محمد شيمشك.. اقتصادي تركي مرموق يعول عليه أردوغان لقيادة حقبة إصلاحية

داود علي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 3 يونيو/ حزيران 2023، تشكيلة حكومته الجديدة، عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية، واختار فيها "محمد شيمشك" لقيادة وزارة المالية والخزانة. 

وبانتهاء جولة الحسم في الانتخابات الرئاسية التركية يوم 28 مايو/ آيار 2023، وقف أردوغان، يلقي خطاب النصر من شرفة المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة، محددا ملامح فترة حكمه القادمة. 

وأمام أكثر من 350 ألف مواطن تركي، شدد أردوغان أن الملف الاقتصادي سيكون الأكثر أولوية، وسيبدأ فورا في حل المشكلات الناجمة عن ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة.

وسرعان ما ظهر اسم محمد شيمشك أحد أبرز الاقتصاديين الأتراك، بصفته من الذين أسهموا بقوة في الحقيبة الاقتصادية تحت مظلة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) على مدار عقدين من الزمن. 

وفي مطلع يونيو/ حزيران 2023، أوردت صحيفة "صباح" التركية أن أردوغان يخطط لإعادة الحرس القديم من أجل إدارة الاقتصاد المتأزم، مشيرة إلى أن الإدارة المالية الجديدة، ستكون تحت قيادة محمد شيمشك. 

وأضافت أن أردوغان سيعول بقوة على "شيمشك" الذي يوصف بأنه مهندس السياسات المالية والاقتصادية الناجحة لتركيا، ولكونه يحظى بتقدير كبير في الأسواق المالية العالمية، خاصة أنه حاصل على عدة جوائز وتكريمات دولية.

وينتظر من "شيمشك" إسهامات إيجابية في انتشال الاقتصادي التركي من عثراته، التي تعرض لها بعد الانقلاب العسكري الفاشل في 15 يوليو/ تموز 2016، والتداعيات المترتبة عليه، فضلا عن أزمة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، والأزمة الاقتصادية العالمية. 

من شيمشك؟ 

ولد محمد شيمشك مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 1967، لعائلة كردية فقيرة في قرية أرجا بمنطقة جيرجوش في ولاية باتمان جنوب شرقي تركيا. 

وكان شيمشك هو الطفل الأصغر وسط 8 أشقاء آخرين، اسم والده حسن، ووالدته مهدية، وتوفيت وعمره 5 سنوات.

عاش شيمشك طفولته في أجواء صعبة، حيث الفقر والمعاناة، والحياة في بيت دون كهرباء ومياه، وصولا إلى مدرسته البعيدة حيث منطقة جيرجوش.

وتحدث شيمشك عن تلك الفترة من حياته قائلا: "أحيانا يكون من حسن الحظ أن تبدأ الحياة بالفقر والصعوبات والمتاعب، فقد يكون العيش في منطقة نائية، يجعلك مستعدا لخوض صراع حقيقي للتغلب على هذه السلبيات، ويجعلك مهيئا لمقاومة الحياة بقوة".

وأضاف: "هناك تأثير للقدوات والصدف المحيطة في تجاوز كثير من الصعوبات وصولا للنجاح، لكنني أعتقد أنه ينبغي أن نفرق بين تكافؤ الفرص، وبين السعي للحصول على تعليم جيد أيا كانت الظروف، يؤهلك للوصول إلى ما تطمح له". 

وهو ما يفسر الجهد الذي بذله شيمشك لإتمام دراسته من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية في جيرجوش بباتمان. 

وبعد ذلك انطلق إلى العاصمة أنقرة، والتحق في جامعتها بكلية العلوم السياسية، وتفوق فيها، وتخرج محققا المرتبة الثانية على دفعته، وبعد تخرجه عمل كمساعد باحث. 

وفي عام 1990 اتجه إلى بريطانيا، بعد أن حصل على منحة تعليمية حكومية، ليتمم مسيرته الأكاديمية، وهناك تخرج في جامعة "إكستر"، حاصلا على الماجستير في المالية والاقتصاد.

بداية الصعود 

في عام 1993 عاد شيمشك إلى تركيا، وقام بأداء واجب الخدمة العسكرية، بعدها بدأ العمل في "إتي بنك" (مصرف تركي) بوظيفة مدنية بسيطة وروتينية لا تناسب قدراته وطموحاته.

