تحشد له إسرائيل.. ما قصة "الممر البحري" بين غزة وقبرص الرومية؟
بينما يشن الاحتلال الإسرائيلي عدوانا كاسحا على غزة برا وجوا، ويفرض عليها حصارا خانقا غير مسبوق منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يطل رئيس قبرص الرومية نيكوس خريستودوليدس، للإعلان عن عزمه إقامة ممر بحري لنقل المساعدات إلى القطاع.
ففي مؤتمر للمساعدات الإنسانية عقد في العاصمة الفرنسية باريس، في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أعلن خريستودوليدس العزم على إقامة ممر لنقل المساعدات بحرا إلى غزة من جزيرة قبرص.
ملامح الممر
الممر المائي الذي اقترحه الرئيس القبرصي الجنوبي سيمرر المساعدات من ميناء لارنكا إلى غزة مباشرة، وليس عبر معبر رفح المصري أو من دولة الاحتلال.
ويعاني سكان غزة البالغ عددهم نحو 2.5 مليون نسمة من نقص مزمن في المياه والغذاء والوقود والأدوية، مع دخول مساعدات محدودة.
فلماذا اقترحت نيقوسيا ذلك الممر؟ وما موقف إسرائيل والسلطة الفلسطينية والقوى الدولية منه؟ وما تأثيره المباشر على غزة ومصر؟
بموجب الترتيب الأول الذي اقترحه رئيس قبرص الرومية، ستخضع البضائع للتفتيش الأمني في ميناء لارنكا القبرصي قبل نقلها إلى غزة، حيث يقع على بعد 370 كيلومترا من القطاع المحاصر.
وبحسب ما نشرت وكالة "رويترز" البريطانية في 3 يناير/كانون الثاني 2024، فإن هذا الممر سينقل المساعدات من قبرص إلى غزة مباشرة.
وأضافت أن "نيقوسيا أجرت بالفعل اختبارا لآلية فحص للشحنات عن طريق الممر المقترح، بعد إرسال 87 طنا من المساعدات البريطانية عن طريق هذا الممر".
وأعطى ذلك الاختبار انطباعا أن المقترح يدخل بقوة إلى حيز التنفيذ السريع في ذلك التوقيت الحرج.
خاصة أن الضغوط الإنسانية والحقوقية تزداد بقوة على حكومة الاحتلال، في ظل الأوضاع المتردية في غزة التي كان يدخلها نحو 500 شاحنة بضائع يوميا قبل العدوان، لكن هذا العدد انخفض إلى 100 في أفضل الظروف.
ومن الدارج أن تدخل المساعدات الإنسانية بشكل رئيس إلى غزة عبر معبر رفح البري الحدودي مع مصر، بعد وصولها برا أو جوا أو بحرا إلى مدينة العريش المصرية.
أبرز المواقف
وفي 19 ديسمبر 2023، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين موافقة حكومته المبدئية على المقترح القبرصي.
في اليوم التالي مباشرة أجرى كوهين، زيارة سريعة إلى لارنكا، التقى خلالها نظيره القبرصي "كونستانتينوس كومبوس"، وتفقد معه مركز التنسيق متعدد الأغراض "زينون" وميناء لارنكا الذي من المتوقع أن يعمل كنقطة انطلاق للممر البحري من قبرص إلى قطاع غزة.
وقال كوهين خلال تلك الزيارة: "إن إنشاء ممر بحري، سيساعد على فك الارتباط الاقتصادي لإسرائيل عن قطاع غزة، ولن نسمح بالعودة إلى الواقع الذي سبق الهجوم القاتل (طوفان الأقصى) يوم 7 أكتوبر".
وقالت وزارة خارجية الاحتلال في بيان "إنه في الأسابيع الأخيرة، عمل موظفو وزارة الخارجية وفرق من إسرائيل مع زملائهم من قبرص (الرومية) ودول أخرى على تعزيز إنشاء الممر البحري، الذي من شأنه أن يسمح بإجراء فحص أمني مبكر والنقل المباشر للمساعدات والسلع الإنسانية إلى قطاع غزة، دون الحاجة للمرور عبر إسرائيل".
