تركيا والصين تسدان الفراغ.. كيف خرجت كازاخستان من عباءة روسيا؟

"النخبة الجديدة في كازاخستان لم تعد تنظر إلى روسيا كمرجعية سياسية أو ثقافية"
يفقد النفوذ الروسي في كازاخستان زخمه تدريجيا، نتيجة تغير الأجيال داخل النخبة المحلية، واعتماد موسكو في سياستها الخارجية على العلاقات الشخصية بدلا من العمل المنهجي.
هذا ما خلص إليه موقع "آر تي في" الروسي في حديثه عن تراجع موسكو ومحاولات تركيا والصين ملء الفراغ الذي تركته في كازاخستان.
وقال الصحفي الكازاخستاني ألكسندر كونستانتينوف للموقع: إن النخبة الجديدة في بلاده لم تعد تنظر إلى موسكو كمرجعية سياسية أو ثقافية، متطرقا إلى الأسباب التي قادت الكازاخستانيين إلى ذلك.

قصة نجاح
وانتقد الموقع الطرح الروسي الذي "يصور خيارات كازاخستان وكأنها محصورة فقط بين موسكو والغرب"، مشيرا إلى أن "الواقع أكثر تعقيدا بكثير". وأوضح أن "نخبة جديدة تتشكل في أستانا، يتجه جزء كبير منها نحو تركيا".
ولفهم حجم التأثير التركي، يعود إلى جذور العلاقة بين البلدين، لافتا إلى أن "تركيا كانت أول دولة تعترف باستقلال كازاخستان".
وأفاد بأن "رجال الأعمال الأتراك، بدأوا منذ أوائل التسعينيات، بالدخول إلى السوق الكازاخستانية، وإن لم يكن في مشاريع الطاقة والموارد الطبيعية التي احتكرها اللاعبون الكبار من الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا".
وأردف: "بدلا من ذلك، ركز الأتراك على قطاعات مثل البناء والفنادق والخدمات ووصلت العديد من الشركات التركية، للعمل في كازاخستان في مجالات متنوعة، من صالونات الحلاقة إلى المطاعم".
غير أن التأثير الحقيقي لم يكن اقتصاديا، بل تمثل في القوة الناعمة. ففي منتصف التسعينيات، وبمساندة الدولة التركية وجماعة غولن، افتُتحت في كازاخستان أكثر من 20 مدرسة ثانوية تركية كازاخية.
ورغم أنها عُرفت رسميا كمدارس للعلوم والرياضيات بلا توجه أيديولوجي، فقد كانت في حقيقتها أشبه بمدارس داخلية مغلقة؛ حيث لم يكن يسمح للطلاب بمغادرة السكن إلا في عطلات نهاية الأسبوع، وفق الموقع.
وقد حظيت هذه المدارس بتمويل سخي من الشركات التركية العاملة في كازاخستان، ومن الدولة التركية نفسها، مما مكنها من اجتذاب أفضل الكفاءات التعليمية.
وأردف أنه في ظل الانهيار الذي شهدته المنظومة التعليمية في التسعينيات، قدمت هذه المدارس تعليما عالي الجودة، وأصبحت ملاذا للعديد من الأسر، حتى إنها انتشرت في معظم مناطق البلاد، لتصبح ظاهرة جماهيرية.
وأشار إلى أن "الخريجين يحافظون على التواصل فيما بينهم ودعم بعضهم بعضا"، مضيفا: "يواصل العديد من هؤلاء النخبة تعليمهم في الغرب أو تركيا أو روسيا".
أما اليوم، فقد أوضح الموقع أن "هذا الجيل، الذي تتراوح أعمار أفراده بين 30 و40 عاما، يشغل مواقع قيادية في الدولة".
وعقب قائلا: "إنها قصة نجاح تركيا التي استغلت بذكاء اللحظة التي كانت فيها روسيا منشغلة بمشاكلها الداخلية وغير قادرة على الاهتمام بجوارها القريب".

نهاية جيل
على النقيض من ذلك، يروى الصحفي الكازاخستاني كيف خسرت موسكو نفوذها في أستانا، وقال: "استُبدل أبناء جيل الخمسينيات والستينيات وما قبلهم، وحل محلهم من وُلدوا بعد عام 1975".
هؤلاء الأشخاص، وفق الصحفي، نشأوا في كازاخستان المستقلة، ولم يتربوا في ظل الاتحاد السوفيتي، بل في دولة ذات سيادة، حيث تلقوا تعليمهم وفقا للمناهج والبرامج الكازاخستانية.
