بعد خسارتها مالي.. ماذا يعني فقدان فرنسا سيطرتها على بوركينا فاسو؟
يبدو أن الهيمنة الفرنسية التي تزيد عن قرن من الزمن في إفريقيا آخذة في التراجع يوما بعد يوم، فبعد سحب باريس لقواتها من مالي جاء الدور على بوركينا فاسو.
وفي 3 فبراير/شباط 2023، جدد قائد المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو، إبراهيم تراوري، مطالبته فرنسا بسحب قواتها، مؤكدا أن ذلك لا يعني قطعا للعلاقات الدبلوماسية مع باريس.
ووصل الضابط تراوري لحكم بوركينا فاسو، بعد أن أطاح برفيقه السابق، اللفتينانت كولونيل بول-هنري داميبا، في 30 سبتمبر/أيلول 2022، بسبب اتهامه بعدم الوفاء بتعهده بالتصدي لهجمات الجماعات المسلحة التي تشهدها البلاد منذ 2015.
وفي 21 يناير/كانون الثاني 2023، طالبت بوركينا فاسو، القوات الفرنسية بمغادرة أراضيها في غضون شهر، وفق ما ذكرت وكالة الأنباء الوطنية.
وأضافت وكالة الأنباء، أن حكومة بوركينا فاسو علقت الاتفاق الذي يسمح للقوات الفرنسية بقتال المسلحين على أراضيها.
وأوضحت الوكالة أن "هذا التعليق الصادر في 18 يناير 2023 يمنح بموجب شروط اتفاق 17 ديسمبر (كانون الأول) 2018 شهرا واحدا للقوات المسلحة الفرنسية لمغادرة أراضي بوركينا فاسو".
ضغوط شعبية
مطالب المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو، برحيل القوات الفرنسية فرضتها ضغوط واحتجاجات شعبية ما فتئت تتصاعد ووصلت لدرجة اتهام تلك القوات بالتقاعس عن التصدي لهجمات الجماعات المسلحة.
هذه الاتهامات تستند، حسب مراقبين، إلى فشل باريس في جلب الاستقرار لمناطق وجودها بالقارة، إذ ظهرت منشغلة بمصالحها مما سمح بتمدد الجماعات المسلحة وتدهور الوضع الاقتصادي وجثو الأنظمة التسلطية.
وهو الأمر الذي دفع ببعض الدول الإفريقية إلى محاولة تعويض الدور الفرنسي بقوى أجنبية أخرى منافسة لها من قبيل الصين، روسيا، وتركيا.
دعوات ومطالب انسحاب فرنسا من بوركينا فاسو التي تستضيف كتيبة بحوالي 400 من القوات الخاصة الفرنسية، سبقه انسحاب تام لباريس من مالي بعد تدهور العلاقات بين المجلس العسكري الحاكم في باماكو وباريس.
وفي 15 أغسطس/آب 2022، أعلنت فرنسا انسحاب آخر جنودها من مالي، لتنهي بذلك مهمة جيشها في هذا البلد الإفريقي بعد تواجد دام تسع سنين في إطار قوة برخان العسكرية.
فما أسباب ودلالات توالي انسحاب القوات الفرنسية من بعض الدول الإفريقية؟ وهل هي بداية تراجع النفوذ الفرنسي بمنطقة غرب إفريقيا؟ أم أن وراءه خلفيات أخرى؟
الخبير في العلاقات الدولية أحمد نور الدين، قال إن "فرنسا تشهد تراجعا اقتصاديا وثقافيا وعسكريا في مواقعها التقليدية داخل إفريقيا".
وأضاف نور الدين، في حديث لـ"الاستقلال"، أن من أبرز مظاهر هذا الانسحاب هو تراجع مبادلاتها التجارية مع إفريقيا لصالح الصين والولايات المتحدة والهند والبرازيل وتركيا واليابان.
وأشار إلى أن "الصين مثلا أصبحت المستفيد الأول من هذا التحول في الشركاء الاقتصاديين مع إفريقيا".
وتابع أن بكين استطاعت خلال 22 سنة أن تضاعف قيمة صادراتها نحو إفريقيا بحوالي 33 ضعفا لتنتقل من 5 مليارات دولار سنة 2000 إلى 164 مليار دولار سنة 2023.
وتحدث عن تراجع حصة فرنسا من الصادرات نحو إفريقيا خلال نفس الفترة تقريبا من 12 إلى 7 بالمئة.
ولاحظ أن تراجع النفوذ الفرنسي شمل المجال العسكري أيضا، ملفتا إلى "الإنهاء القسري لعملية برخان وطرد القوات الفرنسية العاملة في مالي بشكل مهين، ثم طرد تلك القوات من بوركينافاسو وإفريقيا الوسطى.
