تحلق وتصور وتقنص وتفجر.. "كوادكابتر" سلاح الإبادة الإسرائيلية في غزة
يقف الشاب علي مساعد، على مفترق السوق بمخيم المغازي، وسط قطاع غزة، ليشاهد انسحاب الآليات من مدخل المخيم، بعد اقتحام استمر أسبوعين، يرافقه أحد أصدقائه ويدعى زويد أبو سرار، وسط نقاش عن نوع الآليات.
يختفي صوت زويد، يلتفت علي خلفه، فيجد صديقه مضرجا بدمائه، وهذا آخر ما يتذكره، حيث أصيب علي، وجرى نقله لمستشفى شهداء الأقصى، الكائن بمدينة دير البلح، وسط القطاع، وهناك علم باستشهاد أبو سرار.
أخبره من نقله بأن طائرة كوادكابتر استهدفته وصديقه، وعددا من الشبان في المكان، في غضون ثوان معدودة، وكل من كان يقترب للمساعدة كان يُقنص.
شبح الموت الطائر
تكرر هذا النوع من الجرائم كثيرا في قطاع غزة، منذ اندلاع العدوان في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وارتقى آلاف الفلسطينيين بالقنص عبر طائرة كوادكابتر، حسب وزارة الصحة الفلسطينية.
واشتهرت طائرة كوادكابتر بين الفلسطينيين، بوصفها قاتلا دمويا صامتا يقتل في كل مكان، تدخل المشافي والبيوت والمدارس والمساجد ومراكز الإيواء، وتقتل المدنيين والطواقم الطبية.
وطائرة كوادكابتر، هي درون صغيرة الحجم، تحركها أربع مراوح، عرفت بالبداية ككاميرا طائرة للتصوير السينمائي والصحفي.
ثم بدأت بالظهور ضمن الاستخدامات العسكرية لجيش الاحتلال، للتصوير والتجسس، ثم إلقاء قنابل الغاز، تلاها تطويرها كطائرات انتحارية؛ لغرض الاغتيالات، وأخيرا طائرات مسلحة تطلق الرصاص بدقة.
ومع بداية العدوان، أعلن المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي دانيال هاغاري، إدخال طائرة كوادكابتر المسلحة للخدمة.
ودخلت الخدمة "لتنفيذ مهمات خطيرة، وتنجح على الأغلب في أداء المطلوب منها، بكفاءة عالية، كما أثبتت أنها سلاح فعال"، وفق جيش الاحتلال.
وفي فترة تولي أفيف كوخافي، رئاسة أركان جيش الاحتلال (2018 – 2022)، أمر بزيادة معدل إنتاج الحوامات الهجومية في إطار الاستعدادات للحرب، وطلب إضافة خاصية حمل أسلحة آلية.
وبفعل توجيهات كوخافي، طورت شركة "Smart Shooter" الإسرائيلية طائرة "كوادكابتر" بما يشمل جعلها تحمل رشاشا؛ لإطلاق النار على أهداف ثابتة أو متحركة أثناء الطيران، ويمكن تشغيل هذا السلاح عن بعد، بواسطة جهاز حاسوب أو بشكل تلقائي حسب البرمجة.
وقالت صحيفة "وول ستريت جورنال" في تحقيق، 24 ديسمبر/كانون الأول 2023، إن الجيش الإسرائيلي في غزة، بات يعتمد بشكل رئيس على مسيرات "كوادكوبتر"، بعد أن اكتسبت أهمية بساحات المعارك العسكرية حول العالم، خصوصا الحرب في أوكرانيا.
وبحسب الصحيفة فإن الطائرة خيار رخيص، وأكثر فعالية، بعد فشل إسرائيل في كشف أنفاق حركة المقاومة الإسلامية حماس عن طريق الروبوتات، والكلاب الآلية أو الحقيقية.
وأضافت "نفذ الجيش الإسرائيلي عمليات تحليق بهذه المروحيات الرباعية داخل المباني، حيث إن مكوناتها من أجهزة الاستطلاع الجوي وعملها كذخائر موجهة مفيدة قبل إرسال الجنود للمباني".
وكشفت الصحيفة، أن الطائرة قللت من خسائر جيش الاحتلال في أثناء تقدمه بساحة المعارك المكتظة بالسكان، والمحصنة جيدا، وجعلته يتفادى الفخاخ التي زرعتها المقاومة الفلسطينية في الطرقات، ومحاور القتال المختلفة، حسب زعمها.
