من الشيطنة إلى الاحتفاء.. لماذا تغيرت لهجة إعلام نظام السيسي تجاه "حماس"؟
الهجوم المباغت غير المسبوق الذي شنته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" والفصائل الفلسطينية في عمق معسكرات الجيش الإسرائيلي وبعض المستوطنات في محيط قطاع غزة المحاصر، أحدث زلزالا سياسيا واستخباراتيا.
فعملية "طوفان الأقصى" التي بدأت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حملت معها متغيرات عديدة تتجاوز المعارك الدائرة على الأراضي المحتلة، إلى مراكز صنع القرار في المنطقة ودول الجوار، لا سيما مصر.
فالإعلام الرسمي لنظام عبد الفتاح السيسي، تناول الحدث من باب الاحتفاء على خجل، ووصف إعلاميون مقربون من السلطة حركة حماس بـ"المقاومة"، وأعربوا عن إعجابهم بـ"التكتيكات" المستخدمة في الهجوم على دولة الاحتلال.
وهو ما خلف تساؤلات عن تلك الحالة، لأنه في أحداث سابقة وخلال أكثر من عدوان إسرائيلي على غزة، كانت لهجة الإعلام المصري مختلفة، ولطالما وصمت المقاومة وحماس تحديدا بـ"الإرهاب".
ومن المعروف أن الأجندة الإعلامية لمذيعي "مدينة الإنتاج الإعلامي"، لا تخرج من رؤوسهم، وإنما من مطبخ المخابرات العامة، وحسب المسار الدبلوماسي المحدد من قبل النظام.
حتى إنهم يلقبون في الأوساط العامة بـ"إعلام السامسونج" نسبة إلى مذيعة شهيرة كانت تقرأ خبرا وأخطأت أن المرسل جهاز سامسونج، كإشارة إلى أن ضابط المخابرات هو الذي ساهم في صناعة المحتوى الخاص بها.
شواهد التحول
لذلك فإنه في نفس يوم عملية "طوافان الأقصى" خرج الإعلامي نشأت الديهي، على قناة "TeN" الفضائية، وعرض لقطات من العملية العسكرية التي شنتها "حماس".
ثم علق قائلا: "شغل عالي وإسرائيل كانت متخيلة المقاومة ماتت".
تصريحات الديهي تختلف شكلا ومضمونا عن تصريحاته في 24 مايو/ آيار 2021، بعد أيام قليلة من عملية "سيف القدس" التي تصدت فيها حماس للعدوان الإسرائيلي على غزة.
وقتها خرج الديهي وحذر حماس من محاولة سرقة ما أسماه "نصر الشعب الفلسطيني"، ثم اتهم المقاومة بأنها تسعى إلى "تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية حمساوية" على حد تعبيره.
وعاد الديهي مرة ثانية في 1 فبراير/ شباط 2022، واتهم حماس ورئيس المكتب السياسي للحركة، خالد مشعل، بالاتصال بإسرائيل ومحاولة التطبيع معها.
المفاجأة الثانية، تمثلت في تناول الإعلامي المقرب من السيسي، أحمد موسى، الذي خرج على الهواء مبتسما خلال برنامجه على فضائية "صدى البلد".
وفي خلفية عرض أهازيج الأغاني الوطنية، ثم وصف حماس بـ"المقاومة" وكيف أنها لقنت "العدو الصهيوني" درسا.
ومعروف أن موسى من أكثر إعلاميي السيسي هجوما على "حماس"، وله باع كبير في التحريض ضدها.
ولا ينسى موقفه عندما اندلع العدوان الإسرائيلي على غزة في يوليو/ تموز 2014، فيما عرف بعملية "العصف المأكول" حسب توصيف المقاومة الفلسطينية والتي خلفت نحو 2147 شهيدا مدنيا خلال 50 يوما، وقتها كان إعلام نظام السيسي يصب جام غضبه على "حماس"، محملا إياها "ذنب" المذبحة القائمة.
وعلى رأس هذه الأبواق، موسى، الذي وجه حينها رسالة لقادة حماس، وهم يخوضون غمار الحرب، قائلا: "والله لتدخلوا جهنم"، في إشارة منه إلى أنهم السبب الرئيس في الحرب، ولم يوجه اللوم تماما إلى جيش الاحتلال.
وما بين موسى 2014 وموسى 2023، هناك كثير من الدلالات على حجم التغير في الموقف المصري الرسمي من حركة حماس وفصائل المقاومة في غزة.