وفي ذات يوم كان يتصفح جريدة "حرييت" التركية، ووجد إعلان توظيف للسفارة التركية في الولايات المتحدة، بأنها تريد خبيرا اقتصاديا، فتقدم للوظيفة وقبل بها، وسافر إلى واشنطن. 

وقضى في تلك الوظيفة 4 سنوات، وحقق كثيرا من الإنجازات، وأقام علاقات قوية، وفي عام 1997 حصل على تصريح عمل في الولايات المتحدة (غرين كارد)، ثم بدأ العمل في قسم تحليل الأسهم في بنك UBS، أحد الممثلين البارزين في وول ستريت بنيويورك.

وفي عام 1998 عاد شيمشك إلى إسطنبول، لمتابعة تركيا والاقتصادات الناشئة، وكانت البلاد آنذاك تعيش آثارا اقتصادية وسياسية كارثية، جراء الانقلاب العسكري الذي وقع يوم 28 فبراير/ شباط 1997.

وفي صيف عام 2000 تلقى شيمشك عرضا للعمل في شركة الاستثمارات والاستشارات العالمية "ميريل لينش" وهي عملاق الخدمات التمويلية العالمية، وواحدة من أكبر الشركات متعددة الجنسيات، ومقرها الرئيس في نيويورك. 

حقق شيمشك نجاحات داخل الشركة، حيث تولى مسؤولية منطقة البحر المتوسط ​التي تضم تركيا، وبدأ العمل في الوحدة التي تقوم بإجراء "التحليل الكلي" لهذه البلدان.

ثم أصبحت أيضا أوروبا الوسطى وروسيا في نطاق مسؤولياته، وخلال فترة ولايته التقى بعدد كبير من المسؤولين على مستوى رؤساء الوزراء ووزراء دول المنطقة.

وإدراكا من "ميريل لينش" لعقليته الفذة، تم تعيينه رئيسا لقسم الدراسات الاقتصادية والإستراتيجية في منطقة أوروبا الناشئة والشرق الأوسط وإفريقيا.

 

شيمشك وزيرا 

كان صعود شيمشك ونضوجه كعالم اقتصاد له ثقله داخل تركيا وخارجها، متوازيا مع صعود حزب العدالة والتنمية عام 2002 إلى سدة الحكم، بقيادة أردوغان، ذلك الرجل الذي سيقطع مسيرة عريضة على مدار أكثر من 20 عاما، ويعبر بتركيا من بحر أمواج الانقلابات والأزمات السياسية، إلى طريق  النهضة والتطور. 

وسرعان ما وضع أردوغان عينه على شيمشك ورأى فيه النموذج المطلوب لقيادة الفريق الاقتصادي للبلاد، وكان يوازيه آنذاك في الهيمنة، وزير الاقتصاد السابق "علي باباجان" وهو الآن من كبار خصوم أردوغان السياسيين.

وفي عام 2007 وجه أردوغان دعوة مباشرة إلى شيمشك، قائلا: "نريدك معنا في المطبخ"، وكانت تلك الدعوة ذات قيمة كبيرة لشيمشك، الذي استجاب لأردوغان، وترك مؤسسة "ميريل لينش"  لأنه أراد أن يكون له بصمة اقتصادية قوية في تركيا الصاعدة.

حينها رشحه أردوغان للبرلمان عن مدينة غازي عنتاب، وخلال كلمة له أمام جماهير الولاية، قال "أتيت لكم بأبي المال، دعوه يخدمكم، دعوه يعمل لأجلكم"، وبالفعل حصل شيمشك على المقعد. 

لثقة أردوغان الكبيرة في شيمشك، أعطاه منصب وزير الدولة لشؤون الاقتصاد في 28 أغسطس/ آب 2007، وهو المنصب الذي استمر فيه حتى 1 مايو 2009، وبعدها أصبح وزيرا للمالية والخزانة. 

حينها تحدث عنه أستاذه في كلية العلوم السياسية "يحيى سيزاي تيزيل"، قائلا "مهما كان المنصب، فقد حازه بعرقه وجهده وذكائه وشخصيته، إذ بدأ كطفل قروي فقير لا يستطيع التحدث باللغة التركية ولا يجيد القراءة والكتابة، واستطاع أن يصل إلى منصب وزير المالية في جمهورية تركيا، لقد وصل إلى المكان الصحيح بكل جدارة، وبتأكيد أن النجاح لا يأتي من الوساطة".

وبالفعل قاد شيمشك مركب الاقتصاد التركي في تلك الفترة بنجاح منقطع النظير، الأمر الذي دفع مجلة "فورين بوليسي" الأميركية لاختياره ضمن أقوى 500 شخصية في العالم عام 2013.

