محمد أحمد الراشد.. مفكر عراقي رسم "المسار" للدعاة وحثهم على "صناعة الحياة"

يوسف العلي | منذ ٣ أشهر

12

طباعة

مشاركة

"المنطلق، العوائق، الرقائق، المسار، وصناعة الحياة".. كل هذه المؤلفات وغيرها الكثير عرّفت العالم العربي والإسلامي بالداعية والمفكر العراقي محمد أحمد الراشد، الذي أثرى مسيرة الدعوة لأكثر من نصف قرن.

وفجر يوم 27 أغسطس/ آب 2024، ترجّل الداعية الراشد بعدما وافاه الأجل في أحد مستشفيات كوالالمبور بماليزيا، لتنعاه العديد من الشخصيات والهيئات حول العالم الإسلامي، ذاكرة مناقبه وإسهاماته الكبيرة، لا سيما في مجال الدعوة إلى الله.

نهاية الرحلة

الداعية عبد المنعم صالح العلي العزي، وكنيته "أبو عمار" وشهرته محمد أحمد الراشد، رحل عن عمر ناهز 86 عاما، إذ استقر به المقام في ماليزيا منذ نحو عقدين، بعدما تنقل بين العديد من البلدان العربية والأوروبية.

وفي 30 يوليو/تموز، تداول عدد من المجموعات على تطبيقات التراسل الفوري، لا سيما "الواتساب" مقطع فيديو للراحل، محمد أحمد الراشد، أثناء رقوده في المستشفى بماليزيا، وحديثه مع ممثل رئيس الوزراء الماليزي، أنور إبراهيم، الذي زاره للاطمئنان على صحته.

ووجه ممثل الحكومة خلال الزيارة، دعوة إلى الراشد بعد تعافيه وخروجه المستشفى، للقاء أنور إبراهيم، بالقول: "اهتم بصحتك حتى تعود قويا وندعوكم إلى منزل رئيس الوزراء من أجل أن تلقي له نصيحة خاصة، ونحن ننتظر هذه الساعة بإذن الله".

الراشد الذي عُرِفَ بمؤازرته للقضية الفلسطينية والدفاع عنها وعن المقاومة الإسلامية هناك، كانت له كلمة بحق انطلاق عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

وقال الراشد خلال مقال نشرته مجلة "المجتمع" الكويتية في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إن “اندفاعية (حركة المقاومة الإسلامية) حماس واعية ومدروسة، وامتلأت عقلانية وحسابا رقميا وجَبريا، وتخطيطا هندسيا، وخوارط تقدم آمِن، ولم تؤثَر عنها مجازفة ولا نزوة”.

وبين أن قرار الحركة "جماعي بعيد عن استبداد الزعامات الفردية التي تلغي وجود الأقران ورفاق الدرب، كما كان قرار (حركة التحرير الوطني الفلسطيني) فتح".

وتابع: "بل امتلأت مسيرة حماس موزونية وواقعية، فجاءت أقرب إلى السلامة، لولا أن الله تعالى كتب نوعا من النقص على جُملة البشر، والكمال متعذَر وغير وارد في خيالنا".

وأضاف: "من هنا كانت حماس قُدوة في الجهاد، الذي دَخَل ضمن حسابات القادة الإسلاميين، وانهارت تُهَم مَن يتهم كل ممارسة جهادية بأنها ترتكب نوعا من التهوّرات لتصبح من الحتم المقضي عليها".

ولفت إلى أن مثال حماس نهض كأداء بريء من المغامرة والتعسف والاندفاع الساذج الذي ابتلي به تنظيما الدولة والقاعدة وجبهة إنقاذ الجزائر وتصرفات الأفغان والشيشان، ولذلك "فإن الفرق عظيم".

ورأى الراشد أن "جهاد حماس منبثق من وجودٍ دعوي تربوي السمت، وعميق الفكر، ترعاه الاجتهادات المصلحية والمقاصدية التي تتقنها ثُلّة من علماء الشرع الدعاة المراقبين لأداء الحركة العام، والجهادي بخاصة، وبذلك عاد الفكر الجهادي ليكون مقبولا من كل الأجزاء الدعوية القُطرية، بلا وساس وهواجس وتخوفات".

وأكد أن “حماس نجحت بذلك في تسويق صفقات الجهاد الموزون، وتوارى الإنهزاميون، غير صَفاقة يُبديها الخونة الذين يتاجرون بالسلم مع اليهود لمصالحهم الشخصية، ويبيعون القضية بثمن رغدِ عيشٍ يُوعَدون به”.

وأما في الوسط الإسلامي الإيماني، فقد أذعن الجميع لأدِلّة حماس ومنطقها، وانعقد إجماع من الفقهاء على تجديد الإفتاء بوجوب الجهاد، وتحول التوجه الجهادي إلى عُرفٍ إسلامي راسخ، كما قال.

