"خدمة للسيسي".. كيف أسست الأجهزة الأمنية للنظام المصري حزب "مستقبل وطن"؟

داود علي | a year ago

12

طباعة

مشاركة

خلال الثورة المصرية عندما تحركت الجموع نحو "ميدان التحرير" بالقاهرة في جمعة الغضب يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2013, كان المشهد الأيقوني للثورة رؤية مبنى "الحزب الوطني" (الحاكم) وهو يحترق على ضفاف النيل.

لم يكن يتصور أكثر المتشائمين تلك النهاية للحزب الذي حكم لعقود وكان في خدمة الرئيس السابق الراحل، حسني مبارك، المسيطر الأول على منافذ الحياة في مصر، لأن أفراده من النخبة المقربة لأجهزة الأمن القوية.

ظن الجميع أنه بقيام الثورة وسقوط الحزب الوطني انتهت قصة "الأحزاب المصنوعة" لخدمة الحاكم, وأن مصر بصدد عهد جديد من تطور الديمقراطية, وتحقيق التعددية السياسية. 

لكن الانقلاب العسكري بقيادة عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو/ تموز 2013, وأد تلك الحالة برمتها وعاد الوضع إلى أسوأ من زمن الحزب الوطني، لتفرز الوضعية القائمة عن تشكيلة جديدة في صورة أحزاب على رأسها "مستقبل وطن"، مما طرح تساؤلات عن كيفية تشكيل هذا الحزب وطبيعة علاقته بالأجهزة الأمنية.

انسحاب مفاجئ

آخر واقعة فجرت هذه التساؤلات عن "مستقبل وطن", حينما بدأ اللقاء الصحفي المصور في 21 يونيو/ حزيران 2023, بين البرلماني حسام الخولي, نائب رئيس حزب "مستقبل وطن", وصحفي موقع "ذات مصر", حيت بادر الأخير بسؤال الخولي عن العلاقة بين الحزب والأجهزة الأمنية.

السؤال أربك النائب ولم يستطع إخفاء توتره، قبل أن يتخذ قرارا بالانسحاب المفاجئ في حينه، قائلا: "لن أكمل اللقاء، واديني (اعطني) فرصة أسأل عن ذات مصر؟".

الانزعاج الذي أظهره الخولي, جعله عرضة للانتقادات والتساؤلات في آن واحد, لماذا توتر إلى هذا الحد؟ ولماذا لم يناور للخروج من "السؤال الملغوم" بطريقة أفضل؟

لكن حدة الموقف لم تخف واقع السؤال نفسه, هل الأجهزة الأمنية هي التي شكلت بالفعل حزب "مستقبل وطن"؟

 

"وشهد شاهد من أهلها" ينطبق على ما كشف عنه السياسي، حازم عبد العظيم، في حق الحزب ونشأته السياسية نهاية 2014.

وعبد العظيم هو أحد مسؤولي حملة ترشح السيسي للانتخابات الرئاسية عام 2014 وكان من الداعمين بقوة لرئيس النظام والمعارضين للرئيس المنتخب ديمقراطيا الراحل محمد مرسي والمناهضين بشدة لجماعة الإخوان المسلمين.

وفي 1 يناير/ كانون الثاني 2016, نشر عبد العظيم شهادته عن مرحلة إعداد قائمة "في حب مصر" التي كانت الممثل الرسمي للسيسي في الانتخابات البرلمانية عام 2015 وعن الدور الذي لعبته الأجهزة الأمنية في تشكيلها.

خاصة أن حزب "مستقبل وطن" الذي تأسس عام 2014, كان بمثابة حجر الزاوية لتلك القائمة, وقد تأسس على يد الرئيس السابق لاتحاد طلاب مصر, محمد بدران، المقرب من الأجهزة الأمنية, بالتنسيق مع العقيد أحمد شعبان, أحد الضباط المقربين من عباس كامل, رئيس جهاز المخابرات العامة, حسبما ذكر موقع "مدى مصر" المحلي في 8 مارس/ آذار 2016

وكتب عبد العظيم عبر حسابه في "تويتر" قائلا: "المخابرات العامة لعبت دورا أساسيا في إعداد وتجهيز قائمة (في حب مصر)، وقد تلقيت اتصالا هاتفيا من أحد المساعدين المقربين للسيسي, وأبلغني أن أول اجتماع للقائمة سيكون في جهاز المخابرات العامة يوم الثلاثاء 3 فبراير 2015".

وتابع: "اندهشت! وقلت لماذا جهاز المخابرات العامة؟ قال لي معلش (عذرا) أول اجتماع لازم (لابد) يكون هناك".

وأضاف "بالفعل ذهبنا إلى قاعة اجتماعات داخل جهاز المخابرات العامة، في دور أرضي, وكان الغرض من الاجتماع, الإعلان عن قائمة انتخابية جديدة لخوض انتخابات مجلس النواب".

وأورد: "جاء الحضور وعلى رأس الطاولة وكيل من الجهاز مع أربعة من رجال المخابرات, والباقون حوالي 15 من الشخصيات العامة المؤسسة لهذه القائمة وكنت أحدهم".

أما بقية الحاضرين فهم, سامح سيف اليزل، ضابط المخابرات السابق والذي سيتم تعيينه فيما بعد منسقا للقائمة (رحل في أبريل 2016) ومحمود بدر، أحد مؤسسي حركة تمرد التي كانت قد أطلقت مبادرة إسقاط الرئيس مرسي في 2013. 

وذكر: "من كان يدير الجلسة ويوجهها هم وكيل جهاز المخابرات من ناحية والمستشار القانوني من ناحية أخرى, حيث تم توزيع أوراق على جميع الحاضرين بها اسم القائمة ووثيقة مبادئ تعبر عن القائمة الانتخابية الجديدة!".

واختتم: "كانت (في حب مصر) هي المولود في هذا الاجتماع, نعم داخل جهاز المخابرات العامة المصرية". 

 

الاندماج والسيطرة 

المسيرة السياسية لـ"مستقبل وطن" لم تختلف كثيرا عن طبيعة تأسيسه, فرغم أن المادة 87 من الدستور تنص على "أن تضمن الدولة سلامة إجراءات الاستفتاءات والانتخابات ونزاهتها، ويحظر استخدام المال العام والمصالح الحكومية والمرافق العامة في الأغراض السياسية أو الدعاية الانتخابية"، لكن ذلك لم يطبق أبدا على "مستقبل وطن".

الحزب كسر كل القواعد في أول انتخابات تشريعية خاضها عام 2015 تحت لواء تحالف "في حب مصر" الذي أشرفت عليه الأجهزة الأمنية والمكون من "مستقبل وطن - المصريين الأحرار - الوفد الجديد".

وحصد مستقبل وطن (المستجد) منفردا 57 مقعدا داخل مجلس النواب, كثاني أكبر الأحزاب تمثيلا بعد حليفه "المصريين الأحرار" الذي حصد 65 مقعدا, وكانت عدد المقاعد البرلمانية تمثل 596. 

وقتها قالت صحيفة "العربي الجديد" إن النجل الأكبر لرئيس النظام, محمود السيسي, يشرف بنفسه في غرفة عمليات خاصة أدارت المشهد الانتخابي عبر اجتماعات يومية في مقر المخابرات، على قائمة "في حب مصر" المؤيدة للسيسي، التي هيمنت على البرلمان.

لم يقف طريق "مستقبل وطن" عند هذه النقطة، ففي عام 2018 شهد الحزب طفرته الكبرى عندما اندمجت قائمة "في حب مصر" بداخله, وقدم معظم نواب الأحزاب الأخرى في التحالف استقالتهم لينضموا للحزب، ويصبح فعليا الحزب الأكبر تحت قبة البرلمان بشكل غير رسمي.

وفي 26 مارس/ آذار 2018, كان "مستقبل وطن" فعليا هو التنظيم السياسي الرسمي لحملة السيسي للانتخابات الرئاسية، ودشن أكبر حملة ميدانية لدعمه, واستعان بشركات ومجموعات ميدانية للصق صور رئيس النظام في الشوارع والميادين العامة بصورة مكثفة, دعت للسخرية آنذاك، لأنه لم يكن هناك منافس حقيقي للسيسي.

ومنافسه الوحيد كان رئيس حزب الغد، موسى مصطفى موسى، الذي أعلن دعمه للسيسي, وحصل على نسبة 2.92 بالمئة من الأصوات, في انتخابات شكك في نزاهتها وأحجم قطاع كبير من الشعب على المشاركة فيها.

واستمر حزب "مستقبل وطن" حتى الانتخابات البرلمانية عام 2020 وكانت هذه الانتخابات أكثر سهولة من انتخابات 2015 وخلت من التكتلات والتحالفات الحزبية, وحصد 316 مقعدا من أصل 596, بينما حصل الحزب الثاني في التمثيل البرلماني "الشعب الجمهوري" على 50 مقعدا فقط.

أما على مستوى المواقف الحزبية، فقد دعم "مستقبل وطن" السيسي بشكل مطلق, وهو الذي خاض معركة تيران وصنافير ضد نواب المعارضة القليلين الذين كانوا يرفضون التفريط في الجزيرة لصالح السعودية.

وفي الجلسة العامة يوم 14 يونيو/ حزيران 2017, أقر البرلمان اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية, وكان معظم المصوتين من أعضاء مستقبل وطن, وبموجب ذلك التصويت انتقلت ملكية الجزيرتين من مصر إلى السعودية، وسط اعتراض وشجب شعبي وسياسي.

التوجه الآخر للحزب أنه يعد ثورة 25 يناير 2011, أحد أسباب التدهور السياسي والاقتصادي في مصر، وهي نفس رؤية السيسي. 

وكذلك فإن الحزب داعم بقوة لسياسة القروض والاستدانة من الجهات الدولية والإقليمية.

حيث عبر قادة مستقبل وطن في كثير من الأحيان عن دعمهم لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المدعوم من صندوق النقد الدولي.

ويعتقدون أنه الطريقة الوحيدة لمساعدة مصر على التعافي من آثار ثورة يناير وإنشاء دولة مصرية حديثة وقوية على حد وصفهم.

وقد وردت تلك الرؤى في بيان أصدرته الأمانة العامة للحزب في 2 أغسطس/ آب 2016 شدد فيه على تعزيز توجه النظام للتفاوض مع صندوق النقد الدولي لاقتراض 12 مليار دولار خلال 3 سنوات، معتبرا أنها خطوة ضرورية ولا بد منها لسد ذلك العجز الذي عجزت معه الحكومة.

وأغفلت توجهات الحزب الممثل لنظام السيسي التقارير الدولية المؤكدة أن السبب الأول للأزمة الاقتصادية هو السيسي نفسه والمشروعات التي أقامها, وسياسة الاستدانة غير الممنهجة التي اتبعها.

فمثلا في 23 يناير 2023, نشر موقع "فرانس 24" الفرنسي تقريره عن الاقتصاد المصري, ورد فيه أن "شبح الفقر يقترب من أفراد الطبقة المتوسطة، في ظل الأزمة الاقتصادية المتواصلة وسط خفض قيمة العملة والتضخم المتزايد، نتيجة السياسة الاقتصادية للسيسي، مما يدفع أفراد تلك الطبقة إلى تغيير نمط عيشهم جذريا".

بلطجة حزبية

وليست طبيعة التكوين أو التوجه السياسي فقط هما المعززان لارتباط "مستقبل وطن" بالأمن والنظام الحاكم, لكن سلوك الحزب نفسه في إدارة الأمور, أكد ذلك التوجه. ويأتي تدخله الفج في أزمة نقابة المهندسين كدليل على استخدام الحزب كذراع ضاربة للنظام.

وفي 30 مايو 2023 أثار اقتحام مؤيدين للنظام مقر اقتراع الجمعية العمومية غير العادية لنقابة المهندسين في القاهرة، وإتلاف معظم الصناديق التي شارك بها نحو 25 ألف مهندس، الغضب العارم.

وكانت بداية الأحداث من الأساس بطلب نحو ألفي عضو من أعضاء الجمعية العمومية لنقابة المهندسين المصرية من التابعين لحزب "مستقبل وطن" ذي الأغلبية بمجلسي النواب والشيوخ والذراع السياسية للسيسي، سحب الثقة من نقيب المهندسين، طارق النبراوي، المحسوب على تيار الاستقلال, وغير المرغوب فيه من السلطة.

ورغم أنه استجاب لمطلب أعضاء "مستقبل وطن" بعقد جمعية عمومية غير عادية لسحب الثقة منه, لكن الأمر لم يمر مرور الكرام، حيث اكتمل نصاب الجمعية, واحتشد المهندسون لتجديد الثقة في نقيبهم, وتحدوا إرادة السلطة وخطة حزب "مستقبل وطن".

وبالفعل أشارت النتائج الأولية تأكيد أغلب المهندسين المشاركين تمسكهم بنقيبهم في مواجهة دعوات مهندسي حزب "مستقبل وطن" سحب الثقة منه.

لكن وفي تمام الساعة العاشرة مساء بالتوقيت المحلي للقاهرة، وقبيل إعلان القضاة النتائج النهائية، رصدت مقاطع الفيديو المصورة في بث مباشر عبر الإنترنت هجوم أشخاص بينهم نواب بالبرلمان عن "مستقبل وطن"، على مقر الجمعية العمومية وقيامهم بإتلاف صناديق الاقتراع.

وهو ما قابله اتهامات من المهندسين الغاضبين لـ"مستقبل وطن"، ولمن أسموهم بالبلطجية برعاية "الأمن الوطني"، بارتكاب هذا الفعل.

ومن أبرز المتورطين في ذلك الهجوم والتعدي بالضرب على المندوبين بقصد تعطيل إعلان النتيجة، عضو مجلس النواب عن دائرة الشرابية بالقاهرة، إيهاب العمدة, وهو قيادي بارز في "مستقبل وطن" الحائز الأغلبية في البرلمان، وسبق أن وجهت للعمدة اتهامات بالاعتداء على المتظاهرين السلميين إبان أحداث ثورة 2011، في ما عرف وقتها بـ"موقعة الجمل".

وعلق الصحفي والبرلماني السابق، عامر حسن, على ارتباط الحزب بالأجهزة الأمنية قائلا: "مستقبل وطن هو التطور الطبيعي للطليعة الاشتراكية وحزب مصر زمن جمال عبد الناصر والحزب الوطني زمن محمد أنور السادات ومبارك, والآن مستقبل وطن هو التنظيم السياسي للحاكم والذراع السياسية لأجهزة الأمن". 

وأوضح حسن لـ"للاستقلال" أن "مسألة ارتباط الأحزاب بأجهزة الأمن في مصر، سواء المخابرات أم أمن الدولة مسألة اعتيادية, تحدث بشكل دائم, بل هي من سياسات الدولة العليا".

وأتبع: "لكن الجديد في مستقبل وطن أن الحزب نفسه متوحد مع الأمن تماما، ويتخطى أمر التنسيق والترتيب إلى كونه أصبح جزءا من المنظومة الأمنية".

واستطرد: "فجزء كبير من الأعضاء المؤسسين للحزب ضباط جيش ومخابرات وشرطة سابقون, وتقل بداخله تشكيلة السياسيين المخضرمين حتى لو كانوا مؤيدين للسلطة والرئيس, وهو ما كان في الحزب الوطني المنحل على سبيل المثال".

واختتم حسن حديثه بالقول إن "نموذج الأحزاب مثل مستقبل وطن, نسميها أحزاب الواجهة, المرتهن وجودها ورؤيتها بالحاكم نفسه, والمعبرة عن الواقع السياسي القائم".

وتابع: "الرئيس نفسه لا يؤيد وجود أحزاب، ولا يريد تعددية حزبية، ولا يشجع الشباب على الانخراط في العمل السياسي، حتى لو من باب مستقبل وطن أو الأحزاب الأخرى القريبة من منظومة السلطة، وبالتالي فإن نهايتها تكون بنهاية الحاكم وتغير الوضع القائم برمته".