لماذا شددت إسرائيل رقابتها على الإعلام خلال تغطية العدوان على غزة؟
مع مواصلة إسرائيل عدوانها على قطاع غزة واجتياحه بريا، أقرت تل أبيب مزيدا من القواعد التي تضبط ما تنشره وسائل الإعلام العبرية حول تفاصيل المعركة، بما لا يخرج عن الرواية التي تناسبها والموجهة للرأي العام الداخلي والغربي كذلك.
وأكد موقع "إنترسبت" الأميركي أن الرقابة العسكرية الإسرائيلية أصدرت تعليمات بشأن التغطية الإعلامية للعدوان على غزة، تحظر بموجبها على وسائل الإعلام تناول 8 قضايا أو نشرها أو التعامل معها دون الحصول على موافقة مسبقة من الرقيب العسكري.
رقابة إعلامية
وأكد الموقع في تقرير وصفه بـ"الحصري" ونشره في 23 ديسمبر 2023، أنه اطلع على وثيقة تحمل توقيع رئيس الرقابة في الجيش الإسرائيلي العميد الجنرال كوبي ماندلبليت، والتي تتضمن وجوب عرض الأخبار عن تلك القضايا على الرقابة العسكرية قبل السماح بنشرها.
وعلى رأسها ملف الأسرى، كالتفاصيل الشخصية أو أي منشورات تتعلق باحتجازهم أو وضعهم الصحي أو الموقف الإسرائيلي في المفاوضات المتعلقة بإطلاق سراحهم أو أي تفاصيل تتعلق بالمفاوضات.
كما تحظر الوثيقة نشر أخبار التفاصيل المتعلقة بالعمليات العسكرية، ومواقع القوات ومناطق تجمعها، وتحركات القوات وخطط العمليات، وما قد يعرض القوات للخطر، ويشمل ذلك مواقع وقدرات أنظمة الدفاع الجوي مثل القبة الحديدية، ومنع نشر أي صور أو مقاطع فيديو يمكن من خلالها معرفة أي معلومات بشأن القوات.
ويحظر القرار نشر المعلومات الاستخبارية بشأن "نيات العدو أو قدراته"، والتفاصيل المتعلقة بأنظمة التسليح التي يستخدمها الجيش، بما في ذلك الأسلحة التي تستولي عليها المقاومة الفلسطينية، حتى ولو بالنسب لبيانات المقاومة.
ويمنع القرار كذلك، الحديث عن هجمات الصواريخ، حيث يحظر نشر أي أخبار عن هجمات الصواريخ التي تصيب أهدافا لبنية تحتية ذات أهمية إستراتيجية، مثل محطات الطاقة وتلك الخاصة بالمياه والغاز ومراكز النقل والقواعد العسكرية والمصانع وغيرها من الأماكن الأخرى الحساسة.
كذلك يحظر القرار نشر أخبار عن الهجمات الإلكترونية التي تستهدف أجهزة الأمن والمؤسسات الوطنية، وكذلك نشر أي أخبار عن الهجمات الإلكترونية التي تنفذها إسرائيل في غزة.
ويمنع أيضا الحديث عن زيارات كبار المسؤولين الإسرائيليين إلى مناطق القتال خلال وقت وجودهم، ويشمل ذلك رئيس الوزراء أو وزير الدفاع أو رئيس الأركان أو الوزراء أو أعضاء البرلمان وغيرهم من كبار المسؤولين.
ووفق الوثيقة ذاتها، من المحظور نشر الأخبار المتعلقة بمجلس الحرب الإسرائيلي سواء التفاصيل أو المعلومات التي تجري مناقشتها خلال اجتماعات المجلس حول عملية "السيوف الحديدية" وهو الاسم الذي أطلقته إسرائيل على عدوانها في غزة لمواجهة "طوفان الأقصى".
وتعرَّف "الرقابة العسكرية" على أنها مجموعة القوانين التي يتم فرضها لحظر نشر بعض المواد الصحفية والإعلامية على وسائل الإعلام والتي ترى فيها السلطات أن نشرها قد يتسبب بضرر نفسي أو عسكري أو قانوني على الدولة التي تفرض هذه الرقابة أو مواطنيها.
وتفرض إسرائيل رقابة عسكرية على وسائل إعلامها، بحيث لا تنشر أي مادة تتعلق بالأمن قبل الحصول على إذن بنشرها من رقابة الجيش.
