أرقام مقلقة.. لماذا ينزح سكان جنوب العراق نحو الوسط والشمال؟
تتصاعد موجات النزوح الجماعية من محافظات جنوب العراق إلى مناطق الوسط والشمال، وسط تحذيرات من تأثيرات ديمغرافية في البلاد، وذلك على وقع الأوضاع الأمنية والمعيشية، إضافة إلى الجفاف الذي أضر كثيرا بالثروة الحيوانية والزراعية في تلك المدن.
وفي 2 يوليو/تموز 2023، أكد بيان لـ"مرصد العراق الأخضر" الحقوقي، أن ما شهدته ناحية الخير بمحافظة ميسان الجنوبية، من نفوق ملايين الأسماك نتيجة قلة المياه، هو بداية لتداعيات صيف جفاف المياه، فيما حذر مختصون من خطر تداعيات ذلك على الوضع المعيشي للسكان.
تداعيات خطيرة
انطلاقا من هذه الأزمة وتأثيراتها على التركيبة السكانية، قال الخبير البيئي العراقي، إياد عبد المحسن، إن "الجفاف سبب رئيس للهجرة لأن تداعياته تنعكس بشكل مباشر على الأنظمة البيئية وبما فيها بني البشر، وهذا الأمر مشخّص على مستوى العالم".
وأضاف عبد المحسن في حديث لـ"الاستقلال" أن "الهجرة السكانية الحاصلة في داخل العراق بدأت بعد عام 2003، وازدادت بشكل تدريجي بسبب سوء إدارة الموارد، وبدرجة أساسية ملف المياه".
وشدد الخبير البيئي العراقي على ضرورة أن "تتغير العادات الاجتماعية عن طريق تقنين استخدام المياه لمواجهة الاحتباس الحراري الذي يعد العراق خامس دولة في العالم متأثرة به".
ولفت إلى أن "الحكومات المتعاقبة في العراق منذ عام 2003 لم تكن لديها الفرصة لإيجاد حلول لمشكلة الاحتباس الحراري، وذلك بسبب الضغط الاقتصادي والسياسي من دول الإقليم والعالم، وأن كل هذه مجتمعة أدت إلى وصول البلاد إلى هذه المرحلة".
وأشار عبد المحسن إلى أن "الجفاف في العراق يؤدي إلى الهجرة، والآن هذه الحالات الموجودة في محافظتي ميسان وذي قار دليل على ذلك، لأن الثروة السمكية والحيوانية تمثل مصدرا أساسيا للرزق في هذه المدن منذ القدم وحتى اللحظة، كون سكان جنوب العراق يمثلون في غالبيتهم المجتمع الريفي".
وبيّن أن "العراق تقريبا نصف سكانه في الريف والنصف الآخر في المدينة، لذلك لو كانت هناك حماية بيئية لما حصل الذي حصل وهاجرت الناس من الأرياف إلى المدن، وعلى الحكومة أن تدير موضوع المياه بشكل أفضل وتدارك التداعيات الخطيرة".
ولا يستبعد هذا الخبير أن يحصل تغيير ديموغرافي في البلاد، إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات سريعة ووضع حلول آنية لمواجهة الاحتباس الحراري في العراق، "والعالم كله يعاني من الأمر نفسه ولسنا نحن فقط".
وفي السياق ذاته، قال الكاتب العراقي حسين السبعاوي خلال تقرير نشره موقع مركز "راسام" للدراسات الاستراتيجية، في 10 مارس/آذار 2023 إن "العوائل من المحافظات الجنوبية بدأت تسكن أطراف مدينة سامراء (شمال البلاد) وخاصة مربي الجاموس في محافظة ميسان بحجة جفاف الأهوار والحاجة إلى المناطق المائية لتعيش جواميسهم".
أسباب أخرى
ليست أزمة الجفاف وحدها هي ما يدفع سكان محافظات جنوب العراق إلى الهجرة، بل أن أسبابا أخرى تتعلق بتفشي البطالة، والنزعات العشارية المسلحة، تدفعهم للنزوح من أماكن سكناهم في الأرياف والقرى إلى مدن وسط وشمال البلاد.
وتشكل النزاعات العشائرية سببا كبيرا للنزوح من محافظات الجنوب إلى الوسط والشمال، والتي تعرف بها محافظات ذي قار وميسان والبصرة، خلافا لباقي مدن البلاد، حسبما يرى مراقبون للشأن العراقي.
وفي 19 أبريل/نيسان 2023، اندلع اشتباك بين عشيرتين لنحو 48 ساعة، مخلّفا عددا من القتلى وعشرات الجرحى من الطرفين، ناهيك عن خسائر مادية كبيرة في المنازل، في قضاء النصر بمحافظة ذي قار جنوبي العراق، إثر مقتل شيخ إحدى العشيرتين وإصابة نجله بجروح.
وجرى استخدام شتى أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، بما فيها قاذفات "آر بي جي"، وأسلحة رشاشة مختلفة، خلال الشجار، الأمر الذي دفع قيادة عمليات الجيش العراقي إلى إرسال تعزيزات عسكرية إلى المحافظة، وانتشرت في شوارعها للسيطرة على الاشتباكات.
وفي مطلع أبريل نفسه، قتل وأصيب في محافظة ذي قار أكثر من 16 شخصا في حادثتين منفصلتين في بلدتي الإصلاح والرفاعي إثر نزاعات عشائرية.
وبعد انتهاء القتال بين طرفي النزاع، انتشرت القوات الأمنية من دون أن يُفتح أي ملف في المحاكم، ولم تصدر أي مذكرة قبض بحق أي مشارك في هذه النزاعات.
وفي إحصائية تحدثت عنها وزارة الداخلية العراقية، فإن مديرية شؤون العشائر التابعة للوزارة تمكنت من فض أكثر من 2400 نزاع عشائري خلال عام 2022.
وقال مدير شؤون العشائر في وزارة الداخلية اللواء ناصر علي النوري، لشبكة "رووداو" العراقية في 4 يناير/كانون الثاني 2023 إنه "خلال عام 2022، حسمنا 2403 نزاعات عشائرية من خلال هيئة الرأي وعبر أذرعنا".
وأضاف النوري أنه "شكلنا لجان هيئة الرأي أو الفراضة في كل محافظات العراق، وبالتالي يعملون على التدخل وحسم النزاعات العشائرية وفق الوسائل العشائرية المتعارف عليها، وعدم قيام بعض الأشخاص بالدگة العشائرية".
وبخصوص الافتقار للعمل في تلك المدن، فإن الصيادين والمزارعين وصناع القوارب وآخرين تخلوا عن الحياة التي تعتمد على المياه ويبحثون عن وظائف في المناطق الحضرية التي ترتفع فيها بالفعل معدلات البطالة، حسب تقرير نشرته وكالة "رويترز" البريطانية في 5 يونيو/حزيران 2023.
إحصاءات وأرقام
ونقلت عن منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة أن أكثر من 62 ألف شخص نزحوا داخل العراق حتى سبتمبر/أيلول 2022 بسبب ظروف الجفاف المستمرة منذ أربع سنوات، وهو عدد من المرجح أن يرتفع مع تدهور الأوضاع.
وفي تقرير سابق نشر عن المنظمة ذاتها عام 2021، أكدت أن هناك 5 مليون إنسان عراقي سيهاجر من الجنوب إلى إقليم كردستان العراق بغضون 8 أعوام، أي مع حلول عام 2030.
يضم العراق ثلاثة أهوار رئيسة، هي هور "الحويزة" الواقع على الحدود الإيرانية، وهور "الحمّار"، وأهوار الفرات التي تمتد من مناطق شمال وغرب محافظة البصرة وجنوب منطقة العمارة إلى قرب مصب دجلة والفرات في الخليج العربي.
وفي أغسطس 2022، حذر تقرير حديث صادر عن مكتب الأمم المتحدة للتنسيق، من أن خطر الهجرة بين المحافظات العراقية يتزايد بفعل التغيرات المناخية وتفاقم مشاكل الجفاف، فيما أشارت إلى أن نصف سكان الجنوب بين من هجروا الزراعة أو يفكرون بهجرتها.
وأكد التقرير أن "البصرة وميسان وذي قار المحافظات الثلاث التي تشكل جنوب العراق تتجه لتسجيل أكبر عدد من النزوح الداخلي الناجم عن المياه على مدار العقد الماضي ويرجع ذلك أساسا إلى ندرة المياه والتلوث وملوحة التربة في بعض القرى".
وكشف أن "محافظة ذي قار، هاجر منها السكان ما يصل إلى نصف المنازل، وأدى نقص المياه إلى نزوح ما يقرب من 15000 حالة جديدة فيها".
وفي محافظتي ميسان والبصرة في 2019 وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021 سجلت المنظمة الدولية للهجرة نزوح 12 ألفا و348 شخصا من جنوب العراق بسبب الجفاف.
ولفت إلى أن "نحو 8 بالمئة من الأسر في البصرة، و3 بالمئة في ذي قار و13 بالمئة في ميسان تعتمد بشكل كامل على الزراعة أو الثروة الحيوانية أو صيد الأسماك وليس لديهم مصدر دخل بديل مثل العمل في الحكومة أو قوات الأمن، وهذه النسب تعادل 75 ألف شخص تقريبا".
وبحسب التقرير، فإن "السنوات الخمس الماضية، شهدت تخلي العديد من العائلات تماما عن سبل العيش الزراعية، حيث تخلى 7 بالمئة من جميع الأسر الزراعية منهم 4 بالمئة في البصرة و12 بالمئة في ذي قار ، و8 بالمئة في ميسان".
وأردف: "كما أن 20 بالمائة من الأسر في جنوب العراق تخلت عن الزراعة بعد أن هاجر أحد أفرادها في السنوات الخمس الماضية (معدل أعلى بكثير من الأسر غير الزراعية) بينما تشير نسبة 30 بالمئة أخرى إلى تفكيرهم بالهجرة".
وعلى الصعيد ذاته، قال الكاتب العراقي، يحيى الكبيسي خلال مقال نشرته صحيفة "القدس العربي" في 13 مايو/أيار 2021، إن العراق شهد تاريخيا أكثر من عملية واسعة للتغيير الديمغرافي فرضتها جملة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وأضاف: "من يراجع الدراسات المتعلقة بالتغيير الديمغرافي ببغداد في سنوات الأربعينيات والخمسينيات سيجد تحليلا لطبيعته بسبب الهجرات الكثيفة إليها من المدن والمحافظات الأخرى".
وبيّن الكبيسي أن "عدد الوافدين من محافظة ميسان وحدها بلغ نحو 6.5 بالمئة من مجموع سكان محافظة بغداد البالغ عددهم 817205 نسمة وفقا للتعداد السكاني العام 1947، لتصل النسبة إلى 8.74 بالمئة في التعداد السكاني لعام 1957".
وأشار إلى أن "الوافدين من محافظة الأنبار شكلوا ما نسبته 1.68 بالمئة عام 1947 و1.57 بالمئة عام 1957. ومراجعة الأرقام المتعلقة بالتغييرات الديمغرافية في محافظات نينوى والبصرة تكشف عن الظاهرة نفسها".
المصادر
- الهجرة من جنوب العراق.. دراسة اممية تضع النقاط على حروف اسبابها
- “عايف روحي هناك”.. هجرة سكان الجنوب العراقي إلى إقليم كردستان تتزايد
- الجفاف يتسبب في هجرة اقتصادية من مناطق الأنهار والأهوار بالعراق
- الجفاف يجبر سكان أهوار العراق على الهجرة
- تقرير أممي: الهجرة من جنوب العراق تتزايد على وقع التغيرات المناخية والجفاف
- تحذير أممي: 3 محافظات عراقية تتجه لتسجيل أكبر هجرة زراعية
- التغيير الديمغرافي القسري في العراق
- النزاعات العشائرية في العراق... استخدام لشتى أنواع الأسلحة
- التغيير الديمغرافي في صلاح الدين
- العراق.. فضّ 2403 نزاعات عشائرية وضبط اكثر من 45 الف قطعة سلاح في 2022