بعد الجلسة البرلمانية الأخيرة.. ما السبيل إلى انتخاب رئيس جديد للبنان؟

12

طباعة

مشاركة

ثبتت الجلسة البرلمانية الأخيرة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية الانقسام السياسي الكبير، واتخاذ المعركة طابع صراع مسيحي– شيعي، وسط عجز كل من الفريقين عن تأمين الأكثرية المطلوبة لمرشحه من أجل الفوز، بينما بدا السنة وكأنهم خارج اللعبة تماما بلا أي تأثير أو فاعلية. 

فقد حصل جهاد أزعور، المرشح الذي تقاطعت عليه قوى المعارضة المناوئة لحزب الله، على 59 صوتا، بينهم بضعة أصوات سنية. 

وأزعور هو وزير مالية سابق (2005-2008)، ويشغل اليوم منصب مدير إدارة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في صندوق النقد الدولي. 

في حين نال الوزير الأسبق سليمان فرنجية، مرشح حزب الله وحلفاؤه 51 صوتا، بينهم النواب السنة المقربون من النظام السوري. 

أما الأصوات الباقية من 128 نائبا، وهو مجموع نواب البرلمان اللبناني، فقد ذهبوا إلى خيارات أخرى بقصد الخروج من دائرة الاصطفاف السياسي الحاد. 

ويفرض الدستور اللبناني انتخاب رئيس الجمهورية بأكثرية الثلثين في الدورة الأولى، أي 86 نائبا، وبأغلبية النصف زائد واحد، أي 65 نائبا في الدورات اللاحقة.

ومنذ انتهاء ولاية الرئيس السابق، ميشال عون، في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2022، فشل البرلمان في انتخاب خلف له، في وقت لا يحظى أي فريق بأكثرية تمكّنه منفردا من إيصال مرشحه إلى المنصب.

تغيير النظام

قبل الجلسة، حاول حزب الله من جهة، والأحزاب المسيحية اليمينية الثلاثة: القوات اللبنانية، والتيار الوطني الحر، والكتائب اللبنانية، والتي تشكل العصب الأساس للفريق المعارض اجتذاب النواب المستقلين والتغييرين. 

ونجح الفريق المعارض باجتذاب عدد من الأصوات المستقلة ما خول مرشحه بالتقدم عن مرشح حزب الله بفارق ضئيل. 

وقد ثبت التصويت في هذه الجلسة ابتعاد التيار الوطني الحر عن حليفه حزب الله بشكل رسمي، بعد أن كان نواب الأخير يصوتون بورقة بيضاء في الجلسات السابقة. 

ومنذ فبراير/شباط 2006، ارتبط الحزبان بحلف سياسي بعد توقيعهما وثيقة تفاهم عرفت بـ"اتفاق مار مخايل"، نسبة إلى الكنيسة التي وقعت بها. 

ومذاك خاضا معا كل الاستحقاقات السياسية والانتخابية، وصولا إلى فرض انتخاب رئيس التيار الوطني الحر ومؤسسه ميشال عون رئيسا للجمهورية في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، بعد فراغ رئاسي دام سنتين ونصف. 

بيد أن الوزير الأسبق جبران باسيل، صهر عون ووريثه السياسي، بدأ في الابتعاد عن حزب الله عقب تبلغه دعم الأخير لترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. 

ورغم أن كل القوى السياسية المحلية، خاصة المسيحية، رأت أن باسيل يناور، فقد سعت لتجاوز الخلافات التاريخية معه، والاتفاق على مرشح موحد للوقوف في وجه حزب الله وحماية مقام رئاسة الجمهورية. وهذا الموقع يحظى برمزية معنوية هائلة في وجدان الشارع المسيحي. 

ولهذا فقد أبدت النخب المسيحية رفضها المطلق لمحاولة حزب الله الهيمنة على موقع الرئاسة عبر مرشح ماروني لا يمتلك حيثية تمثيلية كبيرة، وبالكاد نجح نجله (طوني فرنجية) منفردا في الانتخابات التشريعية في العام 2022.

