عيد “حانوكا” اليهودي في الإليزيه.. لماذا لا تتشدد فرنسا إلا مع المسلمين؟
في 7 ديسمبر/كانون الأول 2023 احتفل اليهود في إسرائيل والعالم بـ"عيد الأنوار" (حانوكا)، لكن المفاجأة كانت احتفال فرنسا الرسمية بهذا العيد داخل قصر الرئاسة (الإليزيه) رمز العلمانية في البلاد، مخالفة بذلك قيمها الجمهورية اللادينية.
وتقريبا غالبية الاحتفالات في العالم ألغيت، إلا في باريس وأبوظبي وأميركا وأوكرانيا، لذا أثارت استضافة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاحتفال بهذا العيد اليهودي وسط حشد من الشخصيات جدلا حول مصير العلمانية ومكانتها في الدولة الفرنسية.
فرنسيون من التوجهات السياسية والدينية انتقدوا ما فعله ماكرون وعدوه خرقا لمبادئ العلمانية، ومجاملة لإسرائيل ضمن حملة التضامن الغربية العنصرية معها رغم مجازرها على قطاع غزة.
مسلمون وعرب انتقدوا الازدواجية الدينية في فرنسا، التي تتشدد مع المسلمين لحد تفصيل قانون خصيصا لهم يقيد حريتهم الدينية بدعوى مخالفتهم لمبادئ العلمانية وإغلاق المساجد وطرد الأئمة.
ولكنها تتصرف بشكل مختلف مع اليهود ضمن "حالة التعاطف المشبوهة" من جانب الحكومات في الغرب مع إسرائيل ودعم عدوانها في غزة.
وكان الأمر الغريب، أنه بعد اتهام القوى السياسية الفرنسية له بخيانة العلمانية، أن ماكرون قال للصحفيين خلال زيارة لكاتدرائية نوتردام بباريس في 8 ديسمبر 2023 إنه غير نادم على تقديمه "لفتة دينية" لليهود، قائلا إن المشاركة في احتفال ديني "لا يعني عدم احترام العلمانية".
لكن الأكثر غرابة أنه قال إن "العلمانية لا تهدف إلى محو الأديان"، بحسب وكالة "رويترز" البريطانية في 8 ديسمبر 2023، وهو تعريف مختلف لها عما يراه الفرنسيون، ويتعارض مع ما يفرضه من قيود على مسلمي فرنسا.
ماذا جرى؟
وأقدم ماكرون في 7 ديسمبر 2023 على انتهاك مبدأ العلمانية الفرنسية الذي يمنع ارتباط الدولة بأي دين، عبر استضافة احتفال بعيد يهودي في قصر الإليزيه.
وترأس الحفل، الحاخام الأكبر لفرنسا حاييم كورسيا، الذي أشعل أول شمعة (شمعة واحدة لكل ليلة من ليالي حانوكا الثمانية)، في قاعة الاستقبال بالقصر.
وقال إن إشعال الشموع "تخليدا لذكرى الإسرائيليين" الذين قُتلوا خلال عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ولأول مرة داخل القصر الرئاسي، أطلق الحاخامات اليهود أغانيهم، وقاموا بصلوات قصيرة، ما أثار غضب مختلف الأطياف السياسية في فرنسا لمخالفة قانون 1905 الذي يُعد النص التأسيسي للعلمانية في البلاد.
وغنى الحاضرون الأغنية العبرية التقليدية "ماعوز تسور"، بينما كان ماكرون يتابع ويبتسم رفقة زوجته بريغيت ماكرون.
ويعد "عيد حانوكا" من أهم الأعياد في التاريخ اليهودي حيث يحيي ذكرى استيلاء مجموعة من اليهود على الهيكل في القدس وانتصارهم على الإغريق في القرن الثاني لما قبل الميلاد، وإشعال الشموع لمدة 8 أيام كأيام للفرح وتناول أطعمة معينة.
ويقول اليهود إن عيد حانوكا (الأنوار)، وهي كلمة تعني بالعبرية "تدشين"، يرمز إلى انتصارهم (المكابيين) على اليونانيين الذين كانوا يحتلون فلسطين ومصر والشام سنة 165 ق.م، وقد حاولوا ربطه هذا العام بمزاعم انتصارهم على حماس في غزة.
وينص قانون العلمانية، الذي صدر في 9 ديسمبر 1905، والذي يفصل بين الكنائس والدولة في فرنسا، على أن "الجمهورية لا تعترف بأي دين أو تستخدمه أو تدعمه".
