السيسي يعيد رسم خريطة المؤسسات الدينية بمصر.. لتنظيم الفتوى أم تحجيم الأزهر؟

إسماعيل يوسف | منذ ١٣ ساعة

12

طباعة

مشاركة

ضمن عملية منظمة تجرى منذ سنوات، لخلع أسنان مشيخة الأزهر  وتقليص نفوذها، جرى إقرار قانون جديد للإفتاء، ينازع دور المؤسسة الدينية الأولى لجعلها بلا سلطة ولا وزن.

ويأتي ذلك بعد سنوات من فشل رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي في تطويع الأزهر برئاسة أحمد الطيب، وانتزاع "السلطة الدينية" منه، وتقليص نفوذه الذي تعاظم عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011.

خطة خلق كيانات إسلامية موازية للأزهر، مثل دار الإفتاء، والأوقاف، لإضعاف نفوذه، بدأت مع تزايد خلاف السلطة مع المشيخة كي تقبل بخطة "تجديد الخطاب الديني"؛ لأنها تنطوي على هدم لثوابت العقيدة.

كان جزءا منها قرار جمهوري صدر في 14 أغسطس/آب 2021، لإخراج “دار الإفتاء” من عباءة المشيخة بالقوة، عبر إلغاء صلاحية "هيئة كبار علماء الأزهر" في اختيار المفتي، وجعله مستقلا وتابعا للرئاسة، لخلق ازدواجية في المؤسسة الدينية.

وكانت الخطوة الثانية، هي إقرار هذا القانون الجديد، في مايو/أيار 2025، والذي يجعل من حق موظفي وزارة الأوقاف، الإفتاء رسميا، بجانب هيئة كبار العلماء، عبر تمرير برلمان السلطة قانونا للإفتاء يجيز ذلك، رغم رفض الأزهر له.

قصة القانون 

وكان تحديا كبيرا لمشيخة الأزهر، أن توافق اللجنة الدينية بمجلس النواب، في 6 مايو/أيار 2025، بشكل نهائي، على مشروع "قانون تنظيم إصدار الفتوى"، وتقر حق "الأوقاف" في الإفتاء رسميا.

وجاء ذلك رغم إعلان ممثلي الأزهر رفضهم له، واحتمالات تعارض الفتاوى في قضايا معينة لصالح السلطة.

ثم يوافق نواب السيسي بأغلبية ساحقة في مجلس النواب يوم 11 مايو/أيار 2025، على هذا القانون الكارثي، بعد تعديل طفيف لإرضاء الأزهر، لكنه يبقي على إشراك "الأوقاف" في الإفتاء، بجانب "الأزهر".

بل ولام شيخ العسكر "علي جمعة"، رئيس اللجنة الدينية بالمجلس، الأزهر الشريف بسبب إعلان المؤسسة موقفها الرافض لمشروع القانون عبر وسائل الإعلام قبل انتهاء اللجنة من مناقشاته.

وقال جمعة مخاطبًا ممثل الأزهر: "كان يجب الانتظار حتى انتهاء المناقشات، ما حدث لا يليق، وقد خالف الأعراف البرلمانية، واللجنة مستاءة مما جرى، وعليك أن تبلغ رؤساءك بذلك رسميًا"، برغم أنه أقر القانون رغما عن أنف المشيخة.

فالهدف المُعلن لمشروع القانون هو "وقف فوضى الإفتاء"، وقصر الأمر على الجهات الإسلامية المختصة، وهي تاريخيا هيئة كبار علماء الأزهر.

لكن المشيخة، فوجئت بتضمين يمنح المادة رقم 3 بمشروع القانون، "لجنة" بوزارة الأوقاف، حق الإفتاء.

ممثل المشيخة محمد الضويني، رفض ذلك رسميا، داخل البرلمان، وأرجع الأمر إلى نص مشروع القانون، على "تشكيل لجنة من الأوقاف يحق لها الفتوى"، مؤكدا أن هذا الحق خاص بالأزهر فقط.

لكن نواب البرلمان الموالين، واللجنة الدينية، لم يعيروا موقف المشيخة اهتماما وأصروا على "تشريع" حق الأوقاف في الفتوى بجانب الأزهر.

كما حاولوا تبرير ذلك بأن موظفي الأوقاف "أزهريون"، متخرجون في مدارس الأزهر الشريف.

وحاول وزير الأوقاف أسامة الأزهري، مستشار السيسي الديني، والمفتي السابق علي جمعة، الترويج للنص المقترح في مشروع القانون، زاعمين أيضا إن العاملين في الوزارة "هم من أبناء الأزهر"، وبالتالي يحق لهم الإفتاء.

