انطلقت من "المحلة".. ماذا وراء تصاعد موجة الإضرابات العمالية في مصر؟
"بلا مبالغة مصر تعيش حاليا أسوأ عصور الحقوق العمالية على الإطلاق"
سيناريو مكرر لتاريخ يعيد نفسه بسواعد عمّاله في مصر، وتحديدا من مدينة "المحلة الكبرى" التي كان لها دورا بارزا في صياغة الأحداث المعاصرة، ويعدها البعض المدينة التي بدأت الشرارة الأولى لثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وبسببها سقط نظام الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك.
و"المحلة" التي تبعد بنحو 110 كم من العاصمة القاهرة، هي معقل صناعة الغزل والنسيج في مصر، وبها يقع مصنع "شركة مصر للغزل والنسيج" الذي يعد أكبر مصنع بالشرق الأوسط في ذلك المجال.
وفي 2008 بدأ هؤلاء العمال إضراب السادس من أبريل/ نيسان بعد أن وقعت اشتباكات عنيفة بين المواطنين وقوات الأمن المركزي التي تصدت للإضرابات.
وقتها كانت المحلة الشرارة التي أعادت الاعتصامات إلى شوارع مصر بعد حالة من الخمول أصيب بها المواطنون سنوات طويلة رغم سوء الأحوال المعيشية.
واستمر الغضب يتصاعد حتى انفجر خلال "ثورة 25 يناير"، التي أعقبها تغييرات واسعة في البنية المجتمعية والسياسية المصرية.
وبعد سنوات وبالضبط في 22 فبراير/ شباط 2024، يعاود عمال "المحلة" الكرة مرة أخرى، بإعلان الإضراب عن العمل، اعتراضا على تدني الحد الأدنى للأجور.
ليس عمال المحلة وحدهم، بل تصاعدت وتيرة الإضرابات العمالية في أماكن مختلفة من محافظات مصر، الأمر الذي أقلق النظام بقيادة عبد الفتاح السيسي، واستدعى "الحل الأمني" للتعامل مع تصاعد هذه الظاهرة.
مطالب العمال
جاء دخول عمال وعاملات شركة غزل المحلة، التابعة لقطاع الأعمال العام، في إضراب عن العمل، بسبب المطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور الذي أقره السيسي.
ومطلع فبراير 2024، قرر السيسي رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50 بالمئة، ليصل إلى 6 آلاف جنيه (138 دولارا) شهريا.
إضافة إلى زيادة أجور العاملين بالدولة والهيئات الاقتصادية، بحدٍ أدنى يتراوح من 1000 إلى 1200 جنيه (نحو 23-28دولارا) حسب الدرجة الوظيفية، وذلك في إطار حزمة حماية اجتماعية لتخفيف الأعباء المعيشية، في ظل وضع اقتصادي مترد أسهم في زيادة معدلات الفقر.
وفي ظل اعتصامهم داخل ساحات الشركة، أكد عمال أن هناك من تعدت مدد خدمتهم الـ20 عاما لا يزيد مرتبهم عن 5 آلاف جنيه (نحو 115 دولارا).
ووجهوا تساؤلات للإدارة "أليست أرباح شركات قطاع الأعمال جزءا من إيرادات الدولة، فلماذا يتم استثناؤنا من الحد الأدنى؟"
كما طالبوا من خلال لائحة مطالبهم الأساسية إضافة إلى رفع الحد الأدنى للأجور، إلى صرف مكافأة الشهر ونصف، وزيادة بدل الوجبة إلى 900 جنيه (20 دولارا).
وتضم شركة مصر للغزل والنسيج "غزل المحلة" نحو 16 ألفا و500 عامل، وتنتج الملابس الجاهزة والمنتجات النسيجية، للسوق المحلية والتصدير، حسب الموقع الرسمي للشركة.
الأمن الوطني
وفي 29 فبراير 2024، نشر موقع "مدى مصر" المحلي تقريره عن تطورات اعتصام المحلة، وأفاد أن جهاز الأمن "حاول ترهيب عمال المحلة، فاستدعى مجموعة منهم إلى مقر الجهاز في مدينة طنطا".
وأضاف "لكنه عاد وأطلق سراح 25 عاملا خشية تصعيد الموقف"، وأكدت مصادر عمالية للموقع أنه "منذ بدء الإضراب، استدعي ما يزيد عن مائتي عامل من قبل الأمن الوطني".
وتابع: "لكن الأسوأ أن الإدارة بدأت في وقف صرف رواتب البعض، حيث توجه موظفو المكاتب والإدارات غير الإنتاجية الذين يتقاضون رواتبهم بحد أقصى يوم 27 من كل شهر إلى ماكينات الصرف الآلي فلم يجدوا شيئا"،
وكان مكتب عمال حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، قد أعلن في 27 فبراير عن تضامنه الكامل مع حركة ومطالب عاملات وعمال غزل المحلة.