ويُعتقد أن ماكرون حاول تعويض عدم حضوره مسيرة لدعم اليهود يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 لإدانة "تصاعد الأعمال المعادية للسامية" في فرنسا بعد هجوم حماس على إسرائيل والذي أغضب اليهود منه، باستضافة عيد حانوكا.
حيث ذهب العديد من الشخصيات إلى انتقاده، عادّين ما فعله "محاولة لتعويض عدم مشاركته في المسيرة ضد معاداة السامية"، التي أقيمت في باريس بدعوة من رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب، ما عرضه حينها لسيل من الانتقادات.
لكن عمدة مدينة كان، ديفيد ليسنار، انتقده قائلا: "كيف يرفض المشاركة في مسيرة ضد معاداة السامية على أسس متناقضة وخاطئة لحماية الوحدة الوطنية، ثم يحتفل بعطلة دينية في مقر الرئاسة؟"
والغريب أن موقع "فرنس توداي" أكد في 6 ديسمبر 2023 أنه يتم الاحتفال بعيد حانوكا في فرنسا "بطريقة سرية إلى حد ما، وقد لا يعرف الكثير من الفرنسيين يوم حانوكا لأنه يتغير كل عام" رغم وجود حوالي 480 ألف يهودي في فرنسا.
أشار إلى أنه "ما لم تكن في حي يهودي، فإن الاحتفال بعيد حانوكا يكون متحفظا إلى حد ما، وقد لا يعرف الكثير من الفرنسيين ما هو يوم حانوكا"، وهو ما يثير الاستغراب بشأن استضافة الإليزيه لهذا العيد المجهول لدي الفرنسيين أنفسهم.
وبينا كانت فرنسا تحتفل بعيد حانوكا، وعد ماكرون ذلك لفتة للإسرائيليين، قام 18 من حاخامات يهود أميركا الرافضين للصهيونية، بالاحتفال بهذا العيد، بتقييد أنفسهم إلى بوابات البيت الأبيض مطالبين الرئيس الأميركي بايدن بوقف تمويل وتسليح الإبادة الجماعية في غزة.
BREAKING: Hours before the annual White House Hanukkah party, 18 Jewish elders chain themselves to the White House gates demanding @POTUS stop funding and arming the genocide in Gaza.
Follow @JewishElders for more pic.twitter.com/OmA5bNO9PX— Jewish Voice for Peace (@jvplive) December 11, 2023
خرق للعلمانية
صحيفة "لوموند" قالت إن مشهد الاحتفال بـ "حانوكا" في قصر الإليزيه، بحضور الرئيس الفرنسي، وأعضاء مؤتمر حاخامات أوروبا جاء قبل يومين من حلول الذكرى السنوية لقانون 1905 الذي يفصل بين الكنيسة والدولة.
وأكدت في 8 ديسمبر 2023 أن الاحتفال بعيد يهودي وقبل يومين من الذكرى 118 لقانون 1905 الفرنسي العلماني، أغضب الفرنسيين كافة لأنهم رأوا أن ما فعله ماكرون انتهاك واضح للمبدأ الصارم المتمثل في علمانية فرنسا، ومن جانب أعلى منصب في الجمهورية.
وغرد زعيم اليسار الراديكالي جان ليك ميلانشون، على حسابه على تويتر قائلا: "من القداس في مرسيليا، إلى حانوكا في الإليزيه، ماكرون يظهر أنه لا يفهم العلمانية"، في إشارة إلى حضور الرئيس القداس الذي احتفل به البابا عام 2018 .
وقال ميكايل دولافوس، رئيس بلدية مدينة مونبلييه المنتمي إلى الحزب الاشتراكي، إن "فرنسا جمهورية علمانية وقصر الإليزيه، كما القصور البلدية ليست المكان المناسب من أجل الاحتفال بالمناسبات الدينية".
أيضا سخر النائب عن حزب "فرنسا الأبية"، أدريان كانتنيس من أن قصر الإليزيه "تحول مكانا للعبادة، فهل سيقام فيه يوم الأحد قداسا باللغة اللاتينية؟ أين هي العلمانية في ذلك؟"
وهاجمت النائبة عن حزب "فرنسا الأبية" إرسيليا سوديس، الرئيس الفرنسي بالقول إن "ماكرون متورط مرة أخرى في مهاجمة العلمانية"، مضيفة "بدلا من إقامة قداس في الإليزيه، اصرخوا بصوت عال وواضح: وقف فوري لإطلاق النار".
