تحقيقات مرفأ بيروت تلهب شتاء لبنان.. إحياء للملف أم إنهاؤه؟

12

طباعة

مشاركة

فجر القاضي طارق البيطار، المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020، قنبلة قضائية قلبت المشهد السياسي اللبناني رأسا على عقب، وأدت إلى احتقان هائل في الشارع اللبناني. 

إذ عاد البيطار إلى متابعة ملف الانفجار، بزخم وبشكل مدوّ، متجاوزاً كل الإجراءات القانونية التي أدت إلى كفّ يده، وتجميد التحقيقات منذ 13 شهرا، وذلك بالاستناد إلى دراسة قانونية. 

ودشن عودته بقرارين: الأول قضى بإخلاء سبيل 5 موقوفين في القضية من أصل 17 شخصا. 

أما الثاني فتمثل بادعائه على بعض القيادات السياسية والأمنية والقضائية رفيعة المستوى، وحدد مواعيد للاستماع لهم كمتهمين لا كشهود. 

ومن بين هؤلاء النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، الذي رد على ذلك بالادعاء على البيطار بتهمة اغتصاب السلطة. 

كل ذلك أدى إلى فوضى عارمة في الأروقة العدلية في لبنان، وسط اتهامات من قبل بعض الأطراف للبيطار بتنفيذ أجندة خارجية، لأن تحركه أتى عقب أيام قليلة من اجتماعه مرتين مع وفد قضائي فرنسي. 

كذلك أتى بالتزامن مع ضغوط كبيرة تقودها السفيرة الأميركية في بيروت للإفراج عن أحد الموقوفين من حملة الجنسية الأميركية، وهو ما تم بالفعل إذ كان ضمن الخمسة المفرج عنهم، وتأكد لاحقا هروبه على الفور من لبنان. 

بينما يتهم ذوو الضحايا والمتعاطفون معهم، وكذلك أحزاب وشخصيات سياسية معارضة، النائب العام، بأنه أداة السلطة الفاسدة التي تحاول من خلال قراراته دفن القضية بشكل نهائي.

وفي هذا المشهد الضبابي، تتردد رواية أن كل ما يجرى، ما هو إلا صفقة تجريها أميركا مع القوى السياسية اللبنانية الفاسدة، تحقق بها مآربها وترضي عبرها جميع الأطراف، باستثناء الضحايا والباحثين عن العدالة.

فوضى قضائية

وكان البيطار قد استند في قانونية عودته للتحقيق في 23 يناير/ كانون الثاني 2022، إلى اجتهادات سابقة لمراجع دستورية، خلص فيها إلى أن "المجلس العدلي هيئة مستقلة موازية للهيئة العامة لمحكمة التمييز"، وأي قرار ينص على تنحية المحقق العدلي هو "إلغاء لموقع تم إنشاؤه بموجب مرسوم وزاري". 

كما استند إلى دراسة قانونية ترى أن "صلاحيات المحقق العدلي حصرية، ولا يمكن ردها أو نقل الدعوى من يده إلى قاضٍ آخر". 

وبذلك تسقط تلقائياً كل الدعاوى التي رفعت ضده من قبل بعض السياسيين، والتي وصلت إلى قرابة الأربعين. 

تلك الدعاوى تسببت في تجميد عمل البيطار لأكثر من 13 شهراً لعدم البتّ بها، بسبب شغور في الهيئة العامة لمحكمة التمييز أفقدها القدرة على الالتئام. 

ومذّاك جرت عرقلة تعيين قضاة أصيلين فيها من قبل السلطة السياسية، بذرائع تتداخل فيها العوامل القانونية بالمالية والطائفية. 

كما جرت محاولة لتعيين قاضٍ رديف للبيطار تحت ضغط رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، لكن رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي سهيل عبود، تصدى لها.

الاجتهادات القانونية التي تسلح بها البيطار فاجأت الجسم القضائي والحقوقي والسياسي في الشكل والمضمون. 