ويتم تشديد هذه الرقابة التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي خلال كل عدوان، إذ إن أي معلومة أو صورة تتعلق بالجيش والأمن واجتماعات الحكومة خلال الحروب لا تنشر إلا بعد إجازتها من الرقيب.
ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 منعت الرقابة العسكرية نشر أي تسريبات عن اجتماعات الحكومة أو المداولات السياسية السرية.
لذلك غابت تلك الأخبار عن الإعلام العبري الذي تجند بالكامل في العدوان على قطاع غزة.
ومنذ أن بدأ العدوان على غزة، خضعت أكثر من 6500 مادة جديدة للرقابة الكاملة أو الجزئية من قبل الحكومة، حسبما قال جاي لوري، زميل باحث في "معهد الديمقراطية" الإسرائيلي لموقع "ذي إنتيرسيبت" الأميركي.
وأصبحت وسائل الإعلام الإسرائيلية ذراع الدعاية الحكومية في زمن العدوان على غزة، لدرجة أنها اعتمدت حصريا على البيانات العسكرية الرسمية وتجاهلت تماما الخسائر الفلسطينية.
وباتت الأخبار بجزء كبير منها معتمدة على المؤتمر الصحفي اليومي للمتحدث العسكري الأدميرال دانيال هغاري، وذلك بهدف تقليل تلك التغطية من أهمية الأسئلة الحرجة التي نشأت خلال العدوان على غزة مثل مدى خطورة المناورة البرية على حياة الرهائن الإسرائيليين والذي أدى لمقتل العشرات منهم منذ بدء العملية البرية في 27 أكتوبر 2023.
وتضم الإحاطات الصحفية المسائية لهغاري في العادة بعض الخرائط، وصور الأقمار الصناعية، والتسجيلات الصوتية، ومقاطع الفيديو وغيرها لدعم وجهة نظر إسرائيل وحدها.
ويحاول هغاري أن يظهر في إحاطته لـ"أعين العالم" أن العدوان الإسرائيلي على غزة "مشروع" رغم الحجج التي يسوقها تبدو مقبولة نوعا ما في الداخل الإسرائيلي، بينما لا يتم تصديقها أو تبدو سخيفة في الخارج.
ومع ذلك، لا يمكن أبدا تحديد العدد الفعلي للقصص الجديدة التي تأثرت بالرقابة الإسرائيلية حول ما يجري بغزة ومنعت وسائل الإعلام من تناولها؛ خشية نسف الصورة الحقيقية لعمليات الإبادة وجرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين بغزة.
صورة واحدة
ونهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، قدم مكتب وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو قارعي، اقتراحا لوقف تمويل مؤسسة صحيفة "هآرتس" ووقف الإعلانات ورسوم الاشتراك لجميع مؤسسات الدولة بعد نشرها تقارير تنتقد الجيش.
وفرضت تلك العقوبات على "هآرتس"، يسارية التوجه، بسبب تغطيتها للعدوان و"نشر الدعاية الانهزامية والكاذبة والتحريض ضد الدولة أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة"، وفق ما قال مكتب وزير الاتصالات.
ويبدو واضحا أن الصحيفة تجاوزت تعليمات الرقيب العسكري ومررت تقارير دون أن يمر عليها.
ولفت قارعي إلى أن “وقف شراء الخدمات من هآرتس من قبل الهيئات الحكومية سيقلل من الضرر الشديد الذي يشعر به المواطنون الإسرائيليون ليس فقط من المنشورات في الصحيفة، ولكن أيضا من حقيقة أنهم مجبرون على دفع ثمنها من أموال الضرائب".
ويمنع قانون الرقابة العسكرية بإسرائيل نشر أي معلومة تمس الجيش والأمن واجتماعات الحكومة خلال أي عدوان إلا بعد إجازتها من الرقيب.
وعملت هيئة الرقابة العسكرية على إجراء فحص صارم للمقالات الإعلامية والمواد التي يرسلها المراسلون الحربيون عن العملية في قطاع غزة.
وبحسب الحكومة الإسرائيلية، فإن للمنشورات التي تتناول تفاصيل القتال عواقب سلبية على العملية العسكرية الجارية.
بالإضافة إلى ذلك، يحاول مراقبو الجيش الإسرائيلي إجبار وسائل الإعلام الأجنبية على إرسال مقالاتهم حول العدوان على غزة للموافقة عليها قبل نشرها.
