لماذا بقي فلسطينيو 48 "صامتين" على مدار عامين من الإبادة في غزة؟

خالد كريزم | منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة، بقي التساؤل عن أسباب غياب الحراك في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 أشبه بجرح مفتوح بلا إجابة شافية.

فعلى مدار عامين من عمليات الإبادة الجماعية، لم تخرج سوى مظاهرات ووقفات محدودة تعد على أصابع اليد في الداخل المحتل، أكثرها كان خلال الشهور الأخيرة من عمر العدوان.

وهو ما أعاد التساؤلات إلى الواجهة عن سبب الصمت الطويل لفلسطينيي 48، الأكثر احتكاكا بالمجتمع الإسرائيلي مقارنة بنظرائهم في الضفة الغربية.

واستنادًا إلى البيانات الرسمية الإسرائيلية، يشكّل الفلسطينيون 21 بالمئة (1.9 مليون شخص) من مجمل عدد سكان إسرائيل البالغ أكثر من 9 ملايين نسمة، وينحدرون من سلالة نحو 154 ﺃلف فلسطيني بقوا في أراضيهم، عقب إعلان تأسيس الكيان المحتل عام 1948.

أسباب الصمت

وفي تفسيره لأسباب هذا الصمت، يقول الناشط من الداخل المحتل محمد جزماوي: إنه "منذ بداية الحرب، اعتقلت إسرائيل أغلب المؤثرين والمشاهير على وسائل التواصل وقمعتهم بطرق غير إنسانية".

وأردف لـ"الاستقلال": "تخلل الاعتقالات تقييد الأيدي وعصب الأعين وتصوير المعتقلين ومن خلفهم علم إسرائيل مع تشغيل النشيد الإسرائيلي في محاولة لإذلالهم".

وتابع: “ظهر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وهو يحضر الكلاب إلى السجون ويأمر بإطلاقها على المعتقلين من فلسطينيي الداخل”.

وواصل القول: "إذا وضعت إعجاب على منشور له علاقة بغزة، يجرى اعتقالك بتهمة دعم الإرهاب، كما يحدث كثير من التحريض عليك وقطع رزقك وطردك من عملك".

ومن بين أبرز الأمثلة، اعتقال الشرطة الإسرائيلية، المغنية والطبيبة الفلسطينية دلال أبو آمنة من مدينة الناصرة شمال البلاد، بتهمة “التحريض ودعم فلسطين”، وذلك بعد 10 أيام فقط من اندلاع طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قبل أن يفرج عنها بعد أيام والتزامها الصمت بعد ذلك.

ورأى جزماوي أنه هكذا ببساطة، نشرت إسرائيل الرعب لدى فلسطينيي الداخل مما دفع الأهالي للتراجع عن التفكير بالكتابة على وسائل التواصل أو التظاهر.

وأضاف أسبابا أخرى من بينها انتشار الجرائم في الداخل المحتل، مبينا أنه “كل يوم يقتل 5 أشخاص على الأقل على يد مافيا وعصابات إجرامية زرعتها إسرائيل بيننا، ولذلك يخشى الناس الحديث حتى لا ينالهم أذى أو تهديدات من هؤلاء".

وتتصاعد جرائم القتل والعنف في الداخل الفلسطيني بوتيرة مستمرة، ما تسبّب في فقدان الأمن والأمان الاجتماعي وتزايد مخاوف المواطنين والتي يعززها انتشار السلاح، في ظل استمرار تواطؤ الشرطة الإسرائيلية في نشر الجريمة في المجتمع العربي.

وجرّاء الجريمة المنظمة، وصلت أعداد القتلى خلال عام 2024 إلى 235، بينهم 17 سيدة وشابة، و10 أطفال دون سن الـ17، إضافة إلى قرابة 725 إصابة، وهو مستوى غير مسبوق مقارنة بالأعوام السابقة، ويعد الأعلى منذ عقود، وفق مركز معلومات فلسطين “معطى”.

وواصل جزماوي سرده للأسباب قائلا: “إسرائيل أفسحت المجال لفلسطينيي الداخل لسحب قروض لكل شيء، شراء سيارة مع دفع 400 دولار بالشهر، وسفر وسياحة وغيرها من العروض، وبذلك أرهقتهم بالديون".

ولفت إلى أن جزءا كبيرا من أهل الداخل نسي القضية الفلسطينية وأصبح همه اليومي، التفكير في كيفية سداد الديون وملاحقة المصاريف وتجنب أي ضرر من قضية غزة. وفق تعبيره.

ورغم ذلك أكد بالقول: "نحن فلسطينيو الداخل لم ننس أصلنا ونحاول دعم غزة بكل الطرق، رغم أننا نعيش عندهم (إسرائيل) ومضطرون نشتغل ونتعامل معهم".