ليس ذلك فحسب، بل أيضاً ادعاؤه على النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، ومدير عام جهاز أمن الدولة اللواء أنطوان صليبا، ومدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، وتحديد مواعيد للاستماع لهم في فبراير/ شباط 2023 كمتهمين. 

بالإضافة إلى تحديد مواعيد للاستماع إلى بعض الشخصيات السياسية الذي سبق له الادعاء عليهم كمتهمين، ومن بينهم رئيس الحكومة الأسبق حسان دياب، التي وقع الانفجار في عهده، وعدد من الوزراء السابقين. 

مراجع قضائية كثيرة رأت أن ما قام به البيطار مخالف للقانون. ومنهم النائب العام التمييزي الأسبق حاتم ماضي الذي صرح لموقع "الجزيرة نت"، أنه "ليس أمام البيطار سوى الامتثال لنصوص القانون الواضحة التي تلزمه بوقف التحقيق لحين البت بطلبات الرد بحقه". 

وأضاف أن " قرار عودة البيطار من الناحيتين الإنسانية والقانونية ضروري، لكن طريقة العودة من الناحية القانونية خاطئة، والحجة التي استند إليها ضعيفة ولا تمكنه من استئناف التحقيق قبل البت بطلبات الرد". 

واستبعد ماضي تجاوب المدعى عليهم بالمثول أمام البيطار، مرجحاً أن تتسبب خطوته بردود عكسية سياسية وقضائية.

انقلاب على القانون

وبالفعل فقد أتى الرد صادماً، إذ شن النائب العام التمييزي غسان عويدات حرباً على البيطار لا حدود للإفراط فيها. 

فأنهى عويدات تنحيه عن الملف، بسبب صلة القرابة التي تجمعه بأحد الوزراء المتهمين. وأطلق سراح جميع الموقوفين على ذمة القضية، مع منعهم من السفر. 

وادعى عويدات على البيطار بتهمة "اغتصاب السلطة" و"استغلال المركز". 

وعمم على الضابطة العدلية المكونة من الأجهزة "عدم التجاوب مع أي مذكرة أو قرار" يصدره البيطار، وأصدر منع سفر بحقه. 

وأرسل إلى منزل الأخير ضابطاً لإبلاغه بالمثول أمامه للتحقيق معه. كذلك عمم على قلم النيابة العامة "عدم تسلم أي قرار أو مستند من أي نوع صادر عن المحقق العدلي في قضية تفجير المرفأ"، لكونه "مكفوف اليد وغير ذي صفة". 

بما يعني أن عويدات جرد البيطار من صلاحياته كمحقق عدلي بشكل تام، بسبب دعاوى الرد المرفوعة ضده. 

في المقابل رد القاضي بيطار بأحاديث صحفية رأى فيها أن ما قام به مدعي عام التمييز "مخالف للقانون كونه متنحيا عن القضية، ومدّعيا عليه من قبلي، ولا يحق له اتخاذ قرارات بإخلاء سبيل الموقوفين". 

ووصف تجاوب القوى الأمنية مع قرار عويدات بأنه "انقلاب على القانون". 

وأكد أنه "لن يرضخ للضغوط التي تمارس عليه، فهو مصر على إنهاء قراره الاتهامي وإرساله إلى المجلس العدلي، سواء كان في مكتبه أم منزله، أو في السجن"، كاشفاً عن قرب صدور قراره الاتهامي في القضية، والذي بات في ربعه الأخير.

هذه المواجهة القضائية أصابت الشارع اللبناني بداية بالذهول. واحتاج الأمر لبعض الوقت من أجل استيعاب ما يحصل في أروقة العدلية، في سابقة لم يشهدها تاريخ القضاء اللبناني. 

ثم بعدها بدأت تتوالى ردود الفعل، حيث دعا تجمع أهالي ضحايا انفجار المرفأ إلى الاعتصام أمام قصر العدل في 25 يناير/ كانون الثاني 2022، وذلك تحت شعار "مع المحقق البيطار حتى إحقاق الحق". 

وبالمجمل انقسم المشهد السياسي بين ما يصطلح على تسميته "الطبقة السياسية"، أي الأطراف المشاركة في السلطة وهي داعمة للمدعي العام التمييزي. 