وشدد على رفضه لاستخدام الأجهزة الأمنية لسياسة القمع والترهيب ضد حركة العمال المشروعة، محذرا من عدم توقع عواقبها ضد عمال يملكون الخبرات الكافية للتعامل مع تلك الممارسات، وما لديهم من تجارب سابقة في التضامن فيما بينهم.
ودعا في الوقت ذاته كل القوى السياسية والنقابية إلى التضامن معهم حتى تحقيق مطالبهم المشروعة.
وقال البيان الذي أصدره مكتب عمال التحالف "كعادتهم أطلق عمال شركة غزل المحلة، الشرارة الأولى لانطلاق قطار الاحتجاجات العمالية، ضد سياسات التجويع التي تسببت فيها توجهات النظام الاقتصادية".
وأتبع: "تلك السياسات التي كشفت عن حقيقة انحيازهم، فضلا عن خطأ توجهاتهم وفسادها، كذلك ميولهم التمييزية التي فرقت بين فئات العمل المختلفة (من عاملين في الدولة من ناحية، والعاملين بقطاع الأعمال والقطاع الخاص من ناحية أخرى)".
إضرابات أخرى
كانت شرارة إضراب المحلة أشبه بـ"كرة الثلج" سرعان ما تحركت وتضخمت، وذلك بعد ما انضم إليهم عمال شركة الزيوت والمنظفات بمحافظة أسيوط.
الذين أعلنوا في 26 فبراير 2024، الإضراب الكامل عن العمل للمطالبة بتطبيق حد أدنى للأجور بمبلغ 6 آلاف جنيه شهريا للعاملين بقطاع الأعمال العام، أسوة بالعاملين في الحكومة.
وفي الشركة نفسها أضرب العمال الذين يعملون بعقود تشغيل مؤقتة وعددهم حوالي 400 عامل، إذ طالبوا بالتثبيت بعد ما أكملوا 10 سنوات في العمل دون تعيين.
وشدد مصدر عمالي لموقع "درب" المحلي، على ضرورة أن "يتفهم المسؤولون مطالب العمال ويستجيبوا لها"، محذرا من تصاعد الاحتجاجات في المستقبل إذا لم يتم التجاوب مع مطالبهم.
وناشد العمال في فروع الشركة في سوهاج والقاهرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بقية العمال بضرورة الانضمام إلى الاحتجاجات حتى تحقق مطالبهم كاملة.
ملاليم ومليارات
وفي 29 فبراير 2024، نشرت صفحة "الموقف المصري" عبر صفحتها على "فيسبوك" تقريرها عن اعتصام عمال وموظفي مجموعة "طلعت مصطفى القابضة"، المملوكة لرجل الأعمال المقرب من السيسي والنظام، هشام طلعت مصطفى.
وذكرت أنه في حين أن أرباح المجموعة خلال العام 2023 بلغت قرابة 142 مليار جنيه (4 مليار دولار)، لكن الأجور في المجموعة لعمال الخدمات هزيلة جدا.
وأشارت إلى أن متوسط رواتب هؤلاء يصل إلى 3 آلاف جنيه فقط (69 دولارا)، وضربت المثل بعمال الأمن الذين يتم منحهم رواتب ضعيفة لأنهم يعملون من خلال شركات أخرى من الباطن.
وذكرت أن بعض العمال في مجالات أخرى داخل المجموعة يحصلون على رواتب أقل من ذلك.
لذلك بدأ عمال "مدينتي" المملوكة لطلعت مصطفى ومجموعته، في الإضراب عن العمل والاعتصام لتحقيق مطالبهم برفع الحد الأدنى للأجور.
كذلك طالبوا بحقوقهم في التأمين الصحي والاجتماعي، لأن كثيرا منهم لا يملكون تأمينا صحيا يكفل لهم العلاج، في ظل انعدام أي رقابة على العمالة في القطاع الخاص.
ومن أكبر وأشرس الإضرابات التي شهدتها مصر في الآونة الأخيرة، المتعلق بشركة "كير سيرفيس" التي تمثل واجهة من كبار الجنرالات والضباط المتقاعدين لصالح الجيش والمخابرات في مصر.
وشهدت إضرابا قويا في 26 ديسمبر/ كانون الأول 2023، شارك فيه نحو 400 عامل تابعين لـ"كير سيرفيس" ويعملون في معسكر قوات حفظ السلام في الشيخ زايد وشرم الشيخ بسيناء بسبب "الفساد وسوء الأوضاع وتدني الأجور".