لكن الشيخ "الضويني"، رد عليه بأن الأزهر به 170 ألف مدرس، منهم 50 ألفًا على الأقل من خريجي كلية الشريعة والقانون، ومع هذا لم يتم منحهم حق الإفتاء، مؤكدا أن الأمر قاصر على "هيئة كبار العلماء".

وقد حاول ترزية القوانين (الذي يعملون على تفصيلها) في مجلس النواب تلافي الصراع مع الأزهر بالادعاء أن المشيخة قبلت القانون.

كما ادعوا أن وكيل الأزهر محمد الضويني، وافق على تشكيل "لجان فتوى مشتركة مع الأوقاف ودار الإفتاء"، خلال مناقشة القانون.

لكن المركز الإعلامي للأزهر نفى ذلك وأكد أن ما أدلى به وكيل المشيخة خلال الجلسة اقتصر على تأكيد موقف هيئة كبار العلماء الرافض لمشروع القانون بصورته المطروحة.

وأوضح أن أسباب رفض الأزهر إنشاء لجان فتوى تابعة لوزارة الأوقاف، جاء "انطلاقًا من الحرص على ضبط الشأن الديني، وإسناد الفتوى للمعنيين بها".

ونوه المركز الإعلامي للأزهر إلى أن حق الفتوى مقتصر على هذه المشيخة ودار الإفتاء ممثلين في الهيئة العامة لكبار العلماء، طبقاً للدستور.

وأشار إلى أن مشيخة الأزهر تعمل على الإفتاء من خلال 250 لجنة فتوى في كل مصر.

وظل رفض الأزهر حاسما، رغم نص مشروع القانون المقترح على أن كل من سيعمل بلجان الفتوى الخاصة بوزارة الأوقاف يتوجب عليه اجتياز برنامج تدريبي من إعداد المشيخة وتحت إشرافها في مجال الإفتاء.

ونصه أيضا أن تكون المرجعية في الفتوى حال التعارض، إلى الأزهر، ممثلا في هيئة كبار العلماء.

عقوبات وإقصاء 

وبدأ الجدل حول القانون، حين بدأ أسامة الأزهري وزير الأوقاف الجديد، منفذ أفكار السيسي، عهده بتقديم مسودة مشروع قانون لتنظيم إصدار الفتوى الشرعية، بحجة ضبط عملية الإفتاء الشرعي، وتحديد الجهات المختصة به.

ونص مشروع القانون على أن تختص هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية بإصدار الفتاوى الشرعية العامة المتعلقة بالقضايا المجتمعية.

لكنه نص أيضا على أن "هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلامية، ودار الإفتاء المصرية، ولجان الفتوى بوزارة الأوقاف ستتولى إصدار الفتاوى الخاصة بالأفراد".

ونص القانون على إنشاء “لجان فتوى شرعية خاصة” داخل وزارة الأوقاف، على غرار لجان الأزهر.

وأكد مشروع القانون حق الأئمة والوعاظ بالأزهر الشريف ووزارة الأوقاف في أداء مهام الإرشاد الديني وبيان الأحكام الشرعية، دون أن يُعد ذلك تعرضًا للفتوى، مع الالتزام بأحكام قانون تنظيم الخطابة والدروس الدينية.

كما يُلزم القانون المؤسسات الإعلامية والمواقع الإلكترونية وحسابات التواصل الاجتماعي بعدم نشر أو بث الفتاوى الشرعية إلا من الجهات المختصة وفقًا للقانون، وكذلك عند استضافة متخصصين للفتوى في برامج وسائل الإعلام.

مع فرض عقوبات على من يخالف أحكامه، سواء بإصدار الفتاوى الشرعية دون اختصاص، أو بنشرها في وسائل الإعلام دون التحقق من صدورها عن الجهات المعتمدة. 

وتنص المادة 8 على معاقبة "كل من يخالف حكم المادتين 3 و7 من القانون بالحبس مدة لا تزيد على 6 أشهر وبغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تزيد على 100 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، وحالة العود تضاعف العقوبة" (1 دولار = 50 جنيها).

وحددت المادة الثالثة من المشروع الجهات المختصة بإصدار الفتوى الشرعية العامة، في هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ودار الإفتاء.

كما يختص بالفتوى الشرعية الخاصة كل من: هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلامية، ودار الإفتاء، ومعهم لجان الفتوى بوزارة الأوقاف.

بينما أكدت المادة السادسة أن المهام التي يباشرها الأئمة والوعاظ في الأزهر وجهاته التابعة، والمتخصصون في وزارة الأوقاف، أو غيرهم من المصرح لهم بالإرشاد الديني، لا تعد تعرضًا للفتوى.