أيضا انتقد نائب رئيس الجمهوريين جوليان أوبير في تغريدة على تويتر ما فعله ماكرون قائلا: "إن دور الرئيس في دولة علمانية يقتصر على الدفاع عن المواطنين الإسرائيليين ضد الهجمات، وليس الاحتفال بدينهم في الإليزيه"!!.
وتساءل: "هل يمكننا تخيل قداس عيد الميلاد أو عيدي الأضحى أو الفطر في الإليزيه؟"
وانتقدت الإعلامية خديجة بن قنه حضور ماكرون هذا الاحتفال، وتساءلت: هل سينظم قصرُ الإليزيه احتفالات بعيد الفطر وعيد الأضحى وعيد الفصح وعيد النيروز والسنة الصينية وعيد بوذا والهندوس وأعياد كل الأديان".
في أحد أهمّ وأعرق معاقل العلمانية في العالم.. في فرنسا.. في داخل قصر الإليزي.. وبحضور الرئيس ماكرون, ينظَم احتفالٌ بعيد حانوكا أو الأنوار ..
فهل سينظم قصرُ الإليزيه احتفالات بعيد الفطر وعيد الأضحى وعيد الفصح وعيد النيروز والسنة الصينية وعيد بوذا والهندوس وأعياد كل الأديان… pic.twitter.com/8556hVujSq— خديجة بن قنة khadija Benganna (@Benguennak) December 8, 2023
وكانت الانتقادات لماكرون جاءت أيضا من داخل البيت اليهودي نفسه، حيث قال رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، جوناتان عارفي، لـ"سود راديو" في 8 ديسمبر 2023، إن ما قام به ماكرون "يعد خطأ".
وأوضح أن الإليزيه "ليس المكان الذي تضاء فيه شمعة حانوكا لأن الحمض النووي للجمهورية هي أن تبقى بعيدة عن كل ما هو ديني"، بحسب وصفه.
وقال إن "الفرنسيين اليهود عدوا دوما أن مبدأ العلمانية يوفّر الحماية ويحمي الحرية، وكل ما يضعف العلمانية سيضعف يهود فرنسا!!".
BREAKING: Hours before the annual White House Hanukkah party, 18 Jewish elders chain themselves to the White House gates demanding @POTUS stop funding and arming the genocide in Gaza.
Follow @JewishElders for more pic.twitter.com/OmA5bNO9PX— Jewish Voice for Peace (@jvplive) December 11, 2023
وفي تغريدة طويلة على تويتر، كتبت عضو مجلس الشيوخ، أستير بنبيسا، تنتقد مشاركة الحاخام الأكبر "في احتفالية كهذه، وفي مكان كهذا".
وقالت إن "اليهود يتلاعبون بالسلطة ويحركونها بين أيديهم، وهو (ماكرون) بذلك يدفع اليهود إلى وضع صعب وفي سياق لم يكن يحتاج لشيء كهذا".
دعم لليهود
بينما ندد الفرنسيون بخطأ رئيس الدولة السياسي، قال ماكرون، لتبرير ما فعله إن تقديمه "لفتة دينية" أو المشاركة في احتفال "لا يعني عدم احترام العلمانية".
وقال إنه "ليس نادما على الإطلاق" على هذه الحادثة، ولن "يستسلم للفتنة الدينية"، مقدرا أنه في هذه اللحظة من الضروري "منح الثقة" لليهود الفرنسيين، ولكن أيضا للمسلمين، مع الأخذ في الحسبان سياق الحرب بين إسرائيل وحماس"، وفق قوله.
وحاول بعض أنصار الرئيس الفرنسي الدفاع عنه مثل وزير الداخلية جيرالد دارمانان الذي قال إن "العلمانية ليست إنكار الأديان، لقد رافقت الرئيس إلى المساجد والمعابد اليهودية والكنائس عدة مرات".
وأضاف دارمانان "أثناء هذا العيد اليهودي المهم وفي وقت يعاني فيه مواطنونا اليهود من أعمال معادية للسامية ويتعرض فيه الحاخامات ودور العبادة اليهودية للاعتداء، أرى أنه من الطبيعي أن يصطف رئيس الجمهورية إلى جانب مواطنيه التابعين لهذه الديانة".
ورأت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، بدورها أن الاحتفال كان بمثابة "إشارة" دعم أرسلها الرئيس إلى الطائفة اليهودية في مواجهة "تصاعد معاداة السامية"، رافضة أي جدل حول الابتعاد عن مبدأ العلمانية.
أيضا قال مدافعون عن ماكرون كان يتلقى في الاحتفال جائزة اللورد جاكوبوفيتس التي منحها له مؤتمر الحاخامات الأوروبيين وهو منظمة يهودية مهمتها محاربة معاداة السامية والدفاع عن الحريات الدينية ثم تم إشعال الشمعدان اليهودي، أي أنه لم يكن احتفالا بالعيد.
