دولة جلها من الأجانب.. لماذا جعلت الإمارات الزي واللهجة حقا حصريا لمواطنيها؟

يوجد حوالي أكثر من 200 جنسية تقيم وتعمل في دولة الإمارات
في قرارٍ يعكس التناقض بين خطاب الانفتاح الثقافي والممارسة الفعلية، اختارت الإمارات أن تضع حدودا صارمة بشأن من يحقّ له ارتداء زيّها الوطني أو التحدث بلهجتها المحلية على وسائل الإعلام.
وبينما تُروّج الدولة لنفسها كنموذج للتسامح والتعدد، يكشف هذا القرار عن نزعة إقصائية تجاه المقيمين الذين يشكّلون الغالبية الساحقة من السكان، ويعيد طرح أسئلة حول مفهوم الهوية والانتماء في مجتمع متعدد الجنسيات.
وأصدرت الإمارات تعميما رسميا يقضي بحصر استخدام اللهجة المحلية، والزي الوطني، في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي والإعلانات، على المواطنين الإماراتيين فقط.
وبموجب القرار الذي صدر في 20 أبريل/ نيسان 2025، يمنع على المقيمين استخدام اللهجة المحلية أو الظهور بالزي الإماراتي إعلاميا.
وأثار القرار جدلا في وقت تسوّق فيه الدولة الخليجية نفسها بوصفها نموذجا عالميا للتسامح والانفتاح والتعدد الثقافي.
فما الذي يدفع دولة تستضيف أكثر من 85 بالمئة من الأجانب إلى تقييد مظاهر التفاعل مع ثقافتها؟ ولماذا تخشى محاكاة لهجتها وزيها؟
وكيف يمكن فهم هذا القرار في ظل المبادئ العالمية لحقوق الإنسان التي تكفل حرية التعبير، وحق الأفراد في اختيار مظهرهم وطريقتهم في التواصل؟
سبب المنع
بحسب الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الإماراتية، يوجد حوالي أكثر من 200 جنسية تقيم وتعمل في دولة الإمارات.
كما أن عدد الوافدين والمقيمين في دولة الإمارات يتجاوز عدد سكانها من المواطنين.
ويقدر عدد سكان الإمارات خلال العام 2025 بحوالي 11.4 مليون نسمة، معظمهم من الوافدين.
ومع هذا العدد الضخم، يحول القرار الجديد، بحصر استخدام الزي الوطني واللهجة على المواطنين الإماراتيين فقط، دون اندماجهم وحريتهم.
وأوضح التعميم الذي أصدره رئيس المكتب الوطني للإعلام ورئيس مجلس الإمارات للإعلام عبد الله آل حامد، أن سبب القرار الجدلي هو "الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز الهوية الوطنية".
وأكَّد آل حامد أن "القرار لا يهدف إلى تقييد استخدام الزي، بل إلى ضمان تمثيله بأصالة وصدق".
ونص القرار على ضرورة أن يكون من يرتدي الزي الوطني، سواء الكندورة والغترة للرجال أو العباءة والشيلة للنساء، في المحتوى الإعلاني مواطنا إماراتيا، ليعكس الروح الأصيلة للتراث الإماراتي.

تفاعل واعتراض
وقال آل حامد، في تدوينة له على منصة “إكس”: إن "الزي الوطني الإماراتي ليس مجرد مظهر خارجي، بل هو تعبير حي عن منظومة متكاملة من القيم والانتماء، فهو عنوان لهوية وطنية راسخة، تمتد جذورها في عمق التاريخ".
ورأى أن "ارتداء هذا الزي هو إعلان فخر، ورسالة اعتزاز بالتراث، وتجسيد حي لوطن يحتفي بأصالته وهو يتطلع بثقة نحو المستقبل".
