مطالب أممية بتوحيد الموازنة.. هل تنجح ليبيا في تحريك عجلة اقتصادها الهامد؟

"شهدت عائدات النفط الليبية لعام 2024 تراجعا بنسبة 23 بالمئة"
فرض غياب موازنة موحدة في ليبيا واقعا اقتصاديا معقدا، خاصة في ظل عدم الاستقرار المالي نتيجة الانقسام السياسي المستمر، ما دفع البعثة الأممية لدعوة السلطات المعنية إلى العمل من أجل التوصل إلى اتفاق بشأن موازنة موحدة.
وطالبت البعثة في 5 فبراير/ شباط 2025، بضرورة "وجود موازنة شفافة وعادلة لتعزيز المسؤولية المالية، وتحسين تخصيص العائدات، وضمان الاستقرار الاقتصادي في ليبيا"، مشيرة إلى أنها "ستعزز قدرة مصرف ليبيا المركزي على تنفيذ سياسات نقدية فعالة واستقرار سعر الصرف".
وجاءت دعوة البعثة عقب بيان صادر عن المصرف المركزي الليبي، بعد اجتماعه الأول لعام 2025 بمدينة درنة، والذي انتهى إلى الاتفاق على "التواصل مع الجهات ذات العلاقة لإقرار موازنة موحدة لعام 2025، وفقا لقانون يصدر من مجلس النواب وتطبيق إصلاحات في سياسات الإنفاق العام…".
علما بأن هذه الدعوات لتوحيد موازنة البلاد ليست الأولى من نوعها؛ إذ سبقتها مطالبات عديدة من قبل صندوق النقد الدولي لضرورة اتخاذ هذه الخطوة، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعرفها البلاد والتي انعكست على الوضع العام بالمزيد من شح السيولة بالمصارف وارتفاع الأسعار وتراجع قيمة العملة المحلية.
وتأثرت المؤسسات المصرفية بالانقسام السياسي في ليبيا، فانقسمت إدارتها لعدة سنوات، قبل أن يواجه المصرف المركزي خلافات حادة بين أطراف الصراع حول منصب المحافظ، خلال أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 2024، ثم جرى الاتفاق على تعيين محافظ جديد وتشكيل إدارة موحدة للمصرف.

صعوبة التوحيد
وعلى الرغم من الضرورة الاقتصادية لتوحيد الميزانية إلا أن فرص التوصل إلى اتفاق بشأنها تظل مستبعدة خاصة في ظل وجود حكومتين؛ إحداهما في غرب البلاد برئاسة عبد الحميد الدبيبة وهي المعترف بها دوليا، والثانية تسيطر على شرق وبعض مناطق جنوب البلاد برئاسة أسامة حماد.
كما أن الانقسام الحكومي الراهن وتوابعه يجعل مسألة ضبط الإيرادات والنفقات ضمن موازنة موحدة صعب المنال، فعلى سبيل المثال وجود خلافات متكررة حول بند التنمية، في وقت تتبنى فيه الحكومتان مشاريع تنموية ضخمة سميت في غرب البلاد بـ"عودة الحياة"، وفي شرقها بـ"إعادة الإعمار".
وبحسب أستاذ الاقتصاد بجامعة بنغازي، علي الشريف، فإن توحيد الموازنة العامة لا يأتي إلا في ظل حل سياسي واقعي يجمع الحكومات المتشتتة. مشيرا إلى أن الحلول التي تجرى الآن ليست حلولا منطقية، ولا يمكن أن تؤدي إلى نتيجة في ظل وجود حكومتين.
وأضاف الشريف، لـ"الاستقلال"، أن وجود حكومتين يؤدي إلى وجود مراكز كثيرة تتجاوز الـ 50 أو 60 مركزا بحسب الوزارات والهيئات التابعة لهذه الحكومات، وبالتالي يكون هناك تضخم كبير جدا وتورم في الموازنة العامة، ما يؤدي إلى ضعف الاستدامة المالية خاصة مع انخفاض أسعار النفط وعدم قدرة إيرادات الطاقة على تغطية النفقات العامة في ليبيا".