ووافقت الولايات المتحدة الأميركية على الفكرة. وبعد أيام من إعلان الرئيس القبرصي مقترحه، توقف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 5 نوفمبر 2023 لفترة وجيزة في نيقوسيا خلال زيارته إلى عدد من الدول في الشرق الأوسط.
والتقى بلينكن على متن طائرته بـ "نيكوس كريستودوليدس"، حيث ناقشا اقتراح الممر، وأعلن وزير الخارجية الأميركي تأييد ودعم بلاده له.
كما وافق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على المشروع، وقال في 27 نوفمبر "ما يجب وضعه تشكيل تحالف إنساني مع العديد من الدول الأوروبية، خاصة قبرص، لتفعيل الممر المائي والذي سيكون بمثابة قاعدة لإرسال المساعدات".
كذلك أبدت كتلة بروكسل تأييدها للمقترح، وأعلن رئيس المجلس الأوروبي "شارل ميشيل" الموافقة على مشروع الممر الذي سيدخل المساعدات إلى القطاع المحاصر.
ومن تلك الموافقات والحماس الغربي الإسرائيلي لتنفيذ المقترح، تأتي التساؤلات لماذا لا يجرى إدخال المساعدات عبر مصر بشكل طبيعي كما هو الوضع؟
ولماذا وافقت إسرائيل بهذه السهولة على مشروع قبرص؟بينما تتعنت بقوة في تمرير آلاف الأطنان من المساعدات العالقة على معبر رفح؟
مخطط تهجير
ربما أجاب الرد الرسمي الفلسطيني عن هذه الأسئلة، بإعلان موقف حاسم ورافض للمشروع جملة وتفصيلا.
ففي الأول من يناير 2024، رفض مجلس الوزراء الفلسطيني في رام الله، فكرة الممر المائي بين إسرائيل وقبرص.
وأعلن في بيان "أن هذا الممر ينطوي على مخاطر تفرضها المخططات الإسرائيلية، بما يتعلق بتسييره بين قبرص وغزة، والذي ترمي من ورائه إسرائيل لتهجير أبناء شعبنا من القطاع".
وطالب بإدخال المساعدات عبر المعابر الحدودية، وليس من خلال ممرات يصفها بأنها تحمل "لافتة إنسانية"، بهدف تمرير مخططات تختبئ وراء تلك العبارة، وقد تكون متسقة مع أهداف تتعلق بحرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
اللافت أيضا أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير انخرط في تمرير هذا المشروع، ما أغضب بقوة الرئاسة الفلسطينية التي خصته بالذكر دون غيره في رفضها المقترح.
ففي الأول من يناير نشرت وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية "وفا" بيانا من الرئاسة، عبرت فيه عن رفضها الشديد لأي محاولات مشبوهة لتكليف توني بلير أو غيره بالعمل من أجل تهجير المواطنين من قطاع غزة، عادة ذلك عملا مدانا ومرفوضا.
وقالت: "سنطالب حكومة بريطانيا بعدم السماح بهذا العبث في مصير الشعب الفلسطيني ومستقبله، كما سنطالب الأمين العام للأمم المتحدة (أنطونيو غوتيريش) بعمل ما يمكن، من أجل عدم السماح بمثل هذه الأعمال المخالفة للقانون الدولي والشرعية الدولية".
وبينت أن ما يجرى "يمثل تدخلا وعملا لا يخدم سوى مصالح إسرائيل والإساءة إلى الشعب الفلسطيني وإلى حقوقه، ودفعه إلى التخلي عن أرضه".
وأوردت: "يبدو أن توني بلير يعمل على استكمال إعلان بلفور الذي أصدرته حكومة بريطانيا بمشاركة أميركية، والذي أسس لمأساة الشعب الفلسطيني، وإشعال عشرات الحروب في المنطقة".