وكان العديد من يهود العالم ألغوا الاحتفال بسبب تصاعد الغضب الشعبي في العديد من البلدان في الشرق والغرب.
وقام أعضاء الجالية اليهودية الصغيرة في القاهرة الذين احتفلوا العام الماضي 2022 لأول مرة بالعيد في معبد جديد، بإلغاء الاحتفال بـ"حانوكا" هذا العام، بحسب إذاعة "ريشت بيت"، ونقله عنها موقع " i24NEWS" الإسرائيلي في 10 ديسمبر 2023.
ونقلت القناة عن أحد أفراد الجالية اليهودية قوله: "لا أحد منعنا من الاحتفال، لكن المزاج العام في القاهرة سيئ للغاية بسبب الحرب".
وزعم أن "معاداة السامية تتصاعد في كل مكان"، في إشارة لكراهية الشعب المصرية للصهاينة خاصة بعد عدوان غزة.
وكانت سفيرة إسرائيل بالقاهرة أميرة أورون قالت عبر تويتر 21 ديسمبر 2022 إنهم احتفلوا بعيد حانوكا (عيد الأنوار) في كنيس "مئير بيطون" في حي المعادي جنوب القاهرة، حيث يقيم أعضاء السفارة الإسرائيلية وظل معبد عدلي مغلقا.
تمييز ضد المسلمين
رغم أن ماكرون حاول وهو يدافع عن "لفتة" دعمه يهود فرنسا، أن يذكر المسلمين أيضا وهو يتحدث عن "منح الثقة" للأقليات، فقد أثار الاحتفال تساؤلات حول طريقة تعامل حكومته مع مسلمي البلاد، وهم ثاني أكبر أقلية في البلاد وأكثر من اليهود.
مسلمون قارنوا بين مساعي القصر الرئاسي الحديث عن "السياق" لتبرير ما حصل، وقالوا إنه غير مقنع بالنظر لما يفعله ماكرون مع المسلمين بالفعل من قيود، بدعاوى أنهم يخالفون العلمانية بينما هو يمارس ازدواجية فيما يخص هذه العلمانية مع اليهود.
استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "إيفوب فيدوسيال" ونشرت نتائجه في اليوم التالي لاحتفال ماكرون بعيد "حانوكا" اليهودي في قصر الرئاسة أظهر أن 78 بالمئة من المسلمين يرون أن "مبدأ العلمانية يستخدم بشكل تمييزي ضدهم".
الاستطلاع الذي أجرته المؤسسة 8 ديسمبر 2023 بمناسبة حلول "اليوم الوطني للعلمانية" يوم 9 ديسمبر، استهدف معرفة أراء المسلمين من عدة قضايا منها سياسات التمييز ضدهم والعبايات والبرقع، ومكانة الأديان في المدرسة والمجتمع.
قالوا في الاستطلاع "إن العلمانية كما يتم تطبيقها اليوم من قبل السلطات الفرنسية هي تمييزية ضد المسلمين"، وأيد ثلاثة أرباع المسلمين الفرنسيين العودة إلى نظام الاتفاقيات المطبق في فرنسا قبل صدور قانون 1905.
وطالبوا بإلغاء التدابير التي تمنع التعبير عن دينهم بالملابس (الحجاب أو العباية) في الأماكن العامة، ودعوا بأغلبية ساحقة حق الرياضيين الفرنسيين في ارتداء أغطية الرأس الدينية في الألعاب الأولمبية المقبلة في فرنسا (75 بالمئة).
ويقول استطلاع "إيفوب فيدوسيال" إنه رغم مرور ما يقرب من 20 عاما على تطبيق قانون عام 2004 الذي يحظر الرموز الدينية الواضحة في المدارس، لا يزال المسلمون الفرنسيون يعارضون بأغلبية ساحقة.
حيث أيد ثلثهن (65 بالمئة) ارتداء أغطية الرأس ذات الطبيعة الدينية (مثل الحجاب) في المدارس المتوسطة والثانوية العامة، ودعموا بأغلبية ساحقة (75 بالمئة) أشكالا أخرى من مظاهر التدين في الفضاء المدرسي مثل ارتداء الرموز الدينية بمرافقة أولياء الأمور أثناء التدريس.
أو إدخال قوائم طعام ذات طبيعة دينية مثل اللحوم الحلال، والكوشر اليهودي وغيرها لمطاعم المدارس (83 بالمئة).