ويقدر أن "هذا الجيل تعرض لضربتين متزامنتين: أولا، تدهور مستوى التعليم السوفيتي الذي عم معظم دول ما بعد الاتحاد، وثانيا، البحث عن هوية وطنية ومسار مستقل".
وبحسب رأيه، "انعكس ذلك بشكل خاص على العلوم الإنسانية، مما أدى إلى انقطاع سلسلة الزمن بين الأجيال".
إلى جانب ذلك، تأثرت النخبة الكازاخستانية، كما الروسية ونخب دول الاتحاد السوفيتي السابق عموما، بما يُعرف بـ"سحر البرجوازية"، فقد توجه الجميع إلى الغرب للحصول على التعليم، ليس فقط الجامعي بل المدرسي أيضا.
في هذا الإطار، يروى الصحفي الكازاخستاني تجربته في أستانا قائلا: "عندما وصلت إلى كازاخستان في بداية الألفية، كان حوالي نصف أعضاء الحكومة من خريجي الجامعات الروسية".
واستدرك: "أما الآن، فلا يكاد يوجد في الحكومة الحالية خريجين في الجامعات الروسية".
فمن بين الأسماء القليلة التي يمكن ذكرها الوزير السابق للاقتصاد الوطني ونائب وزير الخارجية الحالي أليبك كوانتيروف، الذي تخرج في كلية الاقتصاد بجامعة تومسك الحكومية.
وهذا دون احتساب الرئيس الحالي قاسم جومارت توكاييف، الذي تخرج في معهد موسكو للعلاقات الدولية.
هذا التحول بحسب الموقع "يمثل فارقا جوهريا في العلاقات الروسية-الكازاخستانية مقارنة ببداية الألفية وحتى العقد الثاني منها".
وعزا ذلك إلى أن السياسة الخارجية الروسية في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي كانت تقوم على العامل الشخصي لا على عمل مؤسسي منظم أو بناء مؤسسات نفوذ.
وتابع: "كانت الفكرة السائدة: لماذا نبني مؤسسات تأثير مثل المنظمات غير الحكومية؟ هذا مكلف ومعقد، وروسيا لا تملك تجربة ناجحة أو مستمرة في هذا المجال، بدلا من ذلك، يمكن حل كل شيء بمكالمة هاتفية على المستوى الشخصي".
وعقب الموقع على هذا النهج قائلا: "صحيح أن (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين كانت تربطه علاقات شخصية قوية بالرئيس السابق نور سلطان نزارباييف، ولا يزال يتمتع بعلاقات جيدة مع توكاييف، لكن من المهم إدراك أن المشهد يتغير".
ففي عام 2028، إن لم يحدث طارئ، فسيتولى قيادة كازاخستان شخص آخر تماما. ووفقا للتعديلات الدستورية الأخيرة التي بادر بها توكاييف نفسه، لن يكون بإمكانه الترشح مجددا للرئاسة بعد انتهاء ولايته الحالية، إذ حُددت الرئاسة بفترة واحدة فقط.
وأردف: "مسار العلاقات بين كازاخستان وروسيا، يظل منطقة غامضة لم تُستكشف بعد". واستطرد معبرا عن الواقع الجديد في دوائر السلطة: "النخبة الحالية لا تمتلك الروابط الأفقية التي كانت لدى الجيل السابق".
واسترسل: "ففي الماضي، من درسوا في موسكو كان لهم أصدقاء في روسيا شقوا طريقهم أيضا في الحكومة أو قطاع الأعمال، الأمر الذي وفر شبكة علاقات غير رسمية تسمح بحل أي مسألة بمكالمة من صديق".
أما اليوم، فيرى الموقع أن "مستوى التفاعل هذا لم يعد قائما، إذ إن أصدقاء النخبة الجديدة يوجدون في الغرب أو تركيا أو داخل كازاخستان، لكن ليس في روسيا".

توازن القوى
وقارن بين ولاءات النخب الحاكمة قديما وحاليا بالقول: "إذا كان التوزيع في العقد الأول من الألفية على النحو الآتي: 60 بالمئة من النخبة مائلة لروسيا، 25 بالمئة للغرب، و15 بالمئة للعالم التركي والإسلامي، فإن الصورة اليوم تغيرت جذريا".
