العودة الصامتة لأميركا في بحر الكاريبي.. هيمنة ناعمة أم عودة صلبة؟

هل يمكن أن يكون الهدف من نشر القوات الأميركية في الكاريبي هو تغيير النظام في فنزويلا
تشهد منطقة الكاريبي تحشيدا عسكريا أميركيا متزايدا، يشمل مدمرات بصواريخ موجهة، وغواصة نووية، ومقاتلات "إف 35"، وأكثر من 6000 جندي.
ويتزامن ذلك مع تصعيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب لحدة المواجهة مع الحكومة الفنزويلية، لا سيما منذ أعلن عن سماحه لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالعمل داخل فنزويلا للحد من التدفقات غير الشرعية للمهاجرين والمخدرات من الدولة الواقعة في أميركا الجنوبية.
وفي هذا السياق، تناول المعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية هذا المشهد بالتحليل، مستعرضا الخلفية التاريخية للسياسات الأمريكية في المنطقة.
وأكد تقرير المعهد أن ما يجري "ليس مناورة عادية"، مشيرا إلى أن الأسطول والطائرات المقاتلة والأقمار الصناعية تظهر أن منطقة الكاريبي عادت في الأشهر الأخيرة إلى دائرة الاهتمام والضغط.

مبدأ مونرو
في مستهل التقرير، يشير المعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية إلى أن "الولايات المتحدة، حين أعلنت في القرن التاسع عشر مبدأ مونرو، لم تُرس مبدأ قانونيا ودبلوماسيا فحسب (ينص على عدم التدخل الأوروبي في نصف الكرة الغربي)، بل أرست كذلك إطارا فكريا يُفسر من خلاله أي تهديد مستقبلي".
وتابع: "ومنذ ذلك الحين، باتت أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي امتدادا للعمق الإستراتيجي الأميركي، ومساحة أمنية يجب أن تبقى فيها التوازنات الداخلية -الاقتصادية والسياسية والعسكرية- متوافقة مع المصالح الأميركية".
مضيفا أن "السياسة الأميركية تجاه المنطقة تأرجحت بين الردع العلني والإدارة الغامضة للأزمات المحلية".
وحسب التقرير، كان "الهدف المستمر منذ ذلك الحين؛ منع القوى المنافسة من إقامة موطئ قدم في هذه المنطقة أو إبراز نفوذها وخدماتها اللوجستية أو الاستخباراتية بالقرب من الأراضي الأميركية".
ولفت إلى أن "الأدوات تغيرت في القرن العشرين، لا سيما خلال الحرب الباردة، لكن بقي المنطق كما هو".
وأردف: "فبدعوى (الاحتواء)، شرعت واشنطن في سلسلة من الممارسات، من بينها دعم الحكومات الصديقة اقتصاديا، والتأثير على النخبة وشن عمليات سرية ضد الحركات القريبة من موسكو، واستخدام النفوذ التجاري والائتمان لتوجيه خيارات الصناعة والطاقة".
"وكان المبدأ الموجِّه لكل هذه التحركات واضحا وممنهجا: وهو عدم السماح لأي طرف معاد بالتمركز سياسيا أو عسكريا على طول الممرات التي تربط خليج المكسيك وقناة بنما والمحيط الأطلسي"، وفق التقرير.
ويشير التقرير إلى أن "التجارب المريرة للحملات البرية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية -من الهند الصينية إلى العمليات اللاحقة- دفعت واشنطن في القرن الحادي والعشرين إلى إعادة هيكلة عميقة لأدواتها".
موضحا: "فبعد عام 2001، وبشكل أوضح منذ العقد الثاني من القرن، تبنت الولايات المتحدة (سياسة تدخلية ناعمة الأدوات)؛ أي تقليل الوجود العسكري المباشر، مقابل تعزيز البنى المالية والقانونية والتكنولوجية".
وبالتالي، صارت العقوبات دقيقة وتدريجية، وأصبح القانون الدولي والتجاري ميدانا للمناورة -ما يسمى بـ الحرب القانونية- لتجميد الأصول، وفرض معايير الامتثال، والتحكم في سلاسل التوريد الحساسة.
وفي هذا السياق، تضافرت عمليات الأميركيين البحرية والجوية بالتعاون مع شركاء إقليميين، وتقديم برامج دعم غير مباشر للقوات المحلية، وجهود استخباراتية متزايدة، تحت دعاوى مكافحة الإرهاب أو المخدرات أو التهريب، وهو ما منح واشنطن القدرة على التحكم دون الظهور بمظهر المحتل، كما أوضح المعهد الإيطالي.