ووفقا لوزارة الدفاع الإسرائيلية، يتعين على الصحفيين المحليين والدوليين الموافقة على سياسات الرقابة من أجل مواصلة عملهم في إسرائيل.
ولم تقتصر الرقابة العسكرية الإسرائيلية على الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة بل تطال المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي.
وعقب عملية "طوفان الأقصى" عقدت إسرائيل اتفاقيات مع كبريات شركات مواقع التواصل الاجتماعي في العالم مثل "ميتا" المالكة لفيسبوك، ومنصة "إكس" المملوكة لرجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك، بهدف حذف أو حظر أي محتوى ترى فيه أنه "يضر بإسرائيل" وفق زعمها.
ولهذا فإن أولئك الذين يتخذون موقفا مؤيدا للفلسطينيين يجدون أن حساباتهم محظورة أو خاضعة للرقابة أو منخفضة الرؤية.
ويتمثل الجانب الآخر من هذه الإستراتيجية الإسرائيلية في التعاطي مع الرقابة على وسائل الإعلام في محاولة إقناع العالم بالتعاطف مع إسرائيل.
إذ يتتبع الصحفيون والمراسلون القوات الإسرائيلية في غزة لتوثيق العملية من وجهة نظر إسرائيل فقط.
ولدعم الرواية الإسرائيلية وتبرير عدوانها على غزة، قام الجيش الإسرائيلي بتجنيد جنود احتياط وخبراء إعلاميين، مما ضاعف مكتبه الصحفي الدولي الذي يتواصل بـ14 لغة.
وقامت وحدات أخرى، مثل مديرية الدبلوماسية العامة الوطنية، بإحضار متحدثين جدد، للمساعدة في عرض وجهة نظرهم على العالم.
ولا تسمح إسرائيل للصحفيين الأجانب بدخول غزة والإبلاغ عما يرونه بحرية أيضا.
وأكد مراسل شبكة "سي إن إن" الأميركية، فريد زكريا، أن الجيش الإسرائيلي يسمح حاليا فقط بدخول الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزة الذين يوافقون على "تقديم جميع المواد واللقطات إلى الجيش لمراجعتها قبل النشر".
وقال زكريا إن شبكة "سي إن إن" وافقت على هذه الشروط "من أجل توفير نافذة محدودة على العمليات الإسرائيلية".
ومع ذلك، ورغم كل هذه الجهود، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي إلى حد كبير، لم تعد إسرائيل قادرة على إخفاء الحقيقة حول سلوكها الإجرامي والوحشي في غزة التي أدى القصف الإسرائيلي فيها لاستشهاد أكثر من 21 ألف فلسطيني.
ولم يعد بإمكان إسرائيل السيطرة على السرديات والرأي العام حول ما يجرى في فلسطين.
ومع فقدان وسائل الإعلام الرئيسة قدرتها على اتخاذ القرار بمفردها بشأن ما يمكن أن يشاهده الجمهور المحلي وحتى الغربي، فقد أصبحت وحشية الاحتلال مكشوفة أمام الجميع ليراها.
ويسخر مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي خارج إسرائيل علنا من محاولات الأخيرة اليائسة للسيطرة على رواية عدوانها على غزة، ويكشفون بسرعة الأكاذيب الإسرائيلية التي ترددها وسائل الإعلام الرئيسة.
وعندما نشر أحد الناشطين الإسرائيليين مقالا يشجب فيه ما أسماه "الديكتاتورية الشاملة" في إسرائيل، تم اعتقاله في غضون أيام عندما داهمت الشرطة شقته في حيفا.
وبالمثل، جرى أيضا احتجاز مدرس تاريخ إسرائيلي بعد أن كتب على فيسبوك أن الفلسطينيين لم يعرفوا "يوما واحدا من الحرية الحقيقية".
وضمن هذا السياق، يرى كاتب العمود في "هآرتس"، أكيفا إليدر، أن "إسرائيل تهدف من إقرار تلك القواعد منع تقويض أهداف عمليتها العسكرية بغزة، رغم أن الصحفيين في العمليات هم إما محاربون قدماء أو خريجون من الخدمة السرية للموساد ويعرفون القواعد الإعلامية، ولهذا فإنه وقت الحرب يصبح الصحفيون جزءا من الجيش".
