رغم مرور عقود.. لماذا لا تنطفئ نار التمرد في إقليم بلوشستان الباكستاني؟
نفذت باكستان صباح 18 يناير/ كانون الثاني 2024، سلسلة غارات ضد مخابئ من تصفهم بـ"الإرهابيين" من جماعة "جيش تحرير بلوشستان" المسلحة في محافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية الحدودية.
وجاء ذلك ردا على تنفيذ طهران ضربات قبل يومين ضد ما يعرف بـ"جيش العدل" السني داخل الأراضي الباكستانية والمدرج على قائمة "الإرهاب" الإيرانية.
وتشترك الدولتان في حدود تمتد لنحو 900 كيلومتر، مع إقليم بلوشستان الباكستاني من جهة، وإقليم سيستان-بلوشستان الإيراني من جهة أخرى.
وتقاتلان منذ فترة طويلة مسلحين في منطقة بلوشستان المضطربة تاريخيا والممتدة بين كل من إيران وباكستان وأفغانستان والتي تسكنها قومية البلوش.
ويقع إقليم بلوشستان الباكستاني في جنوب غرب البلاد ويعد الأكبر من الناحية الجغرافية ويسكُنه حوالي 15 مليون نسمة منتشرين داخل منطقة صحراوية وجبلية قاحلة ولكنها ذات تربة تحتية غنية جدا.
منطقة حساسة
وفي هذا السياق، نشر معهد "تراكاني" الإيطالي تقريرا عن جذور هذه التمرد وأسباب تواصل قمع السلطات الإيرانية والباكستانية للسكان المحليين.
وأوضح أن الإقليم جذب الاهتمام الدولي والتحليلات الجيوسياسية في السنوات الأخيرة بعد أن بات يمثل ممرا رئيسا في مشروع "الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان".
وهو مشروع اقتصادي ضخم يضم عددا من مشاريع البنى التحتية في باكستان، وهو جزء من مبادرة الحزام والطريق الصينية.
ويحتكر الإقليم 40 بالمئة من إنتاج الغاز في باكستان وهو غني بموارد طبيعية هائلة، في المقابل يظل الأفقر وهذا أحد الأسباب التي أشعلت التمرد المستمر منذ سيطرة باكستان على الإقليم في 1948.
ولاحظ المعهد أن الصراعات في أفغانستان وكشمير وسريلانكا وإيران أدت إلى تراجع الاهتمام بما يحدث في الإقليم على الرغم من أن الحركات المتمردة البلوشية أصبحت تدريجيًا أفضل تنظيمًا.
واستمر هذا الوضع إلى أن أسهم الاهتمام الصيني أخيرا بالمنطقة في إطار مشروع طريق الحرير والهجمات المتبادلة الأخيرة ومخاطر اتساع الصراع بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية حماس، في عودة الإقليم الباكستاني إلى دائرة الاهتمام الدولي.
وبحسب تحليله، أدت الأهمية الاقتصادية لبلوشستان، بالنسبة لمشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، إلى تفاقم التوترات السياسية المستمرة بين السكان المحليين والحكومة في إسلام آباد.
وأول العلامات على ذلك وقعت في أبريل/ نيسان 2022، عندما أسفر هجوم نفذته انتحارية تابعة لجيش تحرير بلوشستان، استهدف حافلة قرب معهد كونفوشيوس بجامعة كراتشي في جنوب باكستان، عن مقتل ثلاثة مدرسين صينيين وسائق باكستاني.
وشكل ذلك علامة على التصعيد بعد أن قامت المليشيات الانفصالية المختلفة التي اكتسبت زخما في السنوات الثلاث الماضية بفضل توافر مجموعة واسعة من الأسلحة، برفع مستوى الصراع.
وقد أسفر تحطم مروحية عسكرية باكستانية في جنوب غرب بلوشستان في أغسطس/ آب 2022 عن مقتل ستة من كبار الضباط بسبب سوء الأحوال الجوية، بينما أعلنت حركة "جيش بلوشستان" المسؤولية عن الحادث باستهدافها المروحية.
على إثر ذلك، نفذت الجماعة المتمردة هجمات متعددة باستخدام القنابل في مدن تربت وكاهان وجوادر، كانت قد أسفرت عن مقتل ستة على الأقل من أفراد الأمن الباكستانيين.
نقطة تحول
وبعد عام من عمليات مكافحة التمرد، أعلن زعيم حركة "جيش تحرير بلوشستان"، سارفراز بونجولزاي، المعروف باسمه الحركي مريد بلوش، في ديسمبر/ كانون الأول 2023 استسلامه للسلطات مع نحو 70 من أتباعه وتخليه عن كفاحه المستمر منذ سنوات من أجل الاستقلال.
