التوازي والتوازن، بين فكرة وجود قوة حقيقية من خارج إطار النظام تستطيع حلحلة وفك الجدار الأمني القائم، مع توجه التشديد والتوسيع الذي لوح به البشير مفوضا أذرعه لإحكام القبضة على البلاد، بعد أن تعلم الدرس من سقوط أنظمة الربيع العربي في دول الجوار، ووجود اعتبارات أخرى ليست منفصلة عن الواقع الخارجي، تتمحور كلها في بوتقة رسم مستقبل السودان حكومة وشعبا.