مئوية الجمهورية.. كيف أثرت الدساتير الانقلابية على الديمقراطية التركية؟
بمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية، سلطت وكالة الأناضول التركية الضوء على الانقلابات في تركيا والدساتير المصاحبة لها والتأثير الذي تشكله على الديمقراطية في البلاد.
وتحتفل تركيا بـ"عيد الجمهورية" في 29 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، وهي ذكرى إعلان الجمهورية على يد مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.
وقال الكاتب محرم كيليتش: "مع توحيد مبادئ القانون الطبيعي والحقوق الأساسية في تاريخ الدستورية الحديث، أصبحت الدساتير بمثابة عقد اجتماعي وضمانة معيارية لحقوق الإنسان".
وفي التاريخ الدستوري للجمهورية التركية ومنذ صياغة دستور "القانون الأساسي" عام 1876، جرى تطبيق خمسة دساتير مختلفة في الأعوام 1921 و1924 و1961 و1982.
وحسب رأي الكاتب فإن دراسة هذه الدساتير التي عاصرت فترات سياسية مهمة في التاريخ السياسي الديمقراطي في تركيا يعد أمرا مهما في تقييم فاعلية الديمقراطية.
إذ تسببت الانقلابات ضد السلطة السياسية الشرعية في إيقاف عملية التحول الديمقراطي في تركيا، ليتبع هذا الأمر استخدام غير سياسي للسلطة.
كما أنّ التدخلات المناهضة للديمقراطية، والتي حالت دون عمل النظام السياسي الديمقراطي بكل مؤسساته وآلياته الأمنية، جعلت من المستحيل إنتاج ممارسة سياسية آمنة على أساس حقوق الإنسان.
فلقد صعبت التدخلات المدمرة المناهضة للديمقراطية تنفيذ مُثُل سيادة القانون وحقوق الإنسان في تركيا.
وعلى عكس الأنظمة السياسية التحررية ومبادئ الحرية حيث لا يمكن تقييد الحقوق والحريات الأساسية إلا بشكل استثنائي بما يتماشى مع مبادئ الشرعية والتناسب والضرورة واليقين، فقد كان مفهوم النظام الاستبدادي هو السائد في تركيا.
وقد أدى الاستيلاء على الحكومة المنتخبة ذات سلطة التمثيل السياسي بطريقة غير ديمقراطية وغير قانونية، بالإضافة إلى القضاء على النظام الدستوري إلى تآكل البنية الاجتماعية وانتهاكات حقوق الإنسان في البلاد.
انقلاب 1960
أبدى الكاتب نظرته بخصوص الاستيلاء على السلطة في 27 مايو/أيار 1960 وعملية تصفية الحزب الديمقراطي، واصفاً هذا الأمر بأنه وصمة عار سوداء في التاريخ الديمقراطي لتركيا.
وخلال هذه العملية أطاحت إدارة المجلس العسكري بالسلطة السياسية الشرعية، وبدأت عملية صياغة دستور جديد دون السعي للحصول على الشرعية السياسية.
في ذلك اليوم، جرى تنفيذ أول انقلاب عسكري على الديمقراطية في تركيا، وحل البرلمان وتعطيل العمل بالدستور، ثم إعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس، واثنين من وزرائه وسجن مسؤولين آخرين.
عام 1960 كانت الجمهورية التركية لا تزال في عامها الـ37، وكان الحزب الحاكم هو الحزب الديمقراطي، الذي أنهى فترة حكم الحزب الواحد في البلاد.
وكان رئيس الوزراء هو عدنان مندريس، الذي فاز حزبه بالانتخابات في 14 مايو 1950، ورئيس الجمهورية هو جلال بايار، الفائز بالانتخابات في 2 مايو 1954.
وبما أنه كان نتاجاً للتدخل العسكري ضد الحكومة الشرعية، فإن دستور 1961 يحتوي بعض الجوانب التي تختلف عن الدساتير السابقة من حيث قائمة الحقوق والحريات، بل وجرت إضافة المزيد من التفاصيل فيه.
وقد أحدث الانقلاب العسكري الذي وقع في عام 1960 تحولا مأساويا وصادما في التاريخ السياسي الديمقراطي التركي.
لم ينتهِ الأمر بوضع دستور جديد في النظام القانوني الوطني موضع التنفيذ فحسب؛ بل ساعد هذا الانقلاب في تحول حكم المجلس العسكري إلى بنية استبدادية تتدخل في المجال السياسي والإدارة المدنية.
وحسب قول الكاتب، فإن هذا الدستور الذي دخل حيز التنفيذ في 9 يوليو/تموز 1961 أضعف العديد من الآليات الدستورية الموازِنة التي تضمن الفصل بين السلطات.
وعلى أثر تشكيل الدستور المذكور، فقد شهد هذا الهيكل السياسي المناهض للديمقراطية تغييرات كبيرة في تلك الفترة وكان أحد التغييرات مذكرة 12 مارس/آذار 1971.