وعلى المستوى الثقافي، أشار نور الدين، إلى تخلي بعض الدول منها رواندا عن اللغة الفرنسية لصالح الإنجليزية، وكذا خروج دول أخرى من منظمة الفرنكوفونية والتحاقها بالكومنويلث البريطاني.
حرب باردة
وبخصوص عوامل تراجع النفوذ الفرنسي، رأى نورالدين، أن هناك عوامل اقتصادية مرتبطة أساسا بالمنافسة الشرسة التي فرضتها السوق وعرض المنتجات الصينية بأسعار بخسة.
وأضاف أن الصين استطاعت فرض نفسها بالنسبة للبنيات التحتية من خلال تقديم قروض ميسرة وبعيدة الأمد ودون شروط سياسية أو حقوقية كما تفعل فرنسا وأوروبا.
ونبه نور الدين، إلى أن هناك أيضا عوامل سياسية ساهمت في بداية التراجع الفرنسي. وقال: "ظهرت موجة مناهضة للوجود الفرنسي، قد تكون بدوافع محلية مرتبطة بصحوة إفريقية ضد استغلال ثرواتهم وضد الجرائم الاستعمارية التي تواصلت حتى إلى ما بعد الاستقلال".
كما رجح إمكانية وجود عوامل خارجية أخرى من قبيل حملات إعلامية ممولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي موجهة لتغذية شعور الكراهية ضد فرنسا.
وأردف: "يُعتقد أن روسيا بالأساس أو الصين في الدرجة الثانية من تقفان وراءها بغرض تعويض النفوذ الفرنسي بنفوذهما".
وأكد أن كل هذه العوامل أدت إلى تعالي أصوات تطالب بالقطيعة مع الإرث الاستعماري لفرنسا، والانفتاح على دول أخرى تكون العلاقات التجارية معها مبنية على أسس الاحترام والمصالح والربح المتبادل.
ورغم عدم اشتراط الصين احترام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان حين تقدم قروضا طويلة الأمد، فإنها في المقابل تشترط عقودا لاستغلال الموانئ مثلا أو حقول جديدة للنفط أو تزويد صناعتها بالمواد الخام.
وأضاف أن الصين تقدم أيضا قروضا ميسرة أو بفائدة ضعيفة لإنجاز منشآت كبرى كالجسور والسكة الحديد والطرق والسدود، ولكن بشرط أن تعطى هذه الصفقات من الألف إلى الياء لشركات صينية.
في المقابل، يوضح نور الدين، أن مقاربة روسيا في القارة الإفريقية عسكرية بالدرجة الأولى، حيث تقدم السلاح والخبراء "مجانا" وترسل "ميلشيات فاغنر" الروسية لحماية بعض الأنظمة أو لمواجهة جماعات مقاتلة أو انفصالية محلية كما هو الحال في جمهورية مالي مثلا.
وأردف مستدركا: "لكن في المقابل سيطرت روسيا على بعض مناجم المعادن النفيسة وقد تحصل على صفقات عسكرية تعزز مكانتها كأول مصدر للأسلحة نحو إفريقيا".
وخلص نور الدين، إلى أن إفريقيا أصبحت من جديد ساحة للحرب الباردة وللصراع بين القوى العظمى والقوى الصاعدة بسبب مواردها الطبيعية والطاقية ومعادنها النفيسة، ولكونها ما زالت قارة بكراً بحاجة إلى استثمارات ضخمة في البنيات التحتية وفي كل القطاعات.
وشدد على أن إفريقيا ستلعب دورا في إعطاء دفعة لمعدلات نمو الاقتصاد العالمي، بعد الركود الذي أصابه في السنوات الأخيرة.
وبالتالي فمن يسيطر على أسواق إفريقيا سيتحكم في النمو الاقتصادي العالمي خلال النصف الأول من القرن الواحد والعشرين.
حسابات جديدة
وإذا كان نور الدين يرى أن الانسحابات المتوالية لفرنسا من الدول الإفريقية بداية لتراجع نفوذ باريس بالقارة السمراء، فإن أستاذ العلوم السياسية إسماعيل حمودي، رأى أن الوجود العسكري لفرنسا أصبح مكلفا مما دفعها لـ"إعادة الانتشار والقيام بحسابات جديدة".
وأضاف حمودي، في حديث لـ"الاستقلال"، أن "أي حديث عن تراجع فرنسي يحتاج إلى تدقيق"، مرجحا إمكانية أن يكون تنامي الرفض الإفريقي للوجود الفرنسي "دينامية تحتاج وقتا للحكم عليها وتقييم آثارها".