وصرح للصحفيين في كويتا عاصمة مقاطعة بلوشستان، أنه يشعر بالندم على الهجمات القاتلة التي نفذها هو وجيش بلوشستان ضد قوات الأمن الباكستانية.
بحسب المعهد الإيطالي، شكل استسلام قيادة حركة "جيش بلوشستان" نقطة تحول في الحرب ضد هذا التمرد المسلح.
وينقل عن مراقبين أن الحركة تشكو توترات وانقسامات داخلية مرتبطة بالانتماءات القبلية المختلفة والصراعات بين القبائل الثلاث الرئيسة.
من ناحية أخرى، يتهم المعهد إسلام أباد وحليفتها بكين باستغلال التمرد لأغراض جيوسياسية مناهضة للهند وذلك باتهامها بـ"تمويل الإرهابيين البلوش".
وعلق على أن الإشارة إلى وجود "أيادٍ أجنبية" تقف وراء التمرد التاريخي في بلوشستان تعد مجرد محاولة توجيه الانتباه بعيدا عن الأسباب الحقيقية للاضطرابات.
كما حمل المسؤولية للقيادة السياسية والعسكرية في باكستان التي لم تتخل عن "نهجها القمعي المتبع تجاه البلوش منذ البداية".
وأكد تراكاني أن المسيرة الأخيرة لآلاف المدنيين البلوش إلى إسلام أباد بقيادة نسوية في ديسمبر 2023، للاحتجاج ضد الاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القضاء، إلى جانب المطالبة بالإفراج عن النشطاء البلوش، أعادت القضية إلى مركز الاهتمام السياسي والاجتماعي.
من جانبها، ردت إسلام أباد على المسيرة بالاستخدام المكثف للقوة وهو ما يؤكد أن المسألة بالنسبة لها تتعلق "بالأمن والإرهاب".
لذلك ترفض بشكل مسبق أي تنازل محتمل أو فهم للأحداث التاريخية المعقدة التي تعد السبب الجذري للعنف، على حد تعبير المعهد الايطالي.
تقسيم تاريخي
في هذا الصدد يذكر أن السكان الخاضعين للإدارة البريطانية كانوا يستقرون ما قبل التقسيم بين الهند وباكستان على الحدود الأفغانية الباكستانية في إطار "نظام التهدئة القبلية" المعروف بنظام "ساندمان" نسبة إلى المسؤول الاستعماري البريطاني روبرت جروفز ساندمان.
وقد أضفى هذا النظام الطابع المؤسسي على المجالس القبلية أو الجيركا مانحا السلطة لزعماء البلوش المحليين، السردار، ومنح كذلك البلوش استقلالية واسعة في الأمن الداخلي والحكم.
وبعد التقسيم، كانت عملية انضمام بلوشستان إلى باكستان صعبة نتيجة إعلان خان قلات استقلال المنطقة في أغسطس1947.
إلا أن البلوش أجبروا على الانضمام إلى باكستان في مارس 1948 بعد أن تحركت القوات الباكستانية لاحتلال المنطقة.
على إثر ذلك اندلعت الثورة الأولى وتبعتها على مدى العقود الثلاثة التالية انتفاضات شعبية أخرى بين عامي 1958 و1959، ومن عام 1963 إلى عام 1967 ومن عام 1972 إلى عام 1977.
وكان رد إسلام آباد تطبيق الأحكام العرفية واعتقال السردار "الانفصاليين" البارزين وكذلك نشر القوات العسكرية.
شهد الصراع مرحلة هادئة بعد أن تولى الجنرال محمد ضياء الحق السلطة في باكستان عام 1977 وعمل على إطلاق سراح القادة البلوش المعتقلين.
على الرغم من أن منح العفو العام للمتمردين خفف من حدة الصراع على مدى السنوات العشرين التالية، إلا أن ضياء الحق لم يتمكن من حل القضايا الأساسية والمسائل العالقة.
وقد طفت الأخيرة مجددا على السطح لتشمل ثلاث مناطق في ثلاث دول وهي جنوب غرب باكستان، وشرق إيران، وكذلك جنوب أفغانستان.
وكان الهدف الرئيس للهجمات العسكرية التي نفذتها طهران وإسلام أباد أخيرا هو استهداف مخابئ المجموعات الانفصالية البلوشية المنتشرة على الحدود بين البلدين.
وخلص المعهد الإيطالي إلى أن رد سلطات البلدين بطريقة واحدة وهي "القمع العسكري يلقي بظلال على مستقبل المنطقة وقد يتسبب في عواقب ذات صلة على استقرار منطقة جنوب آسيا بالكامل".