فبموجب هذه المذكرة، جرى اتخاذ بعض الإجراءات الإدارية والقانونية التقييدية فيما يتعلق بممارسة الحقوق والحريات الأساسية، مثل زيادة فترة الاعتقال أولا إلى 7 ثم إلى 15 يوما.
دستور 1982
تابع الكاتب: الدستور الانقلابي الثاني في تاريخنا السياسي، كان عام 1982 وهو نموذج غير نمطي يتحدى إطار النظام البرلماني الكلاسيكي.
إذ لم يقتصر منصب رئيس الجمهورية على "السلطات الرمزية والاحتفالية" بما يتماشى مع روح البرلمانية الكلاسيكية فحسب، بل مُنح سلطات تنفيذية واسعة للغاية باعتباره منصب وصاية شرعية في دستور 1982.
وقد جرى تصوير الرئيس، الذي يوصف بأنه "زعيم الدولة" في الدستور، على أنه الآلية المسيطرة على المجال السياسي لسلطة الوصاية الأصيلة.
ويمكن تقييم هذا الوضع على أنه نتيجة لانعدام الثقة الوجودية لحكومة الوصاية الانقلابية تجاه المؤسسات وممثلي المجال السياسي كافة.
وحسب مفهوم الدستورية الحديثة، فإنّ الهدف هو حماية حقوق وحريات الفرد ضد السلطة العامة عن طريق الحد من قوة السلطة.
إلا أن دستور 1982 لم يهدف إلى تعزيز السياسة الديمقراطية ومجال الحريات؛ بل كان الهدف منه تعزيز سلطة نظام الوصاية.
وأضاف الكاتب أنه يمكن التأكيد على أن دستور 1982 أنتج نظاما دستوريا وصائيا.
وفي هذا الصدد، زاد دستور 1982 من قوة نفوذ مؤسسات الوصاية العسكرية على السياسة المدنية.
وأدى هذا الوضع إلى زيادة التساؤلات حول حرية وديمقراطية الحياة السياسية في النظام القانوني الوطني.
وكحكم تمجيدي لجهاز الدولة، فقد جرى التأكيد على أن واجبات الأفراد هي تجاه الدولة وليس المجتمع.
وحسب قول الكاتب، تضمن دستور 1982 ممارسة سياسية إقصائية تبنت فكرة أن العلاقة بين السكان المدنيين والمجال السياسي يجب أن تقتصر على التصويت في الانتخابات فقط.
وعلى الرغم من أن قبول دستور 1982 قد جرى بنسبة تصويت عالية بلغت 91.37 بالمئة، فإن الاستفتاء أُجري في مناخ سياسي غير ديمقراطي حد من المشاركة والتمثيل السياسي.
تغييرات واسعة
ومع التغييرات الشاملة التي نتجت عن دستور عام 1982، أصبح من الصعب إغلاق الأحزاب السياسية منذ عام 2002.
ومع اللوائح والنصوص الجديدة التي أضيفت لاحقاً، جرى إدخال الحق في تقديم الطلبات الفردية إلى المحكمة الدستورية، كما تم إنشاء مؤسسات قانونية وإدارية جديدة.
وأُدرِجَ التمييز الإيجابي تجاه الفئات الضعيفة كجزء من الدستور، إلى جانب ضمان الحق في الحفاظ على أمن البيانات الشخصية والعديد من الحقوق المماثلة دستوريًا.
وبذلك فقد أحدَثَت هذه التغييرات الشاملة تحسنا نسبياً من حيث الروح الانقلابية المناهضة للديمقراطية المتأصلة في دستور 1982 ووصايته على المجال السياسي.
وحتى الآن، فقد أجريت بعض الإصلاحات الدستورية من خلال تغيير 134 مادة من أصل 177 مادة في الدستور.
إذ كان دستور 1982 يتمتّع بحق الوصاية غير السياسية، والتي تُمَكّن من إدانة الشرعية الديمقراطية احتجاجاً بـ "الهشاشة السياسية" للمجال السياسي والفاعلين السياسيين.
واختتم الكاتب قائلاً: لذا، فمن الواضح أن تركيا بحاجة الى إصدار دستور جديد بما يليق بالذكرى المئوية لتأسيسها.
وبين أن أهمية هذا الدستور ستكون في أنه يلغي النسيج المعياري المناهض للسياسة والوصاية.
ولفت إلى أنه يجب صياغته من خلال منظور دستوريّ الحقوق ليأخذ في الاعتبار التحولات الاجتماعية والتكنولوجية المتغيرة.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أكد أن حكومته لم تتخل عن هدفها المتمثل في إعداد دستور جديد ديمقراطي ومدني وشامل للبلاد.
وقال أردوغان في 12 سبتمبر: "إن أكبر طعنة وجهها القائمون على انقلاب 1980 في قلب تركيا، هي دستور عام 1982 الانقلابي الذي مازالت تركيا تتحدث عنه وتناقشه".
وتابع: "لن نتوقف أبدا عن العمل والنضال حتى نأتي بالدستور الجديد لأمتنا، وهو أحد أهم أهداف رؤيتنا المئوية".