وتفاعل حساب باسم "البيروتي" معترضا على القرار بالقول: “بعد حظر اللهجة الإماراتية على غير الإماراتيين.. هل لو طفل تربى مع بعض المواطنين وتعلم منهم اللغة ستعاقبونه في صغره و إن كبر أيضا؟”
وتساءل: “هل هناك عدد كلمات لو تكلمها أحد يصبح مدانا أم هناك مقياس آخر؟ قد تختلف بعض الكلمات من إمارة الى إمارة، هل لو استخدمت كلمة من كل إمارة عُدّ مخالفا أيضا؟”
وعقب: “هل لو صادفت إماراتي، وأنا أكلمه ولم يفهم معنى كلمتي بلهجتي وترجمتها له بلهجته عد بذلك مخالفا؟”
فيما أيدت الإعلامية الإماراتية بسمة الجندلي القرار قائلة: “يلبسون الزي الإماراتي بشكل غير صحيح ويتحدثون اللهجة الإماراتية بطريقة لا تَمُتّ لها بصلة”.
وأردفت: "الأدهى من هذا يضعون علم الإمارات في البايو ومنهم من هو دون المستوى الأخلاقي ويسيؤون للدولة التي هي ومواطنيها أسمى من هذه الأمور.. خطوة مطلوب تطبيقها ليقف كل شخص عند حده".
ترسيم الفوارق
وهذا القرار لا يندرج فقط ضمن جهود حماية الهوية كما أعلن، بل يكشف عن ذهنية إقصائية تتعامل مع الثقافة بوصفها امتيازا حصريا للمواطنين، وفق ما يرى أستاذ علم الاجتماع المصري د. محمد غبور.
وقال غبور لـ"الاستقلال": إن القرار لا يتعامل مع الثقافة بوصفها موروثا حيا يمكن التفاعل معه من قِبَل كل من يعيش على أرض الإمارات.
ولفت إلى أن وضع خطوط حمراء حول من يسمح له بارتداء الزي أو التحدث باللهجة لا يعكس فقط انفصالا عن واقع التنوع الذي يعيشه العالم في هذا القرن، بل يجسّد محاولة لصياغة هوية نخبوية مصطنعة تستبعد مكونات بشرية أساسية أسهمت في بناء دولة حديثة كالإمارات.
وذكر أن هذا القرار يتجلى كجزء من منظومة أوسع من سياسات الهوية التي تمارسها الدولة، والتي تعرف باسم الهندسة الاجتماعية.
وهي مقاربة تهدف إلى إعادة تشكيل الفضاء العام من خلال التحكم في الرموز والمظاهر والسلوكيات اليومية، بما يخدم رواية الدولة الرسمية حول من يحقّ له تمثيل الذات الوطنية.
وحذر غبور من أنه في هذا السياق، يتحول الزي واللهجة الوطنية من كونهما رمزا جامعا إلى أداة لترسيم الفوارق بين "المواطن" و"الوافد"، و"الأصيل" و"الدخيل".
وهو منطق بالغ الخطورة في دولة يشكل المقيمون غالبية سكانها، ويتكئون على تاريخ طويل من التفاعل والمشاركة المجتمعية، وفق تعبيره.
وبيّن أن هذا القرار ليس معزولا عن سياسات سابقة، مثل فرض ضوابط صارمة على توظيف الرموز الوطنية.
وتابع: “هذه كلها مؤشرات على نزعة احتكار ثقافي تتنافى مع صورة التسامح والانفتاح التي تسعى أبوظبي إلى تصديرها للعالم".

الهوية والمجتمع
وأزمة الإمارات المزمنة مع الهوية الوطنية لمواطنيها، والعقد الاجتماعي للمقيمين ليست جديدة، وقد رصدتها مجموعة من مراكز الأبحاث سابقا، منها مركز "مالكوم - كير كارنيغي" لدراسات الشرق الأوسط.
وقال المركز خلال تقرير في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022: إن العقد الاجتماعي في الإمارات يشهد تحولات مقلقة في أعقاب ثورات الربيع العربي وما حملته من آمال لصياغة مستقبل مرحلة ما بعد النفط.