أكد على ذلك الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي، بالقول معلقا على الممر: "يتعين علينا الآن إحباط محاولات (رئيس الوزراء الإسرائيلي) نتنياهو لتسويق فكرة الهجرة الطوعية والضغط على بعض الدول لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين".
وأشار خلال تصريحات لوكالة أنباء العالم العربي (AWP)، إلى أن رئيس وزراء الاحتلال يتجه الآن نحو اتخاذ خطوات لتفعيل فكرة الهجرة الطوعية.
وكانت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" قد أوردت في 20 ديسمبر 2023، بأن الهجرة الطوعية لسكان غزة تتحول رويدا رويدا إلى السياسة الرائدة والرسمية للحكومة الإسرائيلية، حيث أعطى بنيامين نتنياهو الضوء الأخضر، ويتبعه وزراء وأعضاء في الكنيست (البرلمان) من كل أحزاب الائتلاف، لتنفيذها.
ورغم كل تلك المعطيات لم تصدر تصريحات أو تعقيبات رسمية من الدول العربية والإسلامية على مشروع الممر، لا سيما مصر، حيث يحيد مشروع الممر المائي دور معبر رفح الحدودي أو يقلص من مهامه.
خطر على مصر
وفيما يتعلق بمصر، علق الباحث السياسي المصري محمد ماهر، على مشروع الممر، قائلا: "بلا شك أنه يمثل كارثة على الأمن القومي المصري، ولن أبالغ حين أقول، إنه أخطر ما يهدد القاهرة بعد أزمة سد النهضة مباشرة".
وفي حديث لـ"الاستقلال" أوضح أن "الممر الجديد سيفقد مصر الميزة الإستراتيجية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إذ ستصبح كأي دولة أخرى بعيدة عن بؤرة الصراع وجغرافيته، مثل السعودية والإمارات وتركيا وإيران".
وأتبع: "الممر في حال تنفيذه إضافة إلى السيطرة على محور فيلادلفيا سينهي تماما مهمة معبر رفح (المعطل أساسا)".
وقال نتنياهو أواخر ديسمبر 2023 إنه "يجب أن تسيطر إسرائيل على منطقة محور فيلادلفيا (معروف أيضا باسم صلاح الدين) بين قطاع غزة ومصر". وهو عبارة عن شريط حدودي بطول 14 كيلومترا بين قطاع غزة ومصر.
ويستدرك ماهر: "في النهاية ستكون النتيجة أن مصر ستصبح بلا وزن نسبي في معادلة الصراع، إذ لن يكون لها عمق إستراتيجي في غزة، بل ستفقد القطاع الذي يعد خط الدفاع الأول عن أمنها القومي".
وأضاف: "إذا نجحت إسرائيل بالاتفاق مع قبرص بشأن هذه المهمة، ستجد مصر جيش الاحتلال على الحدود معها مباشرة".
فبالانفكاك المصري عن غزة سياسيا واقتصاديا وتقريبا جغرافيا، بإلغاء فكرة المعابر والاعتماد على الممر المائي، ستصبح القاهرة في خطر داهم أمام حكومات اليمين المتطرف الإسرائيلي، وفق تقديره.
وقال الباحث المصري: "منذ بداية الحرب الأخيرة والدور المصري مبهم، فمثلا ترفض القاهرة مسألة التهجير رسميا، لكنها لا تقدم خطوات لحلحة الأزمة في غزة".
ومن المفترض أن تعلن الخارجية المصرية أو الرئاسة رفض فكرة الممر المائي مع قبرص بكل الأشكال، وفق ماهر.
وتابع: "يجب أن تعمل كذلك للحيلولة دون سيطرة إسرائيل على محور فيلادلفيا، إضافة إلى تسهيل فتح المعبر وإدخال المساعدات لإنقاذ أهل غزة ورفض تهجيرهم عمليا إلى أي مكان آخر".
وأردف: "كما يجب الضغط سياسيا على إسرائيل، ولو بسحب السفراء وقطع العلاقات، وأن يكون هناك دور للمجلس العسكري والجيش، بالتوازي مع تفعيل دور الخارجية المصرية أكثر في هذه المسألة".