"فقيه الدعوة"

في يوم رحيله، نعاه رئيس "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" علي القرة داغي، عبر بيان نشره على منصة "إكس"، قال فيه: "بكل حزن وأسى، وتسليم بقضاء الله وقدره، أودع صديقي الغالي وشقيق الروح، ونزيل القلب، فقيه الدعوة، وأديب الدعاة، المفكر، وأحد صناع الحياة، عبد المنعم صالح العلي العزي، الذي رحل عن عالمنا تاركا خلفه خزينة معرفية وإرثا فكريا رفيع المستوى".

وأشار إلى أن "الراشد كان أحد أبرز القيادات الإسلامية التي تركت بصمة واضحة في تاريخ الدعوة. تتلمذ على يد كبار الشيوخ والعلماء في بغداد، مثل الشيخ أمجد الزهاوي والشيخ العلامة محمد القزلجي، حيث جسّد روح العلم والإيمان". 

وأكد القرة داغي أن الراشد "لديه تفكير عميق ووضوح في الرؤية، كان كاتبا بارعا، ومفكرا عميقا إذ إن أسلوبه الأدبي جعل من كتاباته قريبة من قلوب الناس. من يقرأ أعماله يجد نفسه أنه أمام أديب كبير، وقد تتلمذ على عديد من المعلمين، وعبر عن ذوقه الأدبي  في الكتب التي قرأها".

من جهتها، نعت "هيئة علماء فلسطين" إلى "الأمة الإسلامية وأهل العلم والدّعوة والرباط والجهاد في سبيل الله والعاملين لخدمة الإسلام ومقدساته في كلّ مكانٍ ببالغ الصّبر والاحتساب، المفكر الكبير ومربي الأجيال ومنظّر الدعوة الإسلامية، الأستاذ الراشد".

وقالت الهيئة في بيانها إنه "قامةٌ شامخةٌ من قامات العلم والدعوة في الأمة الإسلامية، الذي قضى حياته مضحيا مهاجرا مجاهدا في سبيل الله تعالى ومنتصرا لمبادئه ودعوته ومنافحا عن دينه ورسالته في وجه الطغيان والاستبداد".

وأضافت: "قد لبّى (الراشد) نداء ربّه تعالى دون أن تكل همته أو تلين عزيمته في بناء الأجيال والذّود عن الحرمات والمقدسات وخدمة قضايا الأمة وفي القلب منها قضيّة فلسطين والقدس ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم". 

متعدد المواهب

ولد عبد المنعم صالح العلي العزي في حي الأعظمية في مدينة بغداد عام 1938 من عشيرة بني عز، وهم من "عبادة"، ويرجعون إلى عامر بن صعصعة (أي من العرب المضرية العدنانية).

درس الابتدائية في مدرسة تطبيقات دار المعلمين، وهي أرقى مدرسة في العراق، وكان وهو ابن ثماني سنوات يقرأ المجلات الأدبية كمجلة الأنصار وغيرها بتشجيع من أخيه الأكبر.

وتميز عبد المنعم في صباه بالوقار والجدية وعفة اللسان والصدق والطاعة والالتزام والاحترام لمعلميه.

كما أنه واسع النشاط متعدد المواهب، فكان يلعب كرة القدم ويجيد الركض والسباحة، وقد عبر نهر دجلة وعمره 8 سنوات دون الاستعانة بأحد.

تفتحت نفسه منذ الطفولة المبكرة على العلم والقراءة والمطالعة، فقد كان شقيقه الأكبر يضع مجلة "الرسالة" المصرية في يده فيأتي عليها من الغلاف إلى الغلاف دون أن يفهم منها إلا قليلا.

ولكن ترسبت منها في اللاشعور بعض معانيها، مما ضاعف لديه سمة الجد الذي فطره الله تعالى عليه.

درس الراشد في كلية الحقوق بجامعة بغداد وتلقى فيها أصول الفقه والمواريث ومسائل الطلاق، وأبوابا من المعاملات عبر الفقه المقارن، مما أدى إلى توسيع مداركه في العلوم الشرعية، وتخرج فيها عام 1962.

عمل محمد أحمد الراشد في بداية حياته المهنية محاميا، ثم عمل صحفيا، ثم تفرغ للكتابة في العمل الدعوي.

تتلمذ على العلماء السلفيين، ومنهم: الشيخ عبد الكريم الشيخلي، وهو من علماء السلف، وكذا الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي، والشيخ محمد القزلجي الكردي، والشيخ أمجد الزهاوي، ثم الشيخ محمد بن حمد العسافي.

الانتماء للإخوان

وتأثر الراشد بفكر مؤسس الإخوان المسلمين بالعراق محمد محمود الصواف، وبقصائد شاعر الدعوة وليد الأعظمي، وتميز بسعة اطلاعه على كتب الأدب والشعر بدءا من العصر العباسي حتى العصر الحديث إذ تأثر بالرافعي ومحمود شاكر وعبد الوهاب عزام وغيرهم كثير.

وبدأ اهتمام الراشد ووعيه السياسي، وهو في الثانية عشرة من عمره، حين كان في المدرسة المتوسطة.

إذ كانت القضية الفلسطينية في ذروة الاهتمام، إضافة إلى اندلاع المظاهرات المطالبة بإسقاط معاهدة بورتسمورث بين بغداد ولندن، والتي تنص على السماح للجيوش البريطانية بدخول العراق متى ما تشاء.

كما بدأت المطابع بإنتاج كتب عن تاريخ الحرب العالمية الثانية وقصص رومل وغيره، فتضاعف اهتمام الراشد بالقضايا السياسية.

وهو ما أدى لانخراطه في صفوف العمل الدعوي في هذه المرحلة، وكانت بداية تماس الشيخ بالإخوان المسلمين، وهو في الثالثة عشرة من عمره.

وكانت أيام عمل علني للإخوان المسلمين بالعراق في أيام العهد الملكي قبل الثورة التي جاءت في 1958، إذ انضم عمليا للجماعة في مايو/أيار 1953.

وكان يسمع خطب وتوجيهات كبار الإخوان كالشيخ الصواف، وقصائد الأعظمي، وحينما بدأ نجم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، التضييق والحصار على الدعاة في مصر، ومن ثم حوصرت الدعوة في العالم العربي معنويا.

وهنا يقول الراشد: "حوصرنا معنويا حصارا شديدا بحيث أصابنا شيء من الانعزال، وهذه العزلة قد تكون سلبية، ولكن من ناحية أخرى فيها إيجابية أنها تترك لك مجالا للتعلم والجدّ، حيث توجهت التوجه العلمي بإرشاد من أساتذتنا ونقبائنا في الجماعة".

ويضيف: “كنا نحرص على بقية العلماء السلفيين في العراق والتتلمذ على أيديهم، وهم قلة”.

فالعلماء في العراق يغلب عليهم التقليد والتصوف أحيانا، ولأن التوجه العام للإخوان هناك هو سلفي، فقد وجهونا إلى التتلمذ على يد العلماء السلفيين، كما قال.

ومع مطلع عام 1971، اضطر الراشد للاختفاء داخل العراق بسبب الظروف الأمنية، وبعد عام هاجر إلى الكويت فعمل محررا في مجلة المجتمع التي تصدرها جمعية الإصلاح.

وكتب فيها سلسلة مقالاته في إحياء فقه الدعوة، ثم انتقل إلى الإمارات وقدم للشباب والدعاة سلسلة من الدروس والدورات.

ثم انتقل للعيش في ماليزيا وإندونيسيا والسودان فسويسرا، وفي كل بلد من البلدان كان ينشر العلم الشرعي وفقه الدعوة بين الدعاة.

وتوّج الراشد نشاطاته السياسية والدعوية الممتدة على مدى نصف قرن تقريبا بتأسيس "مجلس شورى أهل السنة والجماعة" بالعراق، بهدف توحيد كلمتهم خلال مرحلة التحول السياسي.

وبعد الاحتلال الأميركي عام 2003، قدّم الراشد مجموعة من الدراسات والكتب التي ترصد الحالة الراهنة للبلاد وتبشر بعودة الأمل مثل: صحوة العراق، وعودة الفجر، ورؤى تخطيطية، ورمزيات حمساوية، وبوارق العراق، ومعا نحمي العراق.

وقدّم على مدى سنوات عمره العديد من الكتب والرسائل التي ينمّ أسلوبها عن رجل تذوق الأدب، واطلع على أمهات الكتب، وصهر محتواها بأسلوب أدبي رشيق.

ومن أبرز مؤلفاته: "المنطلق، العوائق، الرقائق، صناعة الحياة، المسار، رسائل العين، منهجية التربية الدعوية، دفاع عن أبي هريرة.

ومنها كذلك: أقباس من مناقب أبي هريرة، تهذيب مدارج السالكين، تهذيب العقيدة الطحاوية، الفقه اللاهب، أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي (أربعة أجزاء)، صراطنا المستقيم، وآفاق الجمال.

وكانت بعض دور النشر التركية قد نشرت ترجمات لكتب إحياء فقه الدعوة، وصدر المنطلق بالملاوية والتاميلية، كما تُرجمت كتبه إلى اللغات الفارسية والروسية والصينية أيضا، إضافة للإنجليزية والفرنسية.