وأردف أن “الإمارات تعد دولة مهجر، إلا أن مسألة الخلل الديموغرافي لا تزال تثير الجدل حول تأثير التنوع السكاني، الناتج عن وجود أغلبية من المغتربين، على الثقافة والهوية الوطنية”.
وبما أن حدة الجدل حول الهوية الوطنية عادة ما تتصاعد أثناء فترات التقشف الاقتصادي، فلم يكن من قبيل المصادفة أن يسمى 2008 بعام الهوية الوطنية في الإمارات.
وأضاف المركز: شهدت السنوات العشر التي تلت ذلك العام تحول هذا المصطلح إلى كلمة طنانة أثناء حملة وطنية تمكنت من تعريف وترسيخ مفهوم واضح ومتماسك للهوية الوطنية يتخطّى قيود الانتماءات القبلية وينطلق إلى مجتمع تحتل فيه إماراتية المواطن مركز الصدارة.
ومع ذلك يبدو اليوم أن هذه النسخة من الهوية الوطنية قد استنفدت فائدتها بإعادة تشكيل الدولة والمجتمع في مرحلة ما بعد الربيع العربي، بحسب "كارنيغي".

سؤال جوهري
ويتساءل الباحث السياسي محمد ماهر: "هل يكون منع غير المواطنين من استخدام اللهجة المحلية هو السبيل الأمثل لصونها؟"
وأضاف لـ "الاستقلال": “الواقع أن أي عنصر ثقافي لا يكتسب قيمته من الحظر، بل من الانتشار والتفاعل”.
وأردف أن اللهجة، كأداة تعبير ووجدان، تزداد حيوية كلما تحولت إلى جسر للتواصل، وكلما تبناها الآخرون بإعجاب لا ازدراء".
ورأى أنه "في تجارب عديدة حول العالم، ينظر إلى استخدام الأجانب للهجات المحلية بوصفه علامة احترام ثقافي لا تهديدا للهوية، فاللهجة المصرية، على سبيل المثال، لم تفقد حضورها بفعل الاستخدام الواسع".
واستطرد: "بل تحوَّلت إلى رمز عربي جامع بفضل انفتاحها على الجميع، ما عزز من مكانة مصر الثقافية والإعلامية، وكانت أداة قوة ناعمة رهيبة للدولة المصرية".
وبالمثل، كثير من الفنانين والمبدعين العرب، من غير السوريين واللبنانيين، يستخدمون تلك اللهجات في أعمالهم، لما تحمله من خفة وجاذبية وسلاسة، دون أن ينظر لذلك كاعتداء ثقافي، بحسب الباحث السياسي.
وتابع: لماذا تختار الإمارات السير عكس هذا الاتجاه؟ أليس في حظر اللهجة والزي عن المقيمين تفريطا في فرصة لتعزيز الهوية بدلا من تقزيمها؟ وهل تصبح الثقافة أقوى بالمنع أم بالاحتواء؟
ووصف القرار بأنه “غريب” ولا تجده في أي دولة بالعالم، مبينا أنه “على العكس هناك دول تستاء من عدم استخدام لغتها الأم مثل ألمانيا وتركيا، فهم يعدون ذلك دليلا على الاغتراب وعدم الرغبة في الاندماج”.
المصادر
- الإمارات تحظر على غير الإماراتيين التحدث باللهجة الإماراتية في الإعلام اقرأ المزيد: https://www.aljarida.com/article/95571
- حصر الزي واللهجة على الإماراتيين.. مما تخشى “دولة التسامح”؟
- الإمارات تحظر على غير مواطنيها التحدث بلهجتها على وسائل الإعلام
- الإمارات بين الهوية القومية والعقد الاجتماعي
- عدد سكان الإمارات 2025 | أحدث إحصائية رسمية