ومقابل إصرار حزب الله على مرشحه، جاهرت الأحزاب والنخب المسيحية باستعدادها لإقامة نظام فيدرالي يقسم البلاد إلى كانتونات طائفية ومذهبية للتخلص من سطوة حزب الله بقوة ووهج سلاحه على الحياة السياسية.

وفي هذا الإطار، كتب الكاتب جان عزيز، مقالتين متتاليتين في موقع "أساس ميديا" أسهب فيهما في شرح نقاط الاختلاف بين التيار الوطني الحر وحزب الله. 

وعزيز كاتب صحفي كان من أبرز المقربين من ميشال عون الذي عينه مستشارا إعلاميا بعد انتخابه رئيسا، لكنه استقال وابتعد عنه نتيجة خلافه الشديد مع الفريق المحيط به. 

في مقالته الأولى "تفاهم مار مخايل: أعطيناكم الرئاسة وأخذنا الجمهورية" في 16 يونيو/ حزيران، تحدث عزيز عن مآخذ التيار الوطني الحر على حزب الله بلسان قيادات الأول.

وقال: "على مدى 17 عاما لم نتمكن من بناء أي مشتركات يومية. كنا أقرب الى كونفدرالية سياسية أكثر منا في تحالف وطني". 

وأضاف "بعد انتخاب (ميشال) عون رئيسا، نحن من عمل على تحجيم سعد الحريري (الزعيم السني)، وترويض وليد جنبلاط (الزعيم الدرزي)، معتقدين بذلك أننا نقفل الساحة اللبنانية كاملة على احتكار ثنائي مار مخايل لها". 

وتابع "حين وصلنا الى استحقاق رئاسة 2022، لم يعد الحريري هنا، ولا جنبلاط وازنا، بل صرنا وحدنا نحن والحزب، لكننا وجدنا أنفسنا وجها لوجه معه". ورأى عزيز أن إصرار حزب الله على ترشيح فرنجية هو لتكريس ثلاثة أمور. 

الأول "القاعدة الشرعية بأنهم (حزب الله) من يقرر، لا نظامنا ولا ديموقراطيتنا ولا أي آلية أخرى". 

الثاني "الانتخاب مسألة غير مطلوبة ولا مرغوبة ولا مستحبة، ثمة قرار أعلى يصدر، تترجمه صناديق الاقتراع لا أكثر".

أما الثالث "هذا المسار يفترض أن يؤدي إلى تغيير النظام بالكامل، وهذا ما لا يمكن لتيار ميشال عون أن يحمله أو يتحمله".  

تشتت السنة

موقع "أساس ميديا" أفرد تغطية واسعة للجلسة النيابية بالمقالات والتحليلات، مستعرضا مواقف الكتل الناخبة من النواحي السياسية وكذلك الطائفية والمذهبية. 

وتحت عنوان "الاعتزال السني في معركة استعادة قيمة الصوت"، كتب الصحفي الاقتصادي عبادة اللدن، مدير النشرة الاقتصادية في قناة "العربية" السعودية في 14 يونيو، أن "الاستحقاق الرئاسي أخذ شكل المواجهة الشيعية– المسيحية، فيما يعتزل الشتات السني النقاش والفعل". 

وأضاف "يشعر السنة أنها (انتخابات الرئاسة) معركة مسيحية لا تعنيهم، وربما تجد قطاعات عريضة منهم أن نزع التوتر مع الشيعة أراحهم في السنوات الماضية".

وأردف: "لا يجدون ما يشجعهم على العودة إليهما داموا سيحملون الوزر في حال الخسارة، ولن ينالهم شيء من المكاسب في حال الفوز، ففي الحالتين لن يكون لهم وزن في السلطة وصنع القرار". 

وخلص اللدن، الى أنه "لا يمكن للموقف السني أن يكون أكثر سلبية وبؤسا مما هو عليه اليوم". 

وبين بأن "ثمة فارقا كبيرا بين أن يغطي حزب الله تسلطه بتصويت يلبي الشكل الديموقراطي، أو أن يضطر إلى نسف التصويت، فتصبح المعركة عندها بين الانتظام الديموقراطي وسطوة السلاح". 