إضافة دموية
ومن جانبه، قال الباحث في الشؤون العسكرية زكريا السلاسلة، في حديث لـ "الاستقلال" إن طائرة كوادكابتر الإسرائيلية المزودة بالأسلحة الرشاشة، كانت الإضافة الأبرز، والأكثر دموية لجيش الاحتلال خلال العدوان.
وأضاف في حديث لـ "الاستقلال": "بدأ جيش الاحتلال استخدام طائرات الدرون التي كان ظهورها الأول لغرض التصوير، ومن ثم بدأت شركات مرتبطة به تطويرها، واستخدمتها في مسيرات العودة لقمع الفلسطينيين، وكانت ذات نجاح ملحوظ، حيث تستهدف بالغاز، وتصور وتوجه القناصة للأهداف".
وأوضح السلاسلة أن طائرة الكوادر كابتر توفر مزايا لجيش الاحتلال، ليست موجودة في أي طائرة أخرى، حيث تتمكن من الاقتراب من الأرض بشكل كبير، دون أن يشعر بها أحد لصوتها المنخفض في التحليق.
وأيضا لصغر حجم بعض أنواعها يمكنها دخول الأماكن الضيقة كالأنفاق وتصوير أي هدف من المسافة صفر.
وتابع "اتجه الاحتلال أيضا لإنتاج طائرات كوادكابتر انتحارية، لما لها من سهولة في التحكم والتوجيه الدقيق جدا، وصعوبة الاكتشاف".
وشدد على أن النوع الأخطر هو كوادكابتر المزود بالرشاش، وقد استخدمه جيش الاحتلال منذ بداية العدوان بكثافة كبيرة، ويمتاز بدقة إصابة عالية، وعيارات نارية متفجرة.
وتستخدم الطائرة لإرهاب الناس وتخويفهم ودفعهم للنزوح، وتقود عمليات الترحيل، وتحرص على أن يسير النازحون في طرق مليئة بالجثث.
وأوضح أن أهداف استخدام هذه الطائرة متعددة كتجنيب الجنود الإسرائيليين أداء بعض المهام بأنفسهم كدخول الأنفاق، واقتحام المباني، والتوغل في أماكن تواجد المقاومين، وأيضا تهدف لزراعة الرعب في نفوس الفلسطينيين وغرس شعور أن عليهم دائما انتظار رصاصاتها.
وأكد الباحث أن كل كتيبة مشاة باتت مزودة بسرب من طائرات كوادكابتر، توجهها إلى كل مكان قبل وصول الدبابات والجنود إليه، وتمشيط المباني ناريا، وأيضا إشعال النيران في الحقول قبيل الانسحاب، كنوع من مفاقمة الخسائر المادية.
وسيلة إرهاب
ولا تكتفي إسرائيل بتسخير القدرات المتطورة للطائرة في مواجهة المقاومة الفلسطينية وتجنب قتالها بشكل مباشر من المسافة صفر، بل سعت لجعلها في مقدمة أدوات الإبادة، والإرهاب ضد المدنيين الفلسطينيين.
ومن بين قرابة 30 ألف شهيد، حصدت هذه الطائرة أرواح الآلاف خصوصا أثناء النزوح والاقتحامات، حسب المكتب الإعلامي الحكومي.
واستخدمت الطائرة بشكل كبير في جرائم جيش الاحتلال في مشافي قطاع غزة، كمستشفى الشفاء، والمعمداني، وكمال عدوان، والإندونيسي، وأخيرا مجمع ناصر الطبي.
وبدورها، قالت هديل السموح 33 عاما، إنها كانت ترقد مع طفلتها الرضيعة في قسم الحضانة في مجمع ناصر الطبي، وقبل تماثل ابنتها للعلاج، أجبرت على مغادرة المستشفى؛ بفعل هجوم طائرات كوادكابتر والطائرات الحربية، السابق للهجوم البري على المجمع.
وأضافت في حديث لـ "الاستقلال" : " وضعت طفلتي في مستشفى ناصر بولادة مبكرة ما استدعى تلقيها رعاية طبية مكثفة، طيلة الوقت، كنا نسمع القصف الحربي، ومع مرور الوقت كان يصبح أقرب وأقرب، حتى تحطمت نوافذ المستشفى وتضررت مبانيه من قوته، وبعد 4 أيام من ولادة طفلتي، بدأت مرحلة الاستهداف بكوادكابتر".