بدءا بحزب الله وحركة أمل الشيعية، مروراً برئيس الحكومة نجيب ميقاتي. وصولاً إلى الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي، وتيار المردة المسيحي (يمين الوسط)، والتيار الوطني الحر (مسيحي يميني). 

ومعهم أيضا القيادات الأمنية وخاصة مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم صاحب الأدوار السياسية المعقدة. 

أما المعارضة السياسية المكونة من قوى التغيير المنبثقة من انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وحزبي الكتائب والقوات، المسيحيين اليمينيين، ونواب وشخصيات مستقلة، فوقفت إلى جانب القاضي البيطار، وإن كان لأسباب سياسية محضة. 

وانضم إليهم أيضا نادي القضاة ونقابة المحامين وبعض التجمعات التغييرية. 

وكان لحزب الله موقف لافت على لسان النائب في كتلته البرلمانية إبراهيم الموسوي، الذي رأى أن قرارات النائب العام هي "خطوة في الطريق الصحيح لاستعادة الثقة بالقضاة والقضاء بعدما هدمها أبناء البيت القضائي".

ونتيجة هذا الانقسام، والتوتر الشديد في الشارع، اضطر مجلس القضاء الأعلى إلى تأجيل جلسته التي كانت مقررة في 25 يناير، إلى موعد يحدد لاحقاً "تخوفاً من أي إراقة للدم في الشارع"، حسبما قال النائب العام غسان عويدات في حديث لموقع "عربي بوست". 

وأضاف عويدات "كان لدي معلومات أن البيطار يتجه إلى إخلاء سبيل الموقوفين تباعا، لذا اتخذت قراري هذا، منعاً لأن يستخدمه البيطار في سياق سياسي".

من جانبه، يرى المحامي كمال ناصيف أن خطوة النائب عويدات في غير محلها القانوني، لأنه يمثل الحق العام ولم يسبق تاريخيا أن ادعى الحق العام على شخص ثم تولى نفسه إخلاء سبيل المدعى عليه.

ويضيف لـ"الاستقلال": ما جرى يعزز فكرة استخدام القضاء كأداة من قبل السلطة السياسية التي رحبت جميعها بقرارات عويدات، واتهمت البيطار بأنه يخالف القانون، والحقيقة أن عويدات لا يحق له العودة إلى الملف بعد تنحيه عنه لوجود صلة قرابة بينه وبين أحد المدعين عليهم في الملف". 

وفي هذا السياق كتب المحلل الصحفي جان الفغالي بصحيفة "نداء الوطن" أن القاضي البيطار "منذ تعيينه محققاً عدلياً لاحقته الحملات". 

وأضاف "بعدما لم تنجح خطة إيجاد عيب في أداء القاضي البيطار، انتقل المعرقلون إلى الخطة باء من خلال محاولات التشهير بسلوكه". 

ويضرب الفغالي مثالاً على ذلك "الحديث عن "من أين له هذا" ليسدد دفعة واحدة القرض السكني، إلى غيرها من القضايا التي حاول المتضررون منه أن يكونوا ملفات تضرب في صدقيته". 

وفي الصحيفة نفسها رأى الصحفي وليد شقير أن "أسوأ ما حصل هو استخدام منبر العدالة من أجل التغطية على الجرائم المرتكبة أو حرف الأنظار عنها، وابتداع مرتكبين لها غير من قام بها". 

ووصف شقير ما يحصل بـ"نهج تعطيل العدالة". مذكراً بأن الأمر نفسه أدى "لقطع الطريق على كشف سلسلة جرائم الاغتيالات".

أصابع خارجية

اللافت أن القضية كانت مجمدة، ولم تتحرك إلا عندما قادت السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا ضغوطات على السلطتين السياسية والقضائية، مع تلويح بالعقوبات، وذلك للإفراج عن رئيس مصلحة الأمن والسلامة في ميناء بيروت محمد زياد العوف، والذي يحمل الجنسية الأميركية. 