وتحت عنوان "النواب السنة قطعوا دابر الفتنة أم كرسوا مفاعيل 7 أيار؟" أي اجتياح حزب الله لشوارع وأحياء العاصمة في ذلك التاريخ من عام 2008، فصل الكاتب سامر زريق كيفية تصويت النواب السنة وعددهم 27 نائبا من أصل 128. 

وأوضح أن أصوات 12 نائبا سنيا "صبت في خانة كسر حدة الاصطفاف السياسي الذي اكتسى طابعا مذهبيا واضحا، وبدا فيه المسيحيون في مواجهة الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل التي يتزعمها رئيس البرلمان نبيه بري)". 

ويشير إلى تصويت 3 منهم لمرشح ثالث هو وزير الداخلية الأسبق زياد بارود، مقابل صوت وحيد لقائد الجيش العماد جوزاف عون، علما أن الدستور اللبناني لا يتيح له الترشح إلا بعد 6 أشهر من تقديم استقالته. 

في حين صوت 6 منهم بشعار موحد من أجل اعتبار أصواتهم أوراقا لاغية، وهؤلاء ينضوون مع نائبين من مذاهب أخرى فيما يعرف بـ"اللقاء النيابي" الذي يعد مقربا من الزعيم السني المعتدل سعد الحريري. 

وأضاف زريق "إذا كان أعضاء التكتل لديهم ارتياب دائم تجاه حزب الله وأهدافه، فإن ارتيابهم برئيس التيار الوطني الحر (مسيحي يميني)، ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع (مسيحي يميني) لا يقل شأنا، لذا هم حريصون على عدم الذوبان في خيارات أي من هذه الأطراف الثلاثة". 

وتحدث عن بروز وجهة نظر سنية قبل الجلسة "ترى أن تقاطع قوى المعارضة على ترشيح جهاد أزعور فرصة ذهبية للسنة لإنهاء مفاعيل 7 مايو/ أيار". 

وهذه الفكرة بحسب زريق، نجحت في اجتذاب أصوات 6 نواب سنة ما بين مستقلين وتغييرين واثنين ينضويان في كتلة نيابية معارضة. 

في المقابل صبت أصوات 10 نواب سنة لسليمان فرنجية، مرشح حزب الله، وجميعهم يصنفون في خانة حلفائه أو أصدقائه، أي أنه عمليا بدا الصوت السني مشتتا ومعدوم التأثير. 

طروحات متعاكسة

وقال الكاتب السياسي وليد شقير "تقتضي حصيلة المنازلة الرئاسية بالنسبة الى كثيرين التطلع الى ترياق من الخارج فيما يخص إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان". 

ويرى شقير في حديث لـ"الاستقلال"، أن جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية "انتهت الى تكريس الشرخ السياسي العامودي في البلد، بحيث بات صعباً إن لم يكن مستحيلاً الركون إلى تسوية داخلية لاختياره". 

ويضيف شقير "الانسداد السياسي في شأن الاستحقاق الرئاسي يزداد تعقيداً، وباتت الأنظار متجهة أكثر من السابق نحو ما ترسمه التحركات الخارجية للمنطقة، وسط تساؤلات عن إبقائها لبنان ساحة صراع أو جعلها له جزءاً من التوافقات على التهدئة في الإقليم". 

وضمن سعي فرنسا الحثيث لتثبيت حضورها في الساحة اللبنانية، تأسيساً على دورها التاريخي ومصالحها المتجذرة، عين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 7 يونيو وزير خارجيته الأسبق جان إيف لو دريان موفداً خاصاً الى لبنان. 

ووصل لودريان الى بيروت في 21 يونيو في زيارة تستمر لـ3 أيام سيجتمع خلالها مع كل القوى السياسية الممثلة في البرلمان، إنما كل على حدة. 

وتحت عنوان "الموفد الفرنسي يحمل فكرة حوار وطني حول انتخاب الرئيس"، كتب الكاتب السياسي نقولا ناصيف في صحيفة "الأخبار" المحلية في 15 يونيو/حزيران 2023 أن "الفكرة الجديدة وربما الوحيدة التي سيدلي بها لو دريان هي حضه الفرقاء على الجلوس إلى طاولة حوار وطني في ضوء ما خلصت إليه الجلسة" الأخيرة. 