يرى أئمة وأساتذة أزهريون أن هدف القانون ليس تنظيم الفتوى بقدر ما هو مزاحمة الأزهر في اختصاص شديد الأهمية.

وأكدوا أنه يأتي ضمن محاولة انتزاع السلطة الدينية من الأزهر وتوزيعها بين الجهات الموالية أكثر للسلطة مثل دار الإفتاء ووزير الأوقاف، وخلق صراع بين المؤسسات الدينية، لأن القانون بذلك يُعدد جهات الفتوى ولا ينظمها.

أستاذ في جامعة الأزهر رفض الكشف عن اسمه لحساسية منصبه، أبلغ "الاستقلال" أن خطورة التعدي على اختصاص هيئة كبار العلماء فيما يخص الفتوى، يجعل هذا الأمر بيد الأوقاف أيضا، بخلاف دار الافتاء.

وبين أن وجود ثلاث جهات دينية كهذه قد يؤدي إلى استغلال السلطة أحدها أو أكثر لطلب فتاوى لا يرضى عنها الأزهر.

وأوضح أن الخلاف حول مسائل تقنين الطلاق الشرعي أو تجديد الخطاب الديني أو قضايا دينية أخرى تتعلق بشؤون الحكم والاقتصاد، يمكن أن يدفع السلطة لطلب فتوى تتناسب مع موقفها، ويرفضها الأزهر.

فيتم في هذه الحالة إسباغ "الشرعية" على الفتوى بصفتها صادرة من جهة إسلامية قانونية، حتى ولو كان الأزهر يعارضها.

وأشار إلى أن المادة الخامسة من القانون منحت هيئة كبار العلماء "سلطة الترجيح في حال التعارض بين فتاوى الجهات المختصة".

 لكن من يضمن الالتزام بهذه المادة حال كان الخلاف يخص مطلب للسلطة؟ ومن يتحمل الأزمة التي تحدث بين المؤسسات الدينية حينها؟

وسبق وتسببت "مرجعية الفتوى" في خلاف مشابه، أثناء مناقشة قانون تنظيم دار الإفتاء عام 2020، والذي منح الأخيرة صفة "هيئة دينية" مع جعل تبعيتها لوزارة العدل.

وهو ما عده الأزهر الشريف حينها "يمس استقلاليته عبر إنشاء كيان مواز له".

وحينها توافق النواب على حذف صفة "الدينية" عن دار الإفتاء لتجنب إصرار الأزهر على تبعيتها له.

لكن الأزهر ظل مصرا على وجود تناقض بين نزع صفة "الدينية" ومنح الدار حق إبداء الرأي في مسائل شرعية.

وذلك قبل أن يتم سحب مشروع القانون من التصويت، بعدما أحاله لمجلس الدولة، بسبب اعتراضات الأزهر على تعارض القانون مع اختصاصاته الدستورية والقانونية، وعدّ القانون غير دستوري.

سحب المكاسب

وانتقد عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، عبدالغني هندي، إقرار اللجنة الدينية بمجلس النواب برئاسة علي جمعة، مشروع قانون تنظيم الفتوى العامة بشكلٍ نهائي رغم اعتراض الأزهر الشريف وطلب دار الإفتاء التأجيل للدراسة.

ونقلت عنه منصة "نيوز رووم" قوله: إن الأزهر لديه منطق في رأيه، ولو مرر البرلمان كله القانون واعتمده، سيكون مآله الطعن بعدم الدستورية لأن المشيخة هي المخولة دستوريا بهذه القضية.

ويحذر الباحث الشرعي "مصطفى منير" من أن إضافة "الأوقاف" لقانون تنظيم الفتوى غير دستوري، لعدم دستورية أي مؤسسة موازية للأزهر الشريف.

وأشار إلى حكم محكمة سابق بعدم دستورية قانون دار الإفتاء المصرية. ووصف هذا القانون بأنه "تسلل من الأبواب الخلفية وخديعة للأزهر".

وتنص مادة (7) من الدستور على أن "الأزهر الشريف هو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين".

ويشير أستاذ الأزهر، الذي فضل عدم ذكر اسمه لحساسية الخلاف الحالي، إلى أنه حين جرى تمرير فصل دار الإفتاء والمفتي عن المشيخة وهيئة كبار العلماء وجعل تعيينه في يد الرئاسة، بدأت جهات في الدولة تستند للمفتي لا المؤسسة الدينية الأزهرية.

وأوضح لـ "الاستقلال" أنه عقب قرار السيسي تعيين المفتي، لجأت محكمة أمن الدولة طوارئ مثلا في قضية الباحث أحمد عبده ماهر إلى لجنة من دار الإفتاء المصرية، لا الأزهر.