الأزمة الفنزويلية
وبالعودة إلى الواقع الراهن، يرى التقرير أن الأزمة الفنزويلية في السنوات الأخيرة أعادت تفعيل هذا النهج، ولكن بخصوصية مختلفة.
وعزا ذلك إلى أن كاراكاس تقع عند مفترق طرق ثلاثة خطوط احتكاك متداخلة.
أول هذه الخطوط، حسب التقرير، يتعلق بالجانب الطاقوي. لافتا إلى أن "النفط الخام والحقول البحرية وممرات الغاز في المنطقة، في زمن التحول الطاقوي وتقلب الأسواق، بشكل أوراق نفوذ تتجاوز بكثير حجم الاقتصاد الفنزويلي".
وأشار إلى أن "التحكم فيها يعني التحكم في الأسعار، وفي لوجستيات الإمداد، وفي قدرة الحلفاء على تنويع مصادرهم".
وثاني خط احتكاك يتمثل، وفق المعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية، في الجانب الجيوسياسي، إذ ترى روسيا والصين، كل لأسباب مختلفة، أن الفضاء الكاريبي يمثل نافذة رمزية وإستراتيجية.
وأوضح التقرير أن قلق واشنطن لا يستلزم بالضرورة وجود قواعد عسكرية دائمة، ففي عصر الشبكات العالمية، يمكن لميناء تجاري أو كابل بحري أن يصبح عامل نفوذ مهما يضاعف من قوة المنافس.
أما ثالث خطوط الاحتكاك، كما يراها التقرير، يتعلق بالجانب الأمني، حيث إن دعاوى مكافحة الإرهاب توفر غطاء قانونيا وإعلاميا قابلا للاستخدام الفوري المباشر في عمليات المراقبة والاعتراض وتسيير الدوريات وتبادل المعلومات وتنسيق عمل خفر السواحل.
"وهي صيغ تمنح شرعية داخلية وتعاونا إقليميا دون تكلفة سياسية كبيرة كتلك التي تفرضها العمليات العسكرية المباشرة"، حسب ما أوضح التقرير.
من زاوية أخرى، ينفي التقرير أن "يكون الهدف من نشر القوات الأميركية في الكاريبي هو تغيير النظام"، بل إن الهدف، حسب وجهة نظر المعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية، هو "تهيئة ظروف هيكلية معاكسة لأي نفوذ منافس".
موضحا أن "الضغط الاقتصادي المتدرج، عبر العقوبات أو الوصول الانتقائي للأسواق والتقنيات، يعمل كـ (مفتاح جيوسياسي) يُفعل أو يُعطل وفق السلوك السياسي للطرف المستهدف".
أما التحركات العسكرية، فلفت التقرير إلى أنها تُستخدم كوسيلة ردع ورصد، موضحا أن لها ثلاث وظائف: ردع الخصوم، وطمأنة الحلفاء الإقليميين، وجمع المعلومات الاستخباراتية حول الخطوط الملاحية والبنى التحتية الحيوية.
وفي البعد السياسي، أشار إلى أن "كل هذه التحركات تؤطَّر ضمن سرديات وخطابات -مثل الأمن البحري ومكافحة الجريمة العابرة للحدود وحماية طرق التجارة- تهدف إلى إزالة شبهة (الامبريالية التقليدية) عن السياسات الأميركية، دون التقليل من فعاليتها القسرية".