وأضاف إليدر خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة الجزيرة الإنجليزية في 25 ديسمبر، "لذلك هم يقومون بإعداد تقارير متوازنة كي لا تتعارض مع ما يقوض على سبيل المثال صفقة خروج الأسرى، لكون الإسرائيليين يشاهدون رواية واحدة، وهذا يعطي إسرائيل الإذن في أن تفعل ما يحلو لها في غزة عقب السابع من أكتوبر".
ونوه إلى أن "الإسرائيليين الذين يكلفون أنفسهم عناء متابعة وسائل التواصل الاجتماعي فإنهم يتعرضون لرؤية صورة غير تقليدية عن تلك التي يبثها الإعلام الرسمي بإسرائيل".
ومضى يقول: "ولهذا يحاول الإسرائيليون متابعة المتحدث العسكري الذي يأخذ الصحفيين ومراسلي الإعلام الأجنبي إلى حيث يريد أن يذهبوا مثل رؤية الأنفاق وغيرها بغزة، وبالتالي لا يمكنهم مقابلة الفلسطينيين".
وختم إليدر: "لم أر حتى الآن أي شبكة إسرائيلية أجرت مقابلة مع امرأة فلسطينية أو طفل أو مسن في المخيمات، لأن تلك الوسائل لا تريد استعداء مشاهديها".
"العادات السيئة"
تشير تقارير صحفية إلى أن رقابة إسرائيل على وسائل الإعلام مردها لخسائر الجيش البشرية في معارك غزة، إذ أعلن منذ عملية "طوفان الأقصى" مقتل 495 جنديا بينهم 161 منذ بدء العمليات البرية على غزة، وفقا لبياناته الرسمية أواخر أكتوبر، بينما المصابون هم بالآلاف.
ولا سيما أن الجيش الإسرائيلي بعد فشله في تحقيق أهدافه العسكرية في غزة نتيجة صد المقاومة الفلسطينية للاجتياح البري، وتسعى إسرائيل للانتقال إلى مرحلة ما يسمى "الحرب الطويلة" والتي يقول الإعلام العبري إنها قد تمتد لعام.
ولهذا فإن إسرائيل تقوم بتهيئة من بالأراضي المحتلة للاستماع لخطاب واحد مصدره الموجز الذي يقدمه المتحدث العسكري للجيش اليومي.
ورغم انحيازهم لها، حث المسؤولون الإسرائيليون كذلك وسائل الإعلام الغربية على نقل الرواية الإسرائيلية وحدها.
وقال رئيس الوزراء السابق يائير لابيد خلال كلمة متلفزة في 24 أكتوبر 2023: "إذا كانت وسائل الإعلام الدولية موضوعية فهي تخدم حماس، وإذا عرضت رواية الجانبين فهي تخدم حماس.. إذا كانت تخلق تماثلا بين المعاناة دون أن تتحقق في المقام الأول من صنع هذا فهي تخدم حماس".
وأضاف: "أعلم أنكم لا ترغبون بذلك لكن هذه هي النتيجة.. لقد حان الوقت ليتغير ذلك، لا أقول لكم كيف تؤدون عملكم لكن يتعين أن يتغير ذلك، سنكون سعداء بمساعدتكم لتغيير ذلك بأي طريقة ترغبون فيها للتأكد من أن هذا الصراع يجري تغطيته بشكل مختلف جذريا".
وفي انتقاد لصحيفة "هآرتس" لطريقة تغطية الصحافة العبرية للعدوان على غزة، قالت إنه "يتم تجاهل مقتل الآلاف من العائلات الفلسطينية في غزة جراء القصف الجوي الإسرائيلي، وتظهر تغطية وسائل الإعلام العبرية صورا للمباني المدمرة دون ذكر إمكانية دفن الناس تحت الأنقاض".
وتوضح الصحيفة في تقرير نشر في 25 ديسمبر 2023 أن "عددا قليلا من الأصوات يتحدى على الهواء النهج الذي ترسمه الحكومة، وهناك تكرار مهووس بأن التقارير قد تمت الموافقة على نشرها من قبل الرقابة العسكرية".
وتقول هآرتس إن هذا يضر بدور الصحفي "لأن المشاهدين يعتادون على عدم معاملة الجانب الآخر كبشر، ثم لا يفهمون لماذا يدير العالم بأسره، الذي يرى الصور الصعبة من غزة، ظهره لنا ويعامل إسرائيل كمعتد".