ويتابع "الجلسة (في 14 يونيو) أفضت إلى مشكلة تجاوزت الخلاف على انتخاب الرئيس الى أصل النظام اللبناني وتعذر استمراره بعدما أضحى معطلاً". 

ويبين ناصيف بأن "الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) أدار خطة تقضي بالحؤول دون بلوغ أزعور (مرشح المعارضة) 60 صوتاً، والحؤول دون تدني أصوات فرنجية (مرشح حزب الله) إلى أقل من 50 صوتاً". 

ويعزو ناصيف فارق الأصوات الـ4 الى "كتلة صلبة طلب من 4 من نوابها التصويت لفرنجية فيما هي في الطرف المناوئ". 

هذا وقد برز خلال يونيو/حزيران طرح تقدم به نائب رئيس البرلمان الياس بو صعب بإجراء انتخابات نيابية مبكرة من أجل كسر الجمود السياسي. 

في خطوة فسرها أغلب المحللين بأنه تستقصد رئيس التيار الوطني الحر المسيحي اليميني جبران باسيل الذي يدين بفوز ما يزيد على ثلث أعضاء تكتله لحزب الله. 

المفارقة أن صاحب الطرح وهو بو صعب نائب بارز في تكتل باسيل، لكنه متشعب العلاقات وفي مختلف الاتجاهات المتعاكسة. 

في المقابل، سارعت قوى المعارضة إلى الرد على طرح فكرة الانتخابات النيابية المبكرة بالتلويح بالنزول الى البرلمان دون انتظار دعوة جديدة من رئيسه. 

وحسب المعلومات التي نشرتها صحيفة "نداء الوطن" المحسوبة على المعارضة المسيحية، فإن قوى المعارضة ترى أن هذه الخطوة هي "تلبية لمتطلبات الدستور بانتخاب رئيس جديد للجمهورية". 

وتضيف الصحيفة في افتتاحيتها في 20 يونيو أنه "بهذه الخطوة، يغلق النواب السياديون بحجم وازن الحلقة المفرغة من التعطيل الذي مارسه الثنائي الشيعي على مدى 12 جلسة نيابية لانتخاب رئيس جديد". 

وتكشف أن 29 نائباً أبدوا موافقتهم على هذا الطرح، وأن هؤلاء يعملون على زيادة عددهم "كي يصل الى حدود الأربعين نائباً". 

وتكشف أيضاً عن أن النواب الـ29 "وجهوا مسبقاً الدعوة الى جميع زميلاتهم وزملائهم الى الالتئام فوراً في جلسة انتخابية مفتوحة بدورات متعددة كما ينص الدستور". 

وذلك انطلاقاً من اعتراض القوى المسيحية والبطريركية المارونية على إصرار رئيس البرلمان نبيه بري على نصاب الثلثين في كل جلسة، في مخالفة واضحة للدستور الذي ينص على الانتخاب بأكثرية النصف زائد واحد في الدورات التي تلي الأولى. 

وحسب توقعات أغلب المحللين والصحفيين، فإن الفراغ الرئاسي مرشح للاستمرار لفترة طويلة في ظل الانقسام السياسي الحاد. 

يرى الصحفي رائد الخطيب أن "الانسداد السياسي والانقسام الطائفي والمذهبي يعطلان الانتخابات كما الحياة السياسية بالكامل". 

ويضيف في حديث لـ"الاستقلال" بأن "كل ما يجري يصب لصالح مرشح ثالث، وهنا يبرز قائد الجيش العماد جوزاف عون كحل وفاقي ولا سيما أنه يحظى بدعم عربي وخصوصاً قطري، وكذلك وأميركي وأوروبي". 

ويستطرد الخطيب "لكن هذا الحل يحتاج الى المزيد من الوقت لإنضاجه، علاوة على إمكانية تمدد الشغور الرئاسي الى نهاية السنة، فحينها يبلغ قائد الجيش سن التقاعد، ويصير بإمكانه الترشح دون عقبات دستورية أو قانونية".