وشدد الأكاديمي بجامعة "سيدي محمد بن عبد الله" بمدينة فاس، على أنه إذا كانت هناك بعض التيارات وبعض النخب العسكرية الإفريقية الجديدة تظهر وكأنها تواجه النفوذ الفرنسي فهي لا تزال غير قادرة على تعديل ميزان القوى لصالحها.
وفي تفسيره لأسباب الحسابات الجديدة لباريس، أوضح حمودي، أن التواجد العسكري بدول غرب إفريقيا أصبح مكلفا بالنسبة لفرنسا سواء على المستوى البشري أي عدد القتلى أو فيما يخص التمويل خصوصا في ظل هذه الأزمة العالمية الحالية.
وتابع أنه إضافة للتكاليف البشرية والمالية، "ساهم التواجد العسكري لفرنسا إلى حد ما في إحياء نزعة تحررية وطنية في الدول الإفريقية" باعتبار أن الجنود الفرنسيين المتواجدين بهذه البلدان أصبحوا يذكرونهم بالاستعمار الفرنسي.
كما أن القوى العربية والإسلامية في بعض دول إفريقيا، يبين الحمودي، أصبحت تنظر للوجود العسكري الفرنسي كـ"ورقة جديدة للضغط على الحكومات والأنظمة".
وبالتالي، يخلص إلى أن "هذا الانتشار العسكري الفرنسي أحيا الموقف الإفريقي الوطني التحرري من النفوذ الفرنسي الذي بدا يظهر لهم كمستعمر جديد".
ويرى حمودي، أن هذه العوامل الثلاثة ستدفع باريس للقيام بحسابات جديدة لإعادة الانتشار في المناطق الإفريقية التي تتوفر فيها مصالح اقتصادية.
وأكد أن فرنسا غير قادرة وحدها على تأمين الأوضاع والسلم في منطقة غرب إفريقيا كاملة.
لذا بدأت بحسابات جديدة الهدف منها التواجد عسكريا في المناطق التي توجد فيها مصالحها فقط من قبيل التركيز على النيجر لما تتوفر عليه من يوارنيوم وخليج غينيا لما يحتوي من نفط وغاز.
وسجل أنه من خلال تواجدها بهذه المناطق التي تحتضن المصالح الفرنسية تستطيع ممارسة التأثير في باقي المناطق.
فخ الديون
ورأى أن "النفوذ الفرنسي في منطقة غرب إفريقيا هو مالي اقتصادي بالدرجة الأولى، إذ ما زالت باريس تطبع الفرنك الإفريقي لـ 11 دولة في القارة".
وعدّ حمودي، أنه من خلال تحكم فرنسا في عملة "الفرنك الإفريقي" فإنها تتحكم في كل البنوك المركزية وفي السوق المالية في المنطقة كاملة.
وبخصوص منافسة بعض القوى الأخرى للنفوذ الفرنسي بالمنطقة، رأى حمودي، أن فرنسا لا تمتلك القوة الكافية لمواجهة الصين وروسيا بل هي في حاجة للقوى الأوروبية الأخرى والولايات المتحدة.
وتحدث عن وجود تنسيق فرنسي-أميركي في المنطقة لمواجهة الصين وروسيا والدول المناوئة.
وأشار إلى وجود لجنة عليا للتنسيق بين الفرنسيين والأميركيين بخصوص منطقة غرب إفريقيا غير أنه لا يجرى التصريح أو الإعلان عن اجتماعاتها.
وعن إمكانية تعويض روسيا والصين للنفوذ الفرنسي، قال حمودي، "الدولتان غير قادرتين على تعويض الوجود الأوروبي والأميركي في إفريقيا لأنها تحتاج إلى اقتصاد، وموسكو لا تمتلك سوى السلاح".
أما الصين، يضيف حمودي، فرغم أنها قد تساعد هذه الدول باستثمارات طويلة المدى خاصة في البنية التحتية فإن استثماراتها محفوفة بالمخاطر، مشيرا إلى "نموذج أنغولا".
وتابع أن الاستثمارات الصينية في حالة أنغولا شكلت فخا لهذه الدولة الإفريقية تعرف بـ"الديون مقابل الموارد".
أي أن يجري تنفيذ استثمارات طويلة المدى في البنية التحتية مقابل الحصول على أصول من قبيل موانئ ومنشآت بسبب عجز الدولة عن أداء ديون هذه الاستثمارات.
ولفت حمودي، إلى أن المقاربة الصينية في الاستثمار في حالة أنغولا قد تكون أسوأ مما تقدمه فرنسا أو أوروبا لإفريقيا، لأنه في حالة عجز الدولة عن سداد ديونها تضطر إلى التخلي عن أصولها، ويرى أن هذا شكل من أشكال الاستعمار.