وشهدت عائدات النفط الليبية لعام 2024 تراجعا بنسبة 23 بالمئة لتصل إلى 76.7 مليار دينار ليبي (15.5 مليار دولار)، مقارنة بـ 99.1 مليار دينار (20.45 مليار دولار) في 2023، وهو ما أدى إلى وصول العجز المالي إلى 0.3 مليار دينار (61.6 مليون دولار).
وتكبّدت ليبيا خسائر بأكثر من 100 مليار دولار بين منتصف عام 2013 وحتى نهاية 2016، مع تعطل صادرات النفط نتيجة الاشتباكات التي دارت في البلاد خلال تلك الفترة؛ إذ تعتمد ليبيا على إيرادات النفط في تمويل 95 بالمئة من موازنة البلاد.
بدوره، يرى الخبير الاقتصادي علي منصور الصلح، أن الموازنة العامة التي تعبر عن الخطة المالية السنوية للدولة من غير المنطقي أن يوازيها موازنة مالية مكررة للقطاعات التنفيذية في بلد واحد، مشيرا إلى أن تكرر بنود النفقات العامة يؤدي إلى مضاعفة النفقات خاصة البنود الاستهلاكية.
وقال لـ"الاستقلال": إن هذا النهج يدفع النفقات الاستهلاكية لتتخطى الناتج الإجمالي، مما يتسبب في مشاكل اقتصادية من أهمها التضخم، فضلا عن ممارسة الهيمنة المالية الحكومية على استقلالية البنك المركزي، مشددا على أن تلك المعطيات تتطلب ضرورة توحيد الموازنة لضمان استقرار الدولة.
وبلغ الإنفاق العام في ليبيا خلال عام 2024 حوالي 123.2 مليار دينار (25.4 مليار دولار)، تم توجيه أغلبه لتغطية رواتب القطاع العام التي بلغت 67.6 مليار دينار (13.94 مليار دولار)، كما خُصصت 16.1 مليار دينار (3.32 مليارات دولار) لدعم السلع والخدمات الأساسية، فيما حازت مشروعات التنمية على 22 مليار دينار (4.54 مليارات دولار).
استقرار الدينار
ويرى خبراء أن التوافق على موازنة موحدة لن ينعكس فقط على أداء الميزانية بل سيشمل جوانب اقتصادية أخرى، إذ إن غياب الموازنة الموحدة يؤدي أيضا إلى زيادة حالة عدم اليقين في الأسواق المالية، ويتسبب في تعميق أزمة السيولة في المصارف.
وأوضح الشريف أن وجود أكثر من موازنة داخل البلاد نال أيضا سعر صرف الدينار الليبي، مشيرا إلى وجود كتلة نقدية كبيرة جدا في الوقت الحالي تدور في السوق تتجاوز الـ 160 مليار دينار، وتلاحق تقريبا ما بين 20 إلى 22 مليار دولار الممثلة في إيرادات الدولة من النفط سنويا.
ولفت أستاذ الاقتصاد بجامعة بنغازي إلى أن عدم توحيد الموازنة خلف مشكلة سعر صرف العملة المحلية، وهو ما دفع المصرف المركزي في عام 2021 إلى تخفيض قيمة الدينار، مشيرا إلى أنه على الرغم من ذلك لا يزال سعر الصرف غير مستقر، فضلا عن وجود سوق موازية تعلو السعر الرسمي.
ويبلغ سعر صرف الدينار الليبي أمام الدولار في السوق الموازية نحو 6.53 دنانير، في حين يبلغ متوسط سعر الدينار في مصرف ليبيا المركزي 4.87 دنانير للدولار الواحد.