ورغم منع السفر بحق جميع المُخْلى سبيلهم، إلا أن العوف وصل إلى أميركا، حيث انتشرت صور له وهو على متن الطائرة. 

في حين أوضح وكيله القانوني المحامي صخر هاشم في تصريح لصحيفة "الشرق الأوسط" أن "السفارة الأميركية في بيروت هي التي تولت ترحيل العوف، ونقله مباشرة من السجن إلى مطار رفيق الحريري الدولي". 

ولفت إلى أن موكله "استقل الطائرة وغادر البلاد قبل أن يعمم قرار منع السفر على دوائر الأمن العام". 

وكتبت الصحفية ملاك عقيل بموقع "أساس ميديا" أن "السفيرة الأميركية اتصلت بمرجع حكومي (رئيس الحكومة نجيب ميقاتي)، ومسؤول أمني بارز (مدير الأمن العام عباس إبراهيم)، وأعربت عن ارتياحها للإفراج عن الموقوفين، خصوصاً أن بينهم من يحمل الجنسية الأميركية والكندية". 

ونقلت عقيل عن قاض (لم تسمه) أنه "يجب عدم تجاهل المعطى الخارجي المتمثل في الضغط الفرنسي والأوروبي الذي منح المحقق العدلي جرعة دعم كبيرة"

وكان وفد قضائي فرنسي مؤلف من قاضيين وخبير جنائي قد التقى القاضي البيطار في اجتماعين استمرا لأربع ساعات في 18 يناير/ كانون الثاني. 

وذلك "للاستفسار عن معلومات طلبها القضاء الفرنسي ولم يحصل على أجوبة بشأنها" وفق ما أفاد مسؤول قضائي لوكالة "فرانس برس". 

ويرى الأكاديمي والخبير القانوني أنطوان سعد في تصريح لموقع "الجزيرة نت" "أننا أمام نظام متجذر للإفلات من العقاب تتجاوز قوته كل الاجتهادات والقوانين". 

ويرى أن عودة البيطار ستبقى مقيدة نتيجة الإصرار على تجاهله وعدم التجاوب مع قراراته. 

وإذا أصر على خطواته "فإن التداعيات السياسية ستكون خطيرة، وأحداث الطيونة الشهيرة نهاية عام 2021، دليل على ذلك".

في حين تحدث الكاتب السياسي منير الربيع في صحيفة "المدن" الإلكترونية عن "وجود دوافع خارجية قادت إلى ما تحقق لا سيما في ظل الضغوط الأميركية لإطلاق سراح أحد الموقوفين". 

ويضيف "تحت هذا الضغط وصل التنافس القضائي إلى حد التسابق على من يعمل على إطلاق سراح الموقوفين. 

فكانت النتيجة إرضاء الجميع مقابل الوصول إلى نتيجة أخرى وهي إجهاض التحقيقات وإنهائها، بتقاطع مصالح داخلية وخارجية". 

ويشير الربيع إلى أن "كل الدول التي كانت تشدد على ضرورة استكمال التحقيقات تغاضت عن كل ما جرى لإطلاق سراح الموقوفين". 

وفي حديثه لموقع "عربي بوست" يشدد عويدات على أن التحقيقات ستستمر بعد تصحيح ما أسماه "الخطأ الكبير"، أي عزل البيطار وإحالته للتحقيق والمحاكمة. 

ويقول إنه "كان لدي شعور كامن بأن البيطار لا يتصرف بقرار ذاتي، بل يجد دعماً من قبل جهات محلية (قضاة وسياسيين ونواب ووزراء). والحركة الأخيرة للبيطار أتت بدفع خارجي". 

مع ذلك فإن المناخ العام السائد والتقارير الإعلامية توحي بأن ما حصل هو تمهيد لدفن التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت. 

وفي هذا السياق، نقلت صحيفة "نداء الوطن" عن أحد الوزراء (لم تسمه)، أن "إطلاق سراح الموقوفين في قضية المرفأ، هو استكمال لاتفاق ترسيم الحدود (البحرية مع إسرائيل)، ونصح بعدم التعويل على المجتمع الدولي لاستكمال التحقيق أو حمايته".