شيء إلهي
أما عمرو أديب وهو أحد أهم الإعلاميين في منظومة الإعلامي المصري، قدم حلقة خاصة على قناة "MBC" السعودية، في 8 أكتوبر 2023، تناول فيها تفاصيل عملية "طوفان الأقصى".
أديب قال: "فيه شيء إلهي حدث لفدائيي غزة.. ما حدث لا يمكن تفسيره غير مهارة الفدائيين ورجال المقاومة الفلسطينية ولكن هذا الأمر لا يستقيم مع القدرات الإسرائيلية العالية".
وزاد عندما هنأ "حماس" على أخذها هذا العدد من الأسرى، عادّا إياه "نصرا إستراتيجيا، وفشلا لجهاز الموساد ومنظومة الاستخبارات الإسرائيلية".
لهجة أديب تستحضر مقطعا تحريضيا قديما له تم تداوله على منصات التواصل الاجتماعي، يتهم المقاومة بـ"التآمر"، ووصل الأمر أن وصف حركتي "فتح" و"حماس" بـ"الكفرة.. الذين يستحقون ما يحدث لهم على يد إسرائيل".
هذه التقلبات في مواقف الأذرع الإعلامية للنظام، التي تبنت عداء "حماس" منذ عام 2014، وهاجمت في أزمنة عديدة قطاع غزة بصفته "خطرا" على الأمن القومي المصري، بالإضافة للترويج للتطبيع، جعل من تغطيتها الحالية لعملية "طوفان الأقصى" من حيث الانحياز غير المعتاد للمقاومة والهجوم على كيان الاحتلال، محل "شك وريبة".
فلماذا تغيرت النبرة تجاه المقاومة الفلسطينية؟ وإلى أي مدى انعكس الموقف السياسي والاستخباراتي المصري في لهجتهم وتعاطيهم؟
البحث عن دور
تظهر الإجابة في تحركات النظام المصري من أعلى هرم السلطة إلى أسفله للبحث عن "دور مركزي" في الحدث الجلل.
فبعد ساعات من "طوفان الأقصى" خرج المتحدث باسم النظام، أحمد فهمي، ببيان نشر فيه صورة السيسي، وقال إنه "يتابع الموقف العام لتطورات الأحداث من مركز إدارة الأزمات الإستراتيجي".
البيان ذكر أن "السيسي وجه بتكثيف الاتصالات المصرية لاحتواء الصراع الدائر، ومنع مزيد من التصعيد".
لكن هناك تصريحات صدرت عن مسؤولين في جهاز المخابرات العامة المصرية، تبدو وكأنها تمثل لوما لجانب دولة الاحتلال على عدم الاعتناء بـ"الوصايا المصرية".
ففي 9 أكتوبر 2023، كشفت "وكالة أسوشيتد برس" الأميركية عن مسؤول في المخابرات المصرية قوله: "تحدثنا مرارا وتكرارا مع الإسرائيليين حول (شيء كبير) سيحدث، لكنهم أهملوا تحذيراتنا".
تلك الحالة برمتها تأخذنا إلى المرحلة السابقة لعملية "طوفان الأقصى" مباشرة، والتي كانت تشهد تسارعا في التطبيع السعودي الإسرائيلي، وتحمل تململا من الجانب المصري والأردني.
أكد ذلك ورقة بحثية صادرة عن مركز "مالكوم كير-كارنيغي" لدراسات الشرق الأوسط عندما استخدمت عبارة "التطبيع السعودي يزيد من تهميش مصر جيوسياسيا".
وأورد المركز في الورقة البحثية المنشورة في 14 يونيو/ حزيران 2023، أن "اعتماد مصر المتزايد على التمويل الخارجي أدى إلى تهميشها على مستوى الاقتصاد العالمي وفي المشهد الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا".
وأتبع: "تراجعت أهمية مصر الجيوإستراتيجية كوسيط محتمل بين العالم العربي وإسرائيل، وقد كان هذا الدور حجر الأساس في علاقات القاهرة مع واشنطن بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي أبرمت عام 1979".
ثم استدرك المركز قائلا: "لكن اليوم، وبفضل ما عرف بالاتفاقيات الإبراهيمية، باتت دولتان في مجلس التعاون الخليجي، هما الإمارات والبحرين، تقيمان علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، إلى جانب المغرب والسودان، ما أنهى احتكار مصر والأردن للعلاقات مع إسرائيل".
واستطرد: "لهذا السبب ربما تحفظت مصر ضمنيا على التطبيع المحتمل بين السعودية وإسرائيل، من خلال تركيزها على ضرورة التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، وليس فقط مع الدول العربية".