ومن المتوقع أن يسهم توحيد الموازنة في استقرار سعر الصرف الدينار الليبي؛ إذ سيحد من الضغوط على الاحتياطات النقدية للدولة، كما سيتيح رؤية مالية واضحة تساعد في تعزيز ثقة المستثمرين وتشجع على تدفق الاستثمارات إلى مختلف القطاعات، مما يسهم في تحريك عجلة الاقتصاد.
من جهته، رأى الصلح أن توحيد أوجه الإنفاق وتحديد النسب الموزعة وفق ظروف الاقتصاد المحلي، سيسهم في قيام البنك المركزي بمهامه الأساسية وفقا لحجم الإنفاق المعتمد، كما سيساعد في معالجة الركود الاقتصادي ومحاربة الفساد، بجانب تسهيل عمليات الرقابة المالية والإدارية.
وأوضح الخبير الاقتصادي، أن اعتماد موازنة موحدة من شأنه معرفة عناصر الطلب الكلي وتحديد حجمها، ويسهم في سهولة تحديد سعر الصرف الحقيقي للعملة المحلية، ومن ثم تعزيز دور السياسة النقدية لتصبح أكثر فاعلية وقدرة على ضبط معدلات الفائدة، الأمر الذي يمنح المستثمرين مزيدا من الثقة ويعزز النمو الاقتصادي.
وكان البنك الدولي قد توقع أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي في ليبيا بنسبة 2.7 بالمئة في عام 2024، وذلك نتيجة الاضطرابات التي شهدتها البلاد والتي أثرت سلبا في إنتاج النفط محليا.
إصلاحات لازمة
ويرتهن نجاح توحيد الموازنة بتنفيذ حزمة سياسات اقتصادية مصاحبة لها، تشمل تحسين إدارة الإنفاق العام، وتعزيز الشفافية في توزيع الموارد.
فضلا عن إصلاح القطاع المصرفي، وتطوير البنية التحتية لدعم بيئة استثمارية جاذبة، بالإضافة إلى ضرورة دعم المؤسسات الرقابية لضمان عدم استغلال الموارد المالية بشكل غير قانوني.
ويرى الشريف، أن توحيد الموازنة يجب أن يصاحبه تشكيل حكومة موحدة تكنوقراط، بجانب العمل على بحث سبل تقليص النفقات، وتوسيع قاعدة الإيرادات العامة -التي تشكل مداخيل النفط نحو 98 بالمئة منها- وذلك من خلال إيجاد آلية لجباية الضرائب بشكل صحيح من الاقتصاد غير الرسمي الذي يشكل 70 بالمئة من الاقتصاد الليبي.
ولفت الشريف كذلك إلى ضرورة فرض رسوم جمركية بشكل صحيح على السلع الكمالية، مشيرا إلى أنه خلال 2024 تم إصدار اعتمادات مستندية بقيمة 11 مليار دولار لم يتم تنفيذ سوى 250 إلى 300 مليون دولار منها، وهو ما يعكس مدى الفساد الكبير في الموانئ والمنافذ المسؤولة عن تلك الرسوم.
وبلغ إجمالي حجم الإيرادات العامة في ليبيا لعام 2024 حوالي 123.5 مليار دينار (نحو 25 مليار دولار)، في حين تصدرت مبيعات النفط إيرادات البلاد بواقع 77 مليار دينار (15.5 مليار دولار) وبينما بلغت الإتاوات النفطية 13.1 مليار دينار (2.6 مليار دولار)، بحسب بيانات البنك المركزي في ليبيا.
من جانبه، أكد الصلح على أن من أهم السياسات الاقتصادية التي يجب أن يتم اتباعها بجانب توحيد الموازنة، هو تحويلها إلى موازنة أهداف وبرامج، وذلك من خلال تحديد حجم أمثل للنفقات العامة، وخلق وعاء ضريبي ناضج، وتصحيح الأسعار، بجانب تعديل برامج الدعم خاصة المحروقات.
كما طالب بضرورة تناغم السياسة المالية مع السياسة النقدية والتجارية، وذلك بغرض المحافظة على معدلات التضخم والنمو الاقتصادي.