وألمح إلى أن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 مغلوبون على أمرهم ويقدمون المساعدات إلى غزة بطرق التفافية؛ “لأن إرسال 10 دولارات إليهم يمكن أن يؤدي إلى السجن لمدة 8 سنوات بتهمة دعم الإرهاب”. مضيفا: “لا قادرين نحكي ولا حتى ندعم ماليا”.

تأصيل وتقييم

وفي تقييمه للتفاعل مع حجم المأساة في غزة، قال ناشط آخر من الداخل المحتل لـ"الاستقلال" إنه لا فلسطينيي 48 ولا الضفة أو غيرهم أدوا واجبهم تجاه ما يجرى. مبينا أنه بعد طوفان الأقصى تغيرت كل قواعد اللعبة.

وأردف الناشط الذي رفض الكشف عن اسمه خوفا من الملاحقة: "أسباب عدم التفاعل عديدة أبرزها التهديد والخوف من التصفية الجسدية أو من تبعات التحريض من المجتمع الإسرائيلي".

وعاد للوراء في تأصيل ما جرى بالقول: "قبل 7 أكتوبر، إذا سألت أي شخص من فلسطينيي الداخل عن قضيته المركزية، فلن يقول لك غزة وفلسطين أو حتى الأقصى".

وأكّد أن تلك الفترة كانت تشهد موجة جرائم قتل غير مسبوقة من قبل العصابات الإجرامية التي تترك لها إسرائيل حرية العمل دون ملاحقة، مؤكدا أن الناس يعيشون في رعب شديد.

وتابع: "لم يستطع أحد بما فيهم المشايخ والحركات الإسلامية إيجاد حل لهذه الفوضى وسيطرت العصابات على المشهد حتى جاء 7 أكتوبر وكان الناس قد فقدوا الثقة بجميع الجهات التي كانوا يعتقدون أنها تمثلهم".

وعن يوم 7 أكتوبر، قال: إن "الناس احتفلوا بشكل كبير وتحمسوا وكتبوا على فيسبوك، وتفاجؤوا خلال يومين باقتحامات واعتقالات مرعبة، لم تستثن أي شريحة بالمجتمع".

وأكد أن الاعتقالات استمرت وكانت على منشورات عادية مثل الدعاء والتضامن وأي مقولات قد يفهم منها دعم غزة.

وتابع: “وصلت تهديدات إلى مشايخ من الداخل، أنه إذا رمي حجر على إسرائيل ستخرج مقابله رصاصة، في إشارة إلى إمكانية حدوث تصفيات. لم يصل الأمر إلى حد التصفية لكن الناس شعرت بالخطر”.

واستدل بحادثة خروج مظاهرة في أم الفحم نظمها المحامي أحمد خليفة وآخرون، قالوا: إنهم سيخرجون بأي ثمن وسيكسرون الصمت وذلك احتجاجا على وقوع مجزرة مستشفى المعمداني، الذي قصفه الاحتلال في 17 أكتوبر 2023، ما أدى لاستشهاد أكثر من 500 فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء.

وأردف: “في نفس اليوم ليلا، هاجمت عصابات إجرامية بيت خليفة في إشارة تحذيرية إلى إمكانية تصفيته، وبعدها لم يخرج الناس باستثناء حالات نادرة”.

وواصل القول: “كل الاعتقالات خاصة في زمن بن غفير، أوصلت رسالة للجميع إنه ما في لعب مع الدولة، إضافة إلى أن المجتمع اليهودي يحرض على قتلك وطردك من العمل”.

وتابع: “لو جرت إدانتك فلا يوجد شيء اسمه الوقوف مع أهل غزة؛ لأنك تصنف مباشرة على أنك داعم لـ7 أكتوبر وهذه جريمة لا تغتفر مجتمعيا أو أمنيا بالنسبة لهم”. وبيّن أن “هناك أناسا دفعوا الثمن وخسروا مصالحهم التجارية ومنهم من طرد من الجامعات، وغيرها من صور العقاب”.

وعن الوقفات والحركات التي جرت أخيرا، قال الناشط: إنها بدأت منذ مايو/أيار 2025، بالتزامن مع ظهور حِراكات جديدة من بينها جسم إسرائيلي جديد يدعى “نقف معا” (يساري متطرف)، شجع الناس على الخروج ضد الجوع.

وبيّن أن كل من كان يخرج سابقا، كان يجرى اتهامه بأنه داعم لحماس، لكنه ألمح إلى أن حاجز الرعب انكسر قليلا خاصة مع تزايد الحراكات وظهور مظاهرات لا يقودها عرب أو في مدن تضم أغلبية يهودية. 

ما الخيارات؟

وعن خياراتهم، قال الناشط جزماوي: إن فلسطينيي 48 هم القلب النابض للداخل المحتل، “وإذا أعلنوا التعطيل والإضراب من أطباء وعمال بناء وغيرهم لمدة أسبوعين إلى شهر أو شهرين، لانتهت الحرب على غزة”.

ورأى أنه “لو أننا أضربنا عن العمل لتوقفت الدولة؛ لأنه لا يوجد أحد يمكن أن يعمل في بعض المهن التي نؤديها، خاصة أن أهل الضفة منعوا بالفترة الأولى من الدخول للعمل بعد 7 أكتوبر”.

وبعد 7 أكتوبر، فرض الاحتلال إغلاقا شاملا وأوقف جميع تصاريح العمل في إسرائيل، ما أدى إلى انضمام أكثر من 115 ألف عامل إلى طوابير البطالة، لكن أعيد تفعيل جزء ضئيل من هذه التصاريح لاحقا، بحوالي 8 آلاف تصريح فقط.

ويعتقد الناشط جزماوي أن الناس تخشى إطلاق مثل هذه المبادرة؛ لأن من سيطلقها قد يقود نفسه إلى السجن بالمجان مع توقعه عدم استجابة الناس لها.

وأكد أنه لا خيار لدى فلسطينيي 48 سوى الإضراب ونزع الخوف والتزود باليقين أن الرزق من عند الله وأن ما جرى في غزة يستحق التضحية أكثر.

بدوره، تحدث الناشط الذي رفض الكشف عن اسمه عن صعوبة الخيارات اليوم بعد تغير قواعد اللعبة، بالمقارنة مع ما جرى خلال هبة الكرامة في مايو/أيار 2021.

وانطلقت الهبة داخل عدد من مدن الداخل المحتل، ردا على محاولات التهجير القسري لأحياء في القدس، والتصعيد في عنف المستوطنين والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، وقد شهدت أيضا حملات اعتقال وقمع، لكن الارتباط المباشر اليوم لأي حراك بغزة يعقد الوضع أكثر.

وتقول مؤسسة الدراسات الفلسطينية في دراسة لها عام 2024: إن القيادات في الداخل تحاول المراوغة، في الحد الأدنى الذي تسمح به مكانتها السياسية في إسرائيل، من دون أن تخاطر حتى في الحصانة البرلمانية التي تمنحها لها عضوية الكنيست (البرلمان).

فقد التمست القيادات لدى كل من المستشار القضائي، والمفوض العام للشرطة، وقائد شرطة الناصرة، وأيضا لدى المحكمة العليا لإقامة تظاهرات قليلة ضد الحرب في حيفا وغيرها، وقد أقيمت بالفعل بأعداد محدودة.

ولكن أكدت المؤسسة أن النخبة السياسية لا تزال عاجزة عن تنظيم احتجاجات جماهيرية واسعة. في المقابل، تحاول جمعيات ومؤسسات إعلامية المناورة من خلال تنظيم ندوات وتوفير منصات للكتابة، وغيرها من الأنشطة.

من جانبه، تحدث مركز الزيتونة للدراسات خلال ورقة علمية نشرها في يوليو/تموز 2024 عن قلة خيارات فلسطينيي الداخل اليوم بسبب محددين اثنين.

الأول تجارب حكومات إسرائيل الصعبة السابقة مع هذه الأقلية في إطار ما يتعلق بالحالة الوطنية والقضية الفلسطينية، التي كان من أبرزها وأخطرها هبة الكرامة سنة 2021؛ التي مثّلت خطراً جدياً على تماسك واستقرار الداخل الإسرائيلي. 

أما المحدد الثاني فيتعلق بطبيعة الحرب، التي تختلف عن سابقاتها من حيث مداها الجغرافي وتعدد جبهاتها؛ جنوب لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، والضفة الغربية، التي تمّ فرضها مع انطلاق عملية طوفان الأقصى مباشرة من طرف محور المقاومة. وفق الدراسة.

وبين أن تعدد الجبهات رفع مستوى التهديد هذه المرة على وجود الكيان، الذي أعلن على لسان العديد من قياداته وساسته بأن حرب الإبادة على قطاع غزة إنما في حقيقتها هي “حرب البقاء” أو “الاستقلال الثاني”.

وتابع: “يبدو أن التوقعات لرد فعل فلسطينيي 48 قد أغفلت كثيرا من العوامل التي أثّرت بشكل جدي وملموس على قدراتهم وإمكانياتهم”.

لكنه يعتقد أن هذا الواقع غير نهائي وهو مفتوح بشكل كبير على احتمال التحول في أي لحظة، حسب سير الأحداث والمتغيرات الميدانية والسياسية.