وواصلت السيدة : "بدأ الهجوم بالليل، كانت الطائرات تحوم في محيط المستشفى، وكنا نراها وبعضها مزود بأضواء مختلفة منها الأحمر والأخضر، والبعض الآخر بالأبيض وهي الأكبر حجما، ونسمع أصوات إطلاق نار، ثم أصوات صراخ وبكاء".
"وساد جو من الرعب في كل المجمع، لم نستطع النوم تلك الليلة، ومع الصباح كان دور قسمنا، حيث وقفت الطائرة مقابل النوافذ، وبدأت بإطلاق النار تجاهه رغم وجود الأطفال الخدج".
وأوضحت أن جدة أحد الأطفال استشهدت في الغرفة التي كانت بها؛ جراء هذه العيارات النارية، ولم يستطع أحد إسعافها، وبقيت تنزف حتى استشهادها، وأكدت وجود دخان أبيض كثيف في القسم، لم تعلم مصدره.
وتابعت "قطعت الكهرباء، وفُصلت ابنتي عن جهازي الأوكسجين ونبضات القلب، وبقينا محاصرين لمدة 48 ساعة تقريبا، إلى أن سمعنا توجيهات من مكبر صوت مثبت على طائرة كوادكابتر، إلى النساء والأطفال للخروج من المستشفى، والمشي ببطء، والسير حتى الوصول لشارع البحر".
صدمت هديل مما رأته عندما وصلت لدرج وساحة المستشفى، الجثث في كل مكان، ومصابون بعضهم يلفظ أنفاسه الأخيرة، والبعض الآخر يستغيث، ويصارع للبقاء على قيد الحياة.
سارت مع بقية الأمهات والأهالي، وفوقهم كانت طائرة كوادكابتر ترافقهم وتطلق النيران بينهم، وفق قولها.
وأضافت "كانت رحلة صعبة للغاية، سرت مسافة طويلة وأنا أحمل طفلتي ولا أدري، هل لا تزال على قيد الحياة أم ماتت".
وتابعت: "بعض الأمهات ولدن بعملية قيصرية جراحية، ومع السير فتحت جروحهن، ومع ذلك واصلن المشي خشية الطائرة المسلحة التي تطلق النار بلا تردد، وبقيت ترافقنا حتى الاقتراب من دير البلح (وسط القطاع)".
قنص في البيوت
وتنفذ طائرات كوادكابتر هجمات قنص، في المناطق السكنية ذات الكثافة العالية، وبحسب شهود عيان، فإن إطلاقها النار يكون غالبا بلا صوت.
وتفرض الطائرات حظرا للتجول، في مناطق واسعة من القطاع، عن طريق إطلاق النار على كل من يخرج رأسه من نافذة أو باب منزله، خصوصا في أوقات التقدم البري.
ويروي الشاب إبراهيم الناصرة 28 عاما ، من مدينة دير البلح مأساة عائلته التي كان سببها طائرة كوادكابتر الإسرائيلية.
يقول "منذ بداية الحرب تعودنا على رؤية أنواع وأشكال مختلفة من هذه الطائرة، تحلق على مسافات قريبة من الأرض، وتدخل بعض المباني، وتطلق النار وتسبب رعبا كبيرا، خصوصا بالليل والفجر".
وأضاف في حديث لـ "الاستقلال": "صباح يوم 18 يناير 2024،استيقظت على صوت صياح وبكاء أمي وأخواتي وزوجتي وأطفالي، هرعت للأعلى لأجد أبي ملطخا بدمائه ورأسه مهشم وينزف، بجوار فرن الخبز، لم أفهم ما حصل سوى حديث أختي بأن الطائرة قتلته".
وكانت الطائرة قد استهدفت أبو إبراهيم (59 عاما) وهو يساعد زوجته في إعداد الخبز، حيث أطلقت عليه عيارا ناريا من خلال النافذة التي وقفت مقابلها.
ويؤكد الشاب أن استهداف والده كان فقط من أجل إفزاع سكان المنطقة وترهيبهم، بسياسة القتل العشوائي.
فوالده رجل بسيط، لا علاقة له بأي نشاط تنظيمي، ويتحرك بصعوبة بالغة، وقتله وسط عائلته كان ضمن الحرب النفسية الدموية لجيش الاحتلال، حسب الناصرة.
وتابع "هذه ليست الجريمة الأولى من هذا النوع في المنطقة، بل دخلت كوادكابتر لمدرسة مجاورة في منطقة المزرعة بدير البلح، في أحد الصفوف، أطلقت النار على رأس رجل كان يحمل ابنته الرضيعة بين يديه، وتسببت الحادثة برعب هائل، ومغادرة عدد كبير من النازحين".