وأردف: "فقد بقي تأثير الغرب عند حدود 25–30 بالمئة، وتراجع نفوذ روسيا إلى 30 بالمئة، فيما تقاسمت الصين وتركيا والعالم العربي المساحة الباقية".
وتناول الموقع الروسي التجربة التركية في البلاد، موضحا الإشكالية التي تواجهها والفرق بينها وبين نموذج التنمية الصيني.
وقال: "تركيا تروج بقوة لقيمها ومشروعها الثقافي، فالرئيس رجب طيب أردوغان يدفع بقوة نحو تعزيز منظمة الدول التركية، ويروج لفكرة العالم التركي".
ورأى أنه بعد تفكيك حركة غولن (بعد اتهامها بتنفيذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016)، لم تُغلق المدارس الكازاخية التركية، بل جرى نقلها ببساطة إلى جمعية رسمية تابعة لأردوغان، كما أطلقت أنقرة عددا كبيرا من المبادرات والفعاليات الثقافية.
واستدرك الموقع: "هناك إشكالية تتمثل في أن نزارباييف وتوكاييف (الرئيسان السابق والحالي لكازاخستان) لا يميلان إلى عد تركيا زعيمة مطلقة للعالم التركي، كما يرغب أردوغان".
"فكلاهما يريان أن بلدهما ليست أقل شأنا من تركيا، وهناك تنافس واضح على من يكون له التأثير الأكبر، فكازاخستان بالنسبة لهم ليست أذربيجان، التي تعمل بوضوح ضمن الفلك التركي"، على حد قوله.
مع ذلك، لفت إلى أن "المواطن الكازاخستاني العادي يعرف تركيا أكثر من روسيا".
وفسر ذلك قائلا: "كازاخستان بلد شاب، وغالبا ما يكون المواطن من الطبقة الوسطى قد زار تركيا مرة واحدة على الأقل، للسياحة أو لزيارة أقارب أو لأغراض تجارية".
كما "أن قطاع الأعمال التركي حاضر بقوة في المشاريع الصغيرة مثل: صالونات الحلاقة والمقاهي والشركات الصغيرة".
ونوه إلى أنه "بعد النزاع بين أرمينيا وأذربيجان (في معركة قره باغ)، تعزز هذا التوجه أكثر".
ويعود ذلك إلى ما أظهرته تركيا من دعم قوي لأذربيجان، أثبتت من خلاله قوة جيشها ومجمعها الصناعي، الأمر الذي يرى الموقع أنه جعل كازاخستان "تولي اهتماما متزايدا بالمشتريات العسكرية التركية، خاصة في ظل انشغال المجمع الصناعي العسكري الروسي بأولويات أخرى".
في المقابل، أفاد بأن الصين "تعمل بطريقة مختلفة تماما". وعزا ذلك إلى أن "بكين، تاريخيا، كانت أضعف اللاعبين في كازاخستان، وكان الكازاخيون يتعاملون بحذر مع النفوذ الصيني".
ففي منتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، اندلعت احتجاجات واسعة ضد خطط تأجير أراض زراعية لشركات صينية لفترات طويلة.
لكن بكين راكمت حضورها بصبر، إذ يزداد عدد الطلاب الكازاخستانيون الذين يدرسون في الصين بمنح دراسية، وتُفتح فروع لجامعات صينية في البلاد.
وأوضح الموقع نهج الصين في كازاخستان: "بكين تتجنب فرض أي أطر أيديولوجية، بل تحرص على إبقائها في الخلفية"، مضيفا: "إنها قوة ناعمة فائقة المرونة تعمل على المدى الطويل".
ويرى أن "هذه الإستراتيجية تحقق نتائجها بشكل تدريجي، حيث يتغير الموقف تجاه الصين بشكل كبير".
فبعض النخب السياسية ترى في الإنجازات الصينية نموذجا يُحتذى به، وهناك مجموعة معتبرة من الخبراء وكبار المسؤولين الذين يُبدون اهتماما بالغا بالتجربة الصينية.
“في الوقت نفسه، تعمل الصين وتركيا في قطاعات مختلفة ولا تتنافسان فعليا”. يقول الموقع.
ويضيف: "تستثمر الصين في المشاريع الكبيرة التي تتطلب رؤوس أموال ضخمة، مثل الطاقة والنفط وصناعة التعدين".
أما تركيا، "فلا وجود لها في قطاع النفط، وهي تحاول الآن فقط دخوله، حيث يتركز الوجود التركي في مجالات الفنادق والمطاعم والمقاهي، بالإضافة إلى التجارة والبناء".
إلى جانب ذلك، ذكر الموقع أن "هناك توجها رابعا يتمثل في مجموعة ذات ميول نحو العالم العربي، لكنها تراجعت أخيرا إلى هامش المشهد السياسي".
أما النخبة الموالية للغرب، فيرى أنها "مدعومة بشبكة واسعة من المنظمات غير الحكومية، وتواصل إعادة إنتاج نفسها بفاعلية".

تهديد إمبراطوري
وفي محاولة منها لتدارك الأمر، أفاد الموقع الروسي بأن موسكو تحاول في الوقت الراهن بناء علاقات مؤسسية ممنهجة مع كازاخستان.
وذلك من خلال مؤسسات مثل "التعاون الروسي الدولي (روس سوترودنيتشيستفو)" وافتتاح فرع للجمعية التاريخية الروسية في العاصمة أستانا، إلى جانب أنشطة أخرى.
إلا أن هذه التحركات تلقى ردود فعل سلبية حادة من شريحة من المجتمع الكازاخي، التي ترى فيها تهديدا إمبراطوريا.
واستطرد الموقع: "حتى بين النخب المحايدة والعقلانية، تثير بعض المبادرات الروسية المتعلقة بالتعايش المشترك ردود فعل مؤلمة وغير مريحة".
وتتمثل مشكلة موسكو في أنها "خلال تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية وحتى العقد الماضي، كانت منشغلة بذاتها، ومركزة على أزماتها الداخلية".
"وبالتالي، لم يكن لديها سياسة واضحة ومتسقة في الفضاء ما بعد السوفيتي، بل مجرد ردود فعل ظرفية على الأحداث".
في المقابل، يقدر الموقع أن "الكازاخيين يرون نموذجا مختلفا في الولايات المتحدة، التي تعلن بوضوح أنها ستدافع عن مصالحها وأمن مواطنيها إن اقتضى الأمر".
ولفت إلى أنها "تتواصل في كازاخستان مع جميع الأطراف، سواء في المعارضة أو خارجها، وتراقب طيفا واسعا من الفاعلين بلا تردد أو تحفظ".
على النقيض، أوضح أن "روسيا قيدت نفسها بعلاقات شخصية، وتجنبت التواصل مع المعارضة كي لا تُغضب السلطة، وتجنبت اتخاذ مواقف صارمة خشية الإضرار بالمشاريع المشتركة، بل فضلت التفاهمات خلف الكواليس".
وعقب الموقع قائلا: "هذه السلوكيات تُفسرها النخب الكازاخية الجديدة على أنها ضعف"، مشيرا إلى أنه "حتى عندما تحاول موسكو الرد، يُستقبل ذلك فورا باعتباره تهديدا إمبراطوريا".
ولفت إلى أن "هذه الحساسية تجاه روسيا استغلت بنجاح من الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، عبر قنوات غير رسمية وهياكلهم الخاصة داخل كازاخستان، مما يزيد من تأجيج الموقف".
ورغم ذلك، ينوه إلى أنه "يوجد نحو 60 ألف طالب كازاخي يدرسون سنويا في الجامعات الروسية، والكثير منهم لا يعودون، بل يفضلون البقاء والعمل هناك، ما يعكس تبنيهم قيم موسكو".
واستدرك: "لكن في المقابل، هناك من يختار كازاخستان بوعي كمكان للعيش والانتماء -بما في ذلك الناطقون بالروسية- ويعدون أنفسهم مواطنين في دولة مستقلة لا تدين بشيء خاص لروسيا".
وأردف: "أي تلميح في الخطاب الروسي العام حول من ساعد من أو من يدين لمن يُقابل برد فعل سلبي وحاد حتى من الفئات المتعاطفة مع روسيا، ناهيك عن أولئك الذين يتجهون نحو الغرب أو تركيا والشرق الأوسط".
ويختتم التقرير بالإشارة إلى أن كازاخستان "ترى نفسها قوة إقليمية متوسطة الحجم، وتعمل بنشاط على تعزيز فكرة دور الدول المماثلة في السياسة العالمية".
وذكر أن البلاد تدار حاليا من قبل تيار وطني معتدل لا يرى كازاخستان ضمن دائرة النفوذ الروسي أو الصيني أو الغربي.
كما تُجسد هذه القيادة سياسة التعددية في العلاقات الخارجية، وتعكس بوضوح تنوع القيم والمواقف داخل المجتمع والنخبة السياسية، وفق الموقع.