وفي نفس العام أيضا عدته مجلة "إيميرجينغ ماركتس" البريطانية، أفضل وزير مالية للاقتصادات الأوروبية الناشئة. 

وفي عام 2014 بدأت تركيا تشهد انخفاضا في معدل النمو الاقتصادي، بسبب أزمات منطقة اليورو، وفي مارس/ آذار 2015، بدأت الليرة التركية تفقد قيمتها أمام الدولار وتهوي إلى مستويات غير معهودة. 

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، ترك شيمشك منصبه كوزير للمالية، لكنه أصبح نائبا لرئيس الوزراء (أحمد داود أوغلو) ومن بعده (بن علي يلدريم).

وفي عام 2018، غادر شيمشك منصبه كنائب لرئيس الوزراء، مع تحول النظام البرلماني إلى رئاسي، واختيار الرئيس لحكومة جديدة لم يكن اسمه مطروحا فيها.

وتم الحديث أن اختلاف وجهات النظر بينه وبين الرئيس أردوغان حول سعر الفائدة، كانت السبب الرئيس في ذلك. 

وقال شيمشك حينها في كلمة وداع: "الناس مؤقتون، والأهم هو خدمة أمتنا الحبيبة، لقد انتهى واجبي كوزير". 

 

عودة شيمشك 

لكن التهاوي الذي حدث للاقتصاد التركي خلال الفترة الأخيرة وارتفاع معدل التضخم لنحو 43 بالمئة، جعل أردوغان يفكر في شيمشك بقوة لما له من تاريخ ووزن دولي، فهو أطول وزراء المالية بقاء في منصبه في تاريخ الجمهورية (2009 إلى 2015)، وكذلك قاد الاقتصاد في فترة ذهبية.

وكذلك فعلاقة الثقة والصداقة التي جمعت بين شيمشك والرئيس أردوغان، جعلت الأول وفيا للرئيس حيث لم تخرج له أي تصريحات ناقدة للوضع الاقتصادي في البلاد، وعقد معه عدة لقاءات بعد تركه للمنصب. 

وبعد فوز أردوغان في جولة الإعادة الرئاسية، هنأه شيمشك عبر تويتر، قائلا: "أهنئ رئيسنا رجب طيب أردوغان الذي أعيد انتخابه بدعم قوي من شعبنا في مسيرته السياسية التي استمرت ربع قرن، وأتمنى التوفيق لرئيسنا في خدمته لأمتنا، وأتمنى أن يحمل العصر الجديد كل التفاؤل لبلدنا والعالم".

وفي اليوم التالي مباشرة لفوز أردوغان، اجتمع مع محمد شيمشك في المجمع الرئاسي بأنقرة بحسب صحيفة "صباح" التركية، التي توقعت أن يوليه الرئيس ملف وزارة المالية والخزانة العامة. 

وبالفعل صدق التوقع وعاد شيمشك مرة أخرى إلى وزارة المالية، ضمن الحكومة الجديدة التي أطلق عليها حكومة "القرن" لأنها تتوافق مع مرور 100 سنة على قيام الجمهورية التركية، ويعول عليها الكثير في المرحلة القادمة. 

فيما اعتبرت وكالة بلومبرغ الأميركية أن عودة شيمشك، المحبوب في الأسواق العالمية، بالإضافة إلى تشكيل فريق يحظى بمصداقية دولية، ستكون "خطوة مشجعة للاستثمار الأجنبي قد تلقى صدى إيجابيا واسعا".

وفي أولى خطاباته فور تسلمه الوزارة، أكد شيمشك أن خفض التضخم إلى خانة الآحاد على المدى المتوسط سيكون على رأس أولويات الحكومة.

وقال: "الشفافية والاتساق وقابلية التنبؤ والامتثال للمعايير الدولية ستكون مبادئنا الأساسية لتحقيق هدف رفع مستوى الرفاهية الاجتماعية".

وأردف :"لم يبق أمام تركيا خيار سوى العودة إلى أساس عقلاني، فالاقتصاد التركي القائم على القواعد والذي يمكن التنبؤ به سيكون مفتاح وصولنا إلى الرفاهية المنشودة".

ولفت شيمشك إلى أن الحكومة ستعطي الأولوية للاستقرار المالي الكلي من خلال تعزيز الجودة والقدرات المؤسسية، في ظل ظروف من التحديات العالمية المتزايدة والتوترات الجيوسياسية.