الخاسر الأكبر
وظل النظام المصري قلقا طوال الوقت من عمليات التطبيع المتسارعة، وهو ما أكده معهد "واشنطن لدراسات الشرق الأوسط".
ففي 21 أغسطس/ آب 2020، نشر ورقة بحثية ورد فيها أن "القادة المصريين قلقون بشكل واضح بشأن اتفاق التطبيع، بافتراضه يعزز اعتقاد القاهرة بأن مركز القوة في العالم العربي، يتحول نحو دول الخليج".
وتوقع المركز الأميركي أن "التطبيع الإماراتي الإسرائيلي يزيد من خفوت نفوذ مصر، لا سيما بالنظر إلى القدرة المالية والتكنولوجية للإمارات على تسريع مثل هذه المبادرات".
وأضاف أنه "من المحتمل أن يكون التطبيع الإماراتي، قد أحرج السيسي أمام مؤيديه الأساسيين من النخبة، وأن بعض الشخصيات المصرية تعتقد أنه أضاع فرصة تاريخية ليكون القوة الرئيسة التي تقود التطبيع في المنطقة".
لكن البعد الجيوسياسي ليس فقط هو الذي يقلق مصر، ويدفع النظام لاتجاهات مختلفة، منها زيادة اتصالاته بحركة "حماس"، ورغبته في لعب دور أكبر وأكثر تأثيرا.
فالبعد الاقتصادي أيضا وشعور القاهرة بالخطر يدفعها لذلك، وفي 8 سبتمبر/ أيلول 2020، نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، تقريرها بعنوان "مصر الخاسر الأكبر من اتفاقيات التطبيع الخليجي".
وقالت المجلة إن "خط أنابيب النفط الصحراوي (إيلات-عسقلان) الذي يربط بين ميناء إيلات على خليج العقبة بالبحر الأحمر، ومحطة ناقلات النفط بعسقلان على البحر المتوسط، سيكون المستفيد الرئيس من اتفاق التطبيع".
وتابعت: "سيكون بديلا أرخص من قناة السويس المصرية وخيارا للاتصال الإسرائيلي بشبكات أنابيب خليجية، تنقل النفط والغاز ليس فقط إلى المنطقة، ولكن إلى الموانئ البحرية التي تزود العالم".
وهو الأمر الذي دفع رئيس هيئة قناة السويس، أسامة ربيع، للتصريح في 21 سبتمبر 2020، أن إنشاء خط أنابيب النفط "إيلات-عسقلان" الإسرائيلي إلى الخليج يهدد الأمن القومي المصري وقناة السويس.
وبالتالي فإن كل تلك الوقائع جعلت من نظام السيسي "أكثر تحفزا في الأحداث الجسام، لإيجاد موطئ قدم له، وللعب دور أكبر مما هو حادث".
ولعب النظام المصري بكل أوراقه الممكنة لا سيما الإعلام، لتعضيد ذلك الدور.
ووصف الباحث الإعلامي المصري بجامعة "إدنبرة" الأسكتلندية، طارق محمد، الدبلوماسية المصرية المتعلقة بعملية "طوفان الأقصى" بأنها "اغتنام للفرصة بعد سنوات من تراجع الأولوية الإسرائيلية تجاه الدور المصري في فلسطين".
وأوضح محمد لـ"الاستقلال" أن "الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تغرق القاهرة، سواء الديون والتضخم، أو معضلة سد النهضة والحروب في السودان وليبيا، دفعت دولة الاحتلال للاتجاه نحو تعضيد العلاقات بقوة مع الأنظمة الخليجية سواء الإمارات والبحرين، والأهم التطبيع المنتظر مع السعودية".
وأتبع: "كان هذا لا يروق للسيسي وجهاز مخابراته، الذي يعد قضية فلسطين هي عمق الدبلوماسية الخارجية المصرية، وورقة ثقلها إقليميا وعالميا، فلا يمكن أن تتخلى عنها بسهولة، أو أن تسمح بأن تكون هي الرديف والصف الثاني خلف الدول العربية المتقدمة صفوف التطبيع".
واستطرد محمد: "من هنا استغلت مصر الانهيار الإسرائيلي المفاجئ، لتلعب بجميع أوراقها دفعة واحدة، بداية من الإعلام والإعلاميين، وصولا إلى التواصل الاستخباراتي، والتواصل على مستوى وزارة الخارجية، وهو ما ظهر جليا عندما تواصلت مصر مع حماس بشأن الأسرى الإسرائيليين".