ومنذ 2011 وعلى مدار عقد كامل شهدت الشركة المحكومة بالجنرالات العديد من الإضرابات والصدامات المتكررة مع عمالها وموظفيها.
ولطالما ارتفعت الأصوات التي تطالب بمحاسبة كبار مسؤولي الشركة، وجلهم لواءات ورتب رفيعة، وفدوا من الجيش والأجهزة الأمنية، ما ساهم بتحصينهم من الحساب والعقاب.
وهكذا أصبحت "كير سيرفيس" نموذجا مصغرا للدولة القابعة تحت حكم نظام السيسي، الذي جاء بانقلاب عسكري، وحكم البلاد بقبضة أمنية.
ونفذ الإضراب العمال الذين يقدمون خدمات متنوعة داخل معسكر قوات حفظ السلام، من بينها أعمال السباكة، وورش الصيانة، وخدمات النظافة، والطبخ، والمغسلة، إضافة إلى السوق التجارية.
وأورد عدد من العمال في تصريحات لمواقع محلية مثل "مدى مصر" أن المحتجين اعترضوا في الأساس على تدني رواتبهم الشهرية التي يصل متوسطها إلى 4 آلاف جنيه (129 دولارا) لمن يعمل عدد سنوات تصل إلى 25 سنة، أما عمال النظافة فمرتباتهم لا تتعدى ألفي جنيه (65 دولارا).
خط تماس
وقال الصحفي المصري المختص بالشؤون العمالية محمد يوسف، إن "العمال المصريون يشعرون بالغبن والظلم الشديد، دونا عن قطاعات مختلفة بالدولة، وذلك يرجع إلى سببين، الأول تدني الأجور إلى حد لا يجعلهم يوفرون احتياجاتهم المعيشية الأساسية، والثاني العمل الشاق الذي يقومون به يوميا".
وأوضح يوسف لـ"الاستقلال" أن "أقل عامل من عمال المحلة الكبرى على سبيل المثال يعمل ما لا يقل عن 10 ساعات يوميا، بالمخالفة لقوانين العمل الدولية التي تنص على 8 ساعات بينهم فترتا راحة تقدر كل فترة بـ30 دقيقة".
ولفت إلى أن "حالة الغضب وتحول الغضب إلى فعل تقلق النظام السياسي والأمني في مصر، لأن الاحتجاجات المعيشية لطالما أسقطت أنظمة وهددت أنظمة، ففي انتفاضة الخبز خلال 18 و19 يناير 1977، لعب العمال والإضرابات العمالية دورا مهما في تفاقم الأوضاع، وكادت أن تسقط نظام الرئيس الراحل أنور السادات".
وتابع: "ولا يمكن إنكار أن النشاط العمالي في المحلة والمدن الصناعية الأخرى مثل السويس، ساهموا في إذكاء نار الغضب وصولا إلى 25 يناير والإطاحة بمبارك".
وقال يوسف : "حاليا بلا مبالغة مصر تعيش أسوأ عصور الحقوق العمالية على الإطلاق، ورغم القبضة الأمنية الشرسة، لكن حالة الانفجار ستكون غير مسبوقة".
وأوضح أن "العمال هم قلب المجتمع، والعنصر الأهم في حركة الاقتصاد، ويملكون خط تماس مع شرائح المجتمع كافة، فإذا تحركوا يتحرك المجتمع برمته".
واستطرد: "هو أمر لا ينطبق على مصر فقط بل في دول العالم كافة، فالعمال هم الذين أطلقوا الثورة البلشفية (عام 1917) في روسيا، ولعبوا الدول الأهم داخل حركات التحرر الوطني خلال القرن الماضي".
وشدد يوسف على أن "التعامل الأمني مع الحالة العمالية هو (أغبى) ما يمكن لنظام سياسي أن يطبقه، خاصة عندما تتكرر الإضرابات في أماكن ومحافظات مختلفة، لأنه في حالة معينة، سيحدث انفجار ينجم عنه شلل كامل في القطاع الصناعي، ومن ثم يجد النظام نفسه أمام ثورة لا تبقي ولا تذر".
المصادر
- مكتب عمال حزب التحالف الشعبي الاشتراكي يعلن تضامنه مع إضراب عمال المحلة: لا للمارسات القمعية .. نعم للمطالب المشروعة
- عمال غزل المحلة يواصلون إضرابهم.. وأحدهم: الإدارة أغلقت دورات المياه لإجبارنا على التراجع
- «الأمن الوطني» يفرج عن 4 من عمال «غزل المحلة».. والإضراب مستمر
- ثورة العمال.. إضراب عمال زيوت أسيوط
- **142 مليار مبيعات مجموعة طلعت مصطفى في 2023.. لكنه لا يدفع الحد الأدنى للأجور**