فساد ومليشيات وجنسيات.. ما حقيقة الصراع الدائر داخل برلمان النظام السوري؟
"الولاء المطلق لنظام الأسد ليس هو فقط ممر العبور للبرلمان"
ما إن بدأ نواب "مجلس الشعب" التابع للنظام السوري جلساتهم عقب الانتخابات الهزلية التي جرت في 15 يوليو/تموز 2024 حتى اشتعلت نار الصراع بين قادة المليشيات ورجال الأعمال الذين دخلوا البرلمان وبين خصومهم الذين فشلوا في تحصيل مقاعد.
فرغم أن "مسرحية" الانتخابات البرلمانية محسومة النتائج مسبقا من قبل النظام السوري، إلا أن خسارة قادة المليشيات وأمراء حرب بمقاعد لكسب الحصانة دفعهم للطعن بأقرانهم الذين فازوا.
برلمان الأسد
وذلك عبر كشف هؤلاء ملفات فساد مخفية عن بعض النواب الذين فازوا وتقديم أدلة قانونية تثبت دستوريا إلغاء العضوية في البرلمان نتيجة مخالفات أخفاها عمدا النواب الذين فازوا عند شروط التقديم.
فقد أسقط برلمان نظام بشار الأسد، عضوية رجل الأعمال محمد حمشو، بسبب "حمله للجنسية التركية"، وفقا لما أفادت به صحيفة "الوطن" المقربة من النظام.
وقالت الصحيفة في 21 أكتوبر 2024 إن أعضاء البرلمان صوتوا بالإجماع على إسقاط عضوية حمشو.
والملياردير محمد حمشو هو نائب في البرلمان منذ عام 2012 تجمعه علاقات وثيقة مع ماهر الأسد، شقيق بشار منذ عقود.
واستفاد حمشو من التسهيلات التي يقدمها له نظام الأسد في تضخيم ثروته، التي استثمرها في العديد من قطاعات الاقتصاد السوري.
وقد تم استهدافه من قبل الولايات المتحدة منذ عام 2011 لدعمه اقتصاد النظام لمواجهة الثورة الشعبية، ولهذا خضع أيضا للعقوبات الأوروبية.
ولم يكن حمشو هو الوحيد بهذا القرار، بل سبقه النائب شادي الدبسي الذي أسقط "مجلس الشعب" عضويته من البرلمان في العاشر أكتوبر 2024 بسبب حمله للجنسية التركية.
وذكرت وسائل إعلام محلية أن الدبسي حصل على الجنسية التركية، عام 2023، وكان هذا النائب قد فاز في الانتخابات البرلمانية الأخيرة كعضو عن دائرة مدينة حلب، وهو طبيب تجميل.
وطبقا للدستور السوري فإن "رئيس البرلمان يقوم بإبلاغ رئيس الجمهورية بشغور عضوية النائب الذي أسقطت عضويته، ليصدر رئيس الجمهورية مرسوما بدعوة لانتخاب عضو جديد عن دائرة العضو الذي تم إسقاط العضوية عنه".
ثم "تجرى انتخابات ومن ينجح بها يصدر مرسوم ثان من رئيس الجمهورية بنجاح العضو الجديد، وبعدها يأتي لحضور أول جلسة بعد مرسوم النجاح، ويؤدي القسم الدستوري".
ويشترط في الدستور السوري أن يكون المرشح لعضوية مجلس الشعب لدورة تشريعية جديدة مدتها أربع سنوات، سوريا منذ 10 سنوات على الأقل، وألا يكون متمتعا بجنسية أخرى غير الجنسية السورية، وأن يكون متمما الـ 25 من العمر.
مع ذلك تؤكد المعارضة السورية، والاتحاد الأوروبي أن الانتخابات غير شرعية وتخالف القرار الدولي 2254" الممهد للحل السياسي في البلاد.
اللافت أنه بالنسبة لحمشو لم يُعرف تاريخ حصوله على جنسية ثانية، وكيفية حدوث ذلك، خاصة أنه عضو في "مجلس الشعب" منذ عام 2012.
ومعروف عن حمشو، أنه واجهة تجارية لماهر الأسد، لا سيما أن استثماراته متجذرة تشمل قطاع الاتصالات، والدعاية، والتسويق، والإنتاج الفني.
حيث أسس شركة "سورية الدولية للإنتاج الفني" وموقع "شام برس" الإخباري، وشارك في تأسيس "تلفزيون الدنيا" المحلي.
وفي عام 1989، أسس "مجموعة حمشو الدولية" التي تضم نحو 20 شركة تعمل في المقاولات والتعهدات الحكومية والسكنية، مما يبرز قوة وتنوع استثماراته.
وفي عام 2020 ترشح حمشو للمجلس إلا أنه انسحب بسبب ضغوط يُعتقد أن هلال الهلال، "الأمين القُطري المساعد لحزب البعث" الحاكم، قد مارسها عليه.
وهلال يعد الواجهة السياسية المحلية لنظام الأسدين الأب والابن، وعقب اندلاع الثورة في عام 2011 أسهم هلال شخصيا في تطويع أفراد الحزب لقمع الثورة، بداية من زج "البعثيين" في مسيرات معادية للثورة في مختلف المناطق السورية، قبل أن يبدأ بعمليات تجنيد مسلحة عام 2012 تحت اسم "كتائب البعث" التي تحولت لقوة عسكرية محلية رديفة لقوات الأسد.
إلا أن بشار الأسد عزل هلال الهلال من منصب الأمين القطري المساعد لـ"حزب البعث" والذي تسلمه منذ عام 2013.
وظهر هلال لاحقا في لقاء مع بشار الأسد في 8 مايو 2024 خلال اجتماع مع الأعضاء المبعدين عن القيادة المركزية في "حزب البعث"، ضمن تغييرات أفرزتها "انتخابات" قيادة الحزب في العام المذكور.
فساد ومليشيات
ما يجرى داخل برلمان الأسد هو صراعات شخصية تكشف حجم التنافس بين المقربين من نظام الأسد من قادة مليشيات وأمراء حرب ورجال أعمال طامحين في الحصانة لأغراض متعددة داخل البرلمان وليس "لخدمة المواطن".
فلم يقتصر الأمر على سحب العضوية من أعضاء في برلمان الأسد الجديد بل تعدى ذلك لرفع دعاوى ضد بعض الفائزين بهدف إسقاط عضويتهم بموجب الاتهامات الموجبة دستوريا لإلغاء العضوية في البرلمان.
فقد صوت "مجلس الشعب" التابع للنظام السوري، على منح الإذن بملاحقة اثنين من أعضائه قضائيا، بعد يوم من إسقاط عضوية "محمد حمشو".
وذكرت صحيفة "الوطن" في 23 أكتوبر 2024 أن "مجلس الشعب" منح الإذن بملاحقة العضوين مجاهد إسماعيل وخالد زبيدي، من دون أن تذكر الأسباب أو تفاصيل إضافية.
من جانبه، ذكر موقع "هاشتاغ" المحلي أن القرار جاء بسبب وجود دعاوى قضائية منفصلة بحق إسماعيل المتهم بالنصب، وزبيدي المتهم بهدر المال العام.
وأشار الموقع إلى أن إسقاط الحصانة لا يعني إلغاء عضوية النائب في "مجلس الشعب"، وإنما الموافقة على خضوعه للإجراءات القضائية والتحقيق، وفي حال ثبوت التهمة أو المخالفة يكون النائب أمام قرار إلغاء عضويته.
بالنظر إلى خالد زبيدي فهو اقتصادي سوري لمع نجمه عام 2018، في عالم المال الناشئ على أنقاض حرب نظام الأسد ضد السوريين منذ عام 2011.
وأصدرت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية التابعة للنظام السوري، في 17 يوليو/تموز 2022. قرارا يقضي بتشكيل "مجلس الأعمال السوري الجزائري" برئاسة خالد زبيدي.
ويعد خالد زبيدي من رجال الأعمال الذين عمل النظام السوري خلال العقد الأخير على تهيئتهم، ودعمهم لتنفيذ خدمات تخدم مصالحه وتساعده على تجاوز العقوبات الدولية.
ووفقا لموقع "مع العدالة" السوري، فإن شركة "إبداع للاستثمارات" التي يملكها زبيدي حصلت على قروض بقيمة 687 مليون ليرة سورية من المصرف العقاري السوري مطلع عام 2011 وامتنع عن سداد هذا القرض، وهو رقم ضخم حيث كان يساوي الدولار الواحد 50 ليرة وقتها.
كما فرضت وزارة الخزانة وقتها بموجب قانون "قيصر" الأميركي، عقوبات على خالد زبيدي وشريكه نادر قلعي، وعلى شركتهما "زبيدي وقلعي".
وبذلك كان اسم زبيدي في الحزمة الأولى من عقوبات القانون، الذي خصص لمعاقبة الداعمين والمتعاملين مع نظام الأسد.
أما مجاهد إسماعيل فهو قائد مليشيا "كتائب البعث" بريف دمشق وعضو في "اللجنة المركزية لحزب البعث".
وجاء تصويت "مجلس الشعب" على منح الإذن بملاحقة مجاهد إسماعيل، بعد أقل من أسبوعين على تعيينه من قبل القيادة المركزية لحزب البعث قائدا لـ "كتائب البعث" الرديفة لقوات الأسد.
وعقب اندلاع الثورة السورية عام 2011، شكل مجاهد الذي كان على علاقة وثيقة مع حافظ مخلوف ابن خال بشار الأسد، أول مجموعات "الشبيحة" في دمشق بهدف قمع المظاهرات في العاصمة.
وأشرف على توزيع "الشبيحة" بالباصات على أبواب الجوامع في أيام الجمعة، لقمع المظاهرات ومنحهم مكافآت مالية لقاء قمع المظاهرات، كما فرضت عليه عقوبات أوروبية بسبب انتهاكاته.
"صراع الأجنحة"
ويرى مراقبون أن أسماء أعضاء البرلمان التابع لنظام الأسد تكون حاصلة من أجهزة المخابرات على بطاقة الفوز بشكل مسبق.
إذ إن الولاء المطلق للنظام ليس هو فقط ممر العبور للبرلمان، بل هناك تنافس على عضوية البرلمان بين المرشحين واستعداد البعض منهم لفضح ملفات الفساد ضد الفائزين "بشكل انتقامي" وهو ما يكشف حرب المنظومة الفاسدة في سوريا.
فعلى سبيل المثال فإن الشواهد كثيرة على إدخال نظام الأسد شخصيات مقربة منه مشهود لها بالفساد إلى قبة البرلمان.
وضمن هذا الإطار، قال المحامي القانوني السوري أحمد السليمان "إن هؤلاء النواب مجرد واجهة لتنفيذ قرارات الأسد ودائرته الضيقة وليس لهم أي فاعلية في اقتراح قرارات تشريعية تخدم المواطن بل فقط الموافقة على تنفيذها بمعنى أنهم نواب المخابرات".
وأضاف لـ “الاستقلال”: "جميع الطامحين لدخول قبة البرلمان هم يريدون إما الحصانة لتمرير صفقات ومشاريع جديدة أو للاستفادة من الالتفاف على القوانين لتوسيع نفوذهم الاقتصادي خلال سنوات العضوية الأربع".
وأردف: "لكن ما هو حاصل الآن هو أن الدورة البرلمانية الجديدة لمجلس نظام بشار الأسد، التي ضمت قادة مليشيات متورطين بجرائم حرب ضد السوريين ورجال أعمال تكاد تعكس طبيعة الصراع الخفي داخل أجنحة النظام السوري على النفوذ والسيطرة لا سيما الاقتصادية".
وذهب السليمان للقول: "إن إسقاط العضوية عن بعض الأسماء رغم تجاوزها الدراسات الأمنية التي تسبق الموافقة على الترشيح لانتخابات مجلس الشعب تكشف طبيعة ذلك الصراع".
وأضاف: "النظام السوري لم يسحب الجنسية الإيرانية من النائب فهد درويش الذي فاز بمقعد عن محافظة دمشق في الدورة الحالية عن قائمة "شام" وهي ذات القائمة التي ترشح عنها "محمد حمشو".
وفهد درويش رجل أعمال بارز في سوريا وهو اليد الأولى لتمرير الهيمنة الاقتصادية الإيرانية على البلاد.
وسبق أن أكدت مجلة "إنتيليجنس أونلاين" الفرنسية المتخصصة في شؤون الاستخبارات في تقرير لها نشر في 17 نوفمبر 2021 أن فهد درويش يحمل الجنسية الإيرانية، وعاد إلى سوريا قبل عقد من الزمن ويعرف في الأوساط السورية بأنه رجل أعمال ومستثمر منذ عام 1990.
وما إن يتردد هذا الاسم في الأوساط الاقتصادية السورية حتى ينعت درويش بعراب الصفقات التجارية الكبيرة التي وضعتها إيران بسلتها بتواطؤ من النظام السوري.
ومن اللافت أن السفير الإيراني السابق لدى النظام السوري جواد ترك أبادي الذي أنهى مهامه في مايو/أيار 2021، كان يدعو درويش منفردا لموائد إفطار في شهر رمضان دون أي من رجال الأعمال السوريين، وذلك من أجل الترويج لدرويش على أنه واجهة طهران الاقتصادية في سوريا.
وأدرج الاتحاد الأوروبي في 22 يناير 2024 أفرادا وكيانات سورية على قائمة العقوبات لتقديمها الدعم ومساعدة النظام السوري على رأسها فهد درويش.
وتتصدر سوريا التي يحكمها الأسد، ترتيب دول العالم في قائمة البلدان الأكثر فسادا، وفق تصنيف منظمة "غلوبال ريسك" لعام 2023، المتخصصة في خدمات إدارة المخاطر، الذي يصنف 196 دولة وتصدره منظمة الشفافية الدولية.