وذلك لتوضيح ما إذا كان كتابه محل النزاع "إضلال الأمة بفقه الأئمة" يحتوي على ازدراء للدين الإسلامي من عدمه، "وهذا ليس من مهام دار الإفتاء، ولكن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر"، وفق تقديره.

ومع أن القانون حدد مهام دار الإفتاء في ثلاث هي: التصديق على أحكام الإعدام (رأيها استشاري)، واستطلاع الأهلة، والإجابة عما يرد إليها من أسئلة من مؤسسات الدولة، فإن هذه الواقعة ولجوء المحكمة للمفتي لا الأزهر، تعني سحب اختصاص هام من المشيخة تدريجيا.

ولو أضيف استقلال المفتي عن الأزهر وجعل تعيينه بيد الرئاسة، إلى السماح لوزارة الأوقاف بتولي الإفتاء أيضا وفق القانون الحالي، سيكون هذا مؤشرا على خطة لإقصاء المشيخة ونفوذها تدريجيا.

ويرى محللون أن ما يفعله نظام السيسي، لا يبدو أن الهدف منه فقط هو تحجيم ونزع لسلطة الأزهر، وإنما سحب للمكاسب التي حصل عليها عقب ثورة 25 يناير 2011.

فقد أعادت ثورة 2011 مكانة الأزهر في المجتمع المصري، وسمحت بإعادة ترتيب العلاقة بينه وبين ومؤسسات الدولة والنظام السياسي.

وحين شهدت الأشهر اللاحقة، لتنحي الرئيس الراحل حسني مبارك، صعوداً سياسياً سريعاً للإسلاميين، وأثار ذلك مخاوف تيارات سياسية أخرى ومؤسسات (المجلس العسكري)، وجدوا الملاذ في الأزهر، حسبما تشير دراسة لمجلة "الفراتس"، 14 يناير/كانون ثان 2025.

وأنتجت هذه التطورات تحالفاً أو صفقة سياسية بين الأزهر والتيارات المدنية ومؤسسات الدولة، فتعاضدت مصالح الأطراف الثلاثة على تعزيز سلطة القيادة الأزهرية التقليدية، المهيمنة تاريخياً، كي توازن تيارات الإسلام السياسي، وفق الدراسة.

لذا سعت مراسيم المجلس العسكري برئاسة المشير الراحل حسين طنطاوي، على تحصين مرجعية شيخ الأزهر من العزل.

وتم النص على ذلك في الدستور الجديد، خشية ما تردد حينها، بشأن هيمنة الإسلاميين على الأزهر وفرض رؤيتهم على التشريعات الدينية، وربما إقالة شيخه أحمد الطيب.

وقد أشار لهذا دراسة نشرها مركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط في نوفمبر/تشرين ثان 2013، تناولت التعديلات القانونية التي منحت شيخ الأزهر قدراً من الاستقلال عن السلطة السياسية، وذلك في تعيينه وفي عزله.

إذ صارت تنتخبه هيئة كبار العلماء بدلاً من تعيينه من رئيس الجمهورية، وحصنت منصبه من العزل. 

ورصد هذا التطور دراسة أخرى لمعهد كارنيغي، 7 يونيو/حزيران 2021، أوضحت أن "قادة الأزهر اغتنموا فرصة الثورة لمطالبة القيادة العسكرية المؤقتة، التي تولت حكم البلاد، بمنح المؤسسات الدينية استقلالية أكبر بكثير مما تمتعت به عبر عقود من الزمان".

وبالفعل تحقق لهم ما طلبوا من خلال قانون صدر على عجل في يناير 2012 واعتمده المجلس العسكري الحاكم، قبل أن يعقد البرلمان ذو الأغلبية الإسلامية أولى جلساته، وتولي الرئيس الراحل محمد مرسي، بهدف تحصين الأزهر عن النظام.

وقد أكسبت هذه التحولاتُ الأزهر قدراً أكبر من الاستقلالية في مواقفه السياسية ومزيداً من النفوذ الديني والاجتماعي.

وهو ما اصطدم به السيسي لاحقا حين استولى على الحكم، ووجد معارضة من الأزهر لمشاريعه لتحجيم نفوذ المشيخة والدين.

فحاول انتزاع هذا النفوذ مجددا عبر خلق هياكل ومؤسسات دينية منافسة للأزهر، ومن هنا جاءت مشاريع قوانين فصل دار الإفتاء عن المشيخة ومحاولة جعلها ندا له، ثم قانون الفتوى لحرمان